التذلل والمسكنة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التذلل والمسكنة، وما يرتبط بها من الإخبات والافتقار والخضوع والخشوع، وحقيقتها، ومنابعها، ودرجاتها، وسر علاقتها بالنفس المطمئنة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الصفات التي ذكرتها من المنازل الضرورية للنفس المطمئنة، ولا يمكن أن تتحقق بطمأنينتها إلا بها..
ذلك أن النفس المطمئنة مثل التربة اللينة السهلة الطيبة، التي يمكنها أن تستقبل البذور الصالحة، لتتحول بعد سقيها إلى حدائق غناء وثمار يانعة.. أما إن كانت صلبة قاسية كالحجارة، فإنها لا يمكن أن تستقبل بذورا، ولا أن تنتج ثمارا.
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: 60]، فهي تشير إلى أن قانون الصدقات واحد؛ فكما أنه لا يعطى من مواهب الدنيا إلى من أظهر فقره وحاجته، فكذلك مواهب الآخرة وكمالاتها لا تعطى إلا لمن أبدى ذلك.
وسر ذلك هو أن (الأشياء كامنة في أضدادها؛ فالعز كامن في الذل، والغنى في الفقر، والقوة في الضعف، والعلم في الجهل) ([1])، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)﴾ [القصص: 5]
وقد اتفق الحكماء على أنه كلما اتصف العبد بأوصافه، كلما من الله تعالى عليه بما هو أهله من الكرم والجود والفضل.. وقد قال بعضهم في ذلك: (تحقّق بأوصافك يمدّك بأوصافه، وتحقّق بذلّك يمدّك بعزّته، وتحقق بعجزك يمدّك بقدرته، وتحقق بضعفك يمدك بحوله وقوّته)
وقال آخر: (من أراد أن يمده الله بالعز الذي لا يفنى فليتحقق بالذل لله والتواضع بين خلقه، فمن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره، ومن أراد أن يمده الله بالقدرة الخارقة للعوائد فليتحقق بعجزه، ويتبرأ من حوله وقوته، ومن أراد أن يمده الله بالقوة على طاعة مولاه ومجاهدة نفسه وهواه فليتحقق بضعفه، ويسند أمره إلى سيده، فبقدر ما تعطي تأخذ، وبقدر ما تتخلق تتحقق، وبقدر ما تتحقق بوصفك يمدك بوصفه) ([2])
وقال آخر مبينا قيمة الانكسار والمذلة لله تعالى، ودورها في التزكية والترقية: (إن الله تعالى لا يكون عندك حتى تنكسر جملة هواك وإراداتك، فإذا انكسرت ولم يثبت فيك شيء ولم يصلح فيك شيء أنشأك الله فجعل فيك إرادة فتريد بتلك الإرادة، فإذا صرت في تلك الإرادة والمنشأة فيك، كسرها الرب تعالى بوجودك فيها، فتكون منكسر القلب أبداً، فهو لا يزال يجدد فيك إرادة ثم يزيلها عند وجودك فيها، هكذا إلى أن يبلغ الكتاب أجله فيحصل اللقاء) ([3])
ولهذا اتفقوا على أن هذه الحالة النفسية التي تعتري السالك أفضل من الشعائر التعبدية نفسها، وقد قال بعضهم في ذلك: (إن إذلال النفس لأحكام الله تعالى أفضل من الصلاة والصيام) ([4])
وقال آخر: (التنافس في العلو من موجبات انقطاع الألفة، كما أن التنافس في الذل من أقوى موجبات الألفة) ([5])
وقال آخر: (ما أعز الله عبداً بعز هو أعز له من أن يدله على ذل نفسه، وما أذل الله عبداً بذل هو أذل له من أن يحجبه عن ذل نفسه) ([6])
بل إنهم يعتبرون المعصية المصحوبة بالتذلل والانكسار لله تعالى خير من الطاعة المصحوبة بالعز والاستكبار، وقد عبر بعضهم عن ذلك، فقال: (معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً)
ولكل هذا ما يدل عليه من النصوص المقدسة، فقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين) ([7])
ويصف الإمام الحسين كيفية دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع يديه إذا ابتهل ودعا كما يستطعم المسكين)([8])
ويروى أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم (ليلة بدر قائماً يصلّي ويبكي ويستعبر ويخشع ويخضع كاستطعام المسكين، ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، ويخرّ ساجداً ويخشع في سجوده ويُكثر التضرّع، فأوحى الله إليه: (قد أنجزنا وعدك.. فعلينا فتوكّل، وعليه فاعتمد، فأنا خير من تُوكِّل عليه، وهو أفضل من اعتُمد عليه)([9])
وحدث بعضهم عن موقف من مواقف الإمام السجاد، فقال: (دخلت الحِجْر في الليل فإذا علي بن الحسين قد دخل فقام يصلي، فصلى ما شاء الله ثم سجد، فقلت: رجلٌ صالحٌ من أهل بيت الخير، لأستمعن إلى دعائه، فسمعته يقول في سجوده: (عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك)، قال طاووس: (فما دعوت بهن في كرب إلا فُرّج عني)([10])
وبناء على هذا وغيره اتفق الحكماء على أن المسكنة شرط من شروط التزكية والترقية، وقد قال بعضهم في تعريفها: (المساكين هم أهل السكون مع الله، والرجوع في كل الأحوال إليه)([11])
وقال آخر: (المسكين هو من لا يرضى بغير مولاه، لا إلى الدنيا يلتفت، ولا بالآخرة يشتغل، ولا بغير مولاه يكتفي.. والمسكين هو الذي أسكنه حاله بباب مقصوده لا يبرح عن سُدَّته، فهو معتكف بقلبه لا يغفل لحظة عن ربه)([12])
وقال آخر: (المسكين هو السر، لقرب انقياده تحت حكم الروح وذلته تحت عزته)([13])
وقال آخر: (المسكين: هو عين المسلم المفوض أمره إلى الله عن غير اختيار منه، بل الكشف أعطاه ذلك، ولهذا ألحقناه بالميت. فالمسكين كالأرض التي جعلها الله لنا ذلولاً، فمن ذل ذلة ذاتية تحت عز كل عزيز كان من كان، فذلك المسكين)([14])
ومن المفردات التي ورد التعبير فيها عن هذا المعنى في القرآن الكريم [الإخبات]، وهي تدل على (الرقة والخشية والخشوع في القلب وطول التفكر وطول الصمت، وهذا من نتائج الإيمان)([15])
كما أنها تدل ـ كما يذكر بعض الحكماء ـ على (التخشع لله بالقلب بدوام الانكسار)([16])
وعلى (استئناس الطبع المستوحش من شواهد الحق للتواضع المخلص من شوائب العلل)([17])
وعلى(استغراق النفس الطبيعية باللذة في محض العبودية.. وأنها اقتطاف الثمر الإيماني على بساط السكينة)([18])
وقد ورد الثناء على أهلها في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الحج: 34، 35]
وقد قال الإمام الصادق تعليقا عليها: (بشر من أطاعني، ثم خافني في طاعته وتواضع لأجلي.. وبشر من اضطرب قلبه شوقاً إلى لقائي.. وبشر من ذكرني بالنـزول في جواري.. وبشر من دمعت عيناه خوفاً لهجري.. وبشرهم أن رحمتي سبقت غضبي)([19])
وهذا يشير إلى أن الإخبات هو السبب في تلك الصفات التي عقبت ذكرهم، فجعلت الوجل يصيب قلوبهم، وجعلتهم من الصابرين والمقيمي الصلاة، والمنفقين في سبيل الله.. وهو علامة على أن المسكنة التي امتلأت بها قلوبهم هي التي تحولت إلى ذلك السلوك العملي الممتلئ بكل أنواع الجمال.
ومن الآيات الواردة في الثناء عليهم قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [هود: 23]، وهي تشير إلى أن الإخبات درجة رفيعة بعد العمل الصالح.. وكأنها تذكر أن التفاعل الظاهري والباطني مع العمل الصالح يكسب صاحبه الإخبات.
وورد في آية أخرى اعتبار الإخبات سببا في الإيمان بالحق والإذعان له، قال تعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: 54]
وهي تشير إلى أن الهداية الإلهية بمراتبها المختلفة لا تحل إلا في القلوب المخبتة، وبقدر إخباتها وتذللها وتواضعها تتنزل المواهب عليها.
ولهذا كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سؤاله الله أن يرزقه الإخبات، ففي الحديث: كان النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو يقول: (ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ اجعلني لك شكّارا، لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أوّاها منيبا، ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حجّتي، وسدّد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري)([20])
وسؤال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرزقه الله الإخبات دليل على درجاته اللامتناهية، مثل كل منازل النفس المطمئنة، ولهذا ذكر الحكماء مجامع درجات الإخبات، والتي عبر عنها بعضهم بقوله: (الإخبات على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن تستغرق العصمة الشهوة، وتستدرك الإرادة الغفلة، ويستهوى الطلب السلوة.. والدرجة الثانية: أن لا ينقص إرادته سبب، ولا يوحش قلبه عارض، ولا تقطع عليه الطريق فتنةٌ.. والدرجة الثالثة: أن يستوي عند المدح والذم، وتدوم لائمته لنفسه، ويعمل عن نقصان الخلق عن درجته)([21])
وهي تدل على الثمار العظيمة التي ينالها المخبت في كل درجة من الدرجات.. وقد عبر الإمام الصادق عن بعضها، فقال: (المخبت: الذي لا يظلم، وإن ظلم لا ينتصر)([22])
وعبر بعض الحكماء عنها، فقال: (المخبت: هو الذي امتلأ قلبه من المحبة والرضا، وقصر طرفه عما دونه.. وهو الذي شغله بمولاه عن كل شيء سواه)([23])
وقال آخر: (المخبتون هم الذين امتلأت قلوبهم من محبة الله، وجلّت عما دونه، كالغريق تشغله نفسه عن كل شيء، كذلك المخبت يشغله حاله عن كل شيء)([24])
هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تنزل هذه المنزلة الرفيعة، والتي تجعل نفسك ذليلة للحق، ساكنة مستسلمة له، مادة يديها إليه بالفقر والفاقة والمسكنة.. فلن تنال المواهب إلا بذلك.
واعلم أنك لن تنال عزتك إلا
بذلتك لربك، ومسكنتك بين يديه.. فالمستكبرون أبعد الخلق عن الله، ولذلك يتربص بهم
الذل من كل النواحي.. بخلاف المتذللين لله، والذين تتنزل عليهم العزة من كل
الجهات، كما قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
جَمِيعًا﴾ [فاطر: 10]
([1]) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 245.
([2]) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 377.
([3]) فتوح الغيب بهامش قلائد الجواهر للتادفي، ص 10.
([4]) أسرار التوحيد في مقامات أبو سعيد، ص 276.
([5]) عبد القادر أحمد عطا، التصوف الإسلامي يبن الأصالة والاقتباس، ص 199.
([6]) الرسالة القشيرية، ص 83.
([7]) رواه ابن المبارك والترمذي.
([8]) أمالي الطوسي ص22.
([9]) كنز الكراجكي ص136.
([10]) بحار الأنوار: 46/76، والإرشاد ص272.
([11]) زيادات حقائق التفسير، ص 21..
([12])تفسير لطائف الإشارات، ج 2 ص 38.
([13]) تفسير روح البيان، ج 10 ص 266.
([14])الفتوحات المكية، ج1 ص 563.
([15])سهل بن عبد الله التستري، تفسير القرآن العظيم، ص 101
([16])تفسير لطائف الإشارات، ج 2 ص 130.
([17])محمد بن وفا الشاذلي، الباعث على الخلاص في أحوال الخواص، ص 4.
([18]) الباعث على الخلاص في أحوال الخواص، ص 4.
([19])أبو عبد الرحمن السلمي، حقائق التفسير، ص 878.
([20]) الترمذي(3551)، وابن ماجة(3830)
([21])منازل السائرين، ص 29، 30.
([22])زيادات حقائق التفسير، ص 99.
([23]) نصوص صوفية غير منشورة، لشقيق البلخي، ابن عطاء الادمي، النفري، ص 98.
([24])زيادات حقائق التفسير، ص 99.