البصيرة النافذة

البصيرة النافذة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن البصيرة النافذة المنورة بنور الإيمان، وحقيقتها، ودرجاتها، وعلاقتها بالنفس المطمئنة، وهل هي موهبة إلهية مجردة، يجبل عليها صاحبها، أم أنها يمكن أن تكتسب، وكيف يكون ذلك؟

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن العدل الإلهي يقتضي أن يتساوى الخلق في توفير الفرص لنيل المواهب؛ مثلما يُوفر الخلق لبعضهم البعض الفرص في الجوائز التي يضعون لها مسابقات خاصة، من فاز بها نالها.. وليس الخلق بأعدل من الله.

ولذلك؛ ينص القرآن الكريم على أن كل شيء فضل إلهي.. حتى الهداية، فهو يقول عنها: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]، وذلك لا يعني أن الله تعالى يفرض هدايته على من لم يردها، ولا أنه يحرم منها من أرادها، وإنما يعني أن الله تعالى قد وفر الهداية، ووفر أسبابها، ولذلك من شاء أن يأخذها أخذها، وهو حين ذلك لا يأخذها بنفسه، وإنما يأخذها من الله، ولولا الله لم يهتد.

وذلك مثلما يحصل في المسابقات التي يقيمها البشر؛ فإنهم مع إقرارها باستحقاق الفائز للجائزة إلا أنهم ينسبونها لمن أعطاها، ويعتبرون ذلك فضلا منه، ويشكرونه.

وهكذا الأمر في كل المواهب الإلهية.. ولذلك أمرنا أن نقول في كل صلاة: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، فالأولى تعني المجاهدة والعمل والكسب، والثانية تعني الفضل الإلهي الذي يتنزل على المستحقين.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن البصيرة من تلك المواهب الإلهية التي تتنزل على من وفر لنفسه الاستعداد لاستقبالها.

وذلك الاستعداد يبدأ بتطهير عين النفس من كل المثالب التي تحول بينها وبين الرؤية السليمة.. فكما أن القذى قد يحول بين البصر والرؤية؛ فكذلك الذنوب والمعاصي والمثالب تملأ عين القلب بما يحول بينه وبين الرؤية النافذة.

ولهذا كان الاستعداد بمثابة توفير الزيت والسراج والفتيلة، وانتظار الشعلة الربانية التي تجعل من ذلك السراج المظلم سراجا مضيئا، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35]

وهذا يدل على أنه كلما كانت الزيت أكثر صفاء، وكان الزجاج أكثر رقة، كلما كان المصباح أكثر إضاءة.. وبذلك اختلفت درجات البصيرة باختلاف درجات الاستعداد.

وبما أن درجات الاستعداد لا نهاية لها.. فكذلك درجات البصيرة لا نهاية لها.. فمن الناس من يصل سراجه إلى حدود الدائرة التي يعيش فيها.. ومنهم من يمتد إلى الآفاق.. ومنهم من يخترق الزمان والمكان.. وبقدر نور سراج القلب بقدر رؤيته للحقائق، وتمثلها فيه.

وقد أشار الحكماء إلى ذلك، فقال أحدهم: (البصيرة على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن تعلم أن الخبر القائم بتمهيد الشريعة يصدر عن عين لا تخاف عواقبها، فترى من حقه أن تلذه يقيناً، وتغضب له غيرةً.. والدرجة الثانية: أن تشهد في هداية الحق وإضلاله إصابة العدل، وفي تلوين أقسامه رعاية البر، وتعاين في جذبه حبل الوصال.. والدرجة الثالثة: بصيرة تفجر المعرفة، وتثبت الإشارة وتنبت الفراسة)([1])

واتفقوا على أن أشرف البصائر هي تلك (المحفوظة من الغفلة والحجاب عن رب الأرباب)([2])

وقد عبروا عن هذه الدرجة بأنها حق البصيرة، وذكروا أن وجه تسميتها بذلك هو (أن البصيرة لما أدركت الحق من أصله، وغابت عن نور الفروع بنور الأصل، سميت حق البصيرة: لما أدركته من الحق، وغابت عن شهود الخلق، وهذا مقام حق اليقين)([3])

أي أن صاحب البصيرة في هذه المرتبة يغيب عن بصره ونفسه وكل شيء، ليرى الحقائق واضحة دقيقة كما هي، من دون أن تتلطخ أو تختلط بنفسه.

ودونها عين البصيرة، وقد عرفوها بأنها (هي نور الإيمان الهادي إلى التحقيق، وثمرته ترك التدبير، والاستسلام لجري المقادير)([4])    

وأنها (رؤية الله تعالى بعين اليقين في مرتبة العبودة: التي هي القيام بأمر الله في مقام الإحسان)([5])

وأنها (نور العلم، وعبادة صاحبها هو المعبر عنها: بالعبودية)([6])

ودونها جميعا ما يطلقون عليه [شعاع البصيرة]، وهو (نور العقل الهادي إلى الإيمان)([7])    

أو هو ما يعبر عنه (بعلم اليقين الذي يشهدك قربه تعالى منك قرب علم وإحاطة، فتستحي منه أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك)([8])

ووجه تسميته بشعاع البصيرة هو (أن صاحبه لما كان يرى وجود الأكوان انطبعت في مرآة بصيرته، فحجبته عن شهود النور من أصله، لكن لما رقت كثافتها وتنورت دلائلها، رأى شعاع النور من ورائها قريباً منه، فأدرك الشعاع، ولم يدرك النور، وهذا هو نور الإيمان، وهو مقام علم اليقين)([9])

وهذه المعاني جميعا تدل على مدى دقة الرؤية، وخلوها من المشوشات، مثلما نفعل في تصنيف المرائي في الدنيا بحسب دقتها ووضوحها وخلوها من الشوائب..

ولهذا فإن البصيرة الكاملة هي البصيرة الدقيقة الواضحة التي لم تختلط بشيء، ولم يدنسها هوى، وهي لذلك تحتاج إلى الاستمداد من المعصوم، والرجوع إليه، وإلا دب إليها من الشوائب ما لم تلتفت إليها.

ولهذا وصف الله تعالى كتابه بكونه بصائر، فقال: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [الأنعام: 104]

وأخبر أن المتقين هم الذين يرجعون إلى بصائر الوحي، حتى يتخلصوا من طائف الشيطان الذي قد يملي على عيون قلوبهم الأوهام في صورة الحقائق، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]

لذلك لا تلتفت ـ أيها المريد الصادق ـ لمن يزعم لك أن الله تعالى كشف له الحقائق، فأبصرها بعينه ما لم تكن تلك الحقائق مستنيرة بنور الوحي.. فليس كل كشف بصحيح، ولا كل من يدعي البصيرة مبصرا، وقد قال تعالى عن الذين يتركون الوحي، ويتبعون الأهواء: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22]

والبصيرة بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ تقتضي أمرين:

أولهما تطهير النفس من الشوائب التي تحول بينها وبين قبول الحق والإذعان له.

وثانيهما الاستسلام التام للوحي، ورؤية الأشياء بعينه.. لا بعين النفس أو الهوى الذي قد يلبس لباس العقل.

ولهذا اعتبرت البصيرة ركنا من أركان العقل السليم، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (قسم العقل على ثلاثة أجزاء، فمن كانت فيه كمل عقله، ومن لم تكن فيه، فلا عقل له: حسن المعرفة بالله عزّ وجل، وحسن الطاعة له، وحسن البصيرة على أمره) ([10])

كما أنها ركن من أركان الدين، وقد ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم إنّي أسالك أن تجعل النور في بصري، والبصيرة في ديني، واليقين في قلبي) ([11])

كما أنها ركن من أركان الدعوة، قال تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أنه مثلما يعتري البصر الآفات التي تمنعه من الرؤية؛ فكذلك البصيرة، قد تبتلى بالآفات التي تطمسها، وتمنع عنها الرؤية السليمة.

ومن تلك الآفات ما عبر عنه الإمام الكاظم في وصيته لهشام بن الحكم في صفة للعقل، فقد قال له: (يا هشام.. احذر هذه الدنيا واحذر أهلها فإنّ الناس فيها على أربعة أصناف: رجلٌ متردّ معانقٌ لهواه.. ومتعلّمٌ متقرّئٌ، كلما ازداد علماً ازداد كبراً، يستعلن بقراءته وعلمه على مَن هو دونه.. وعابدٌ جاهلٌ يستصغر مَن هو دونه في عبادته، يحب أن يُعظَّم ويُوقَّر.. وذو بصيرةٍ عالمٌ عارفٌ بطريق الحقّ يحب القيام به فهو عاجزٌ أو مغلوبٌ، ولا يقدر على القيام بما يعرف، فهو محزونٌ مغمومٌ بذلك، فهو أمثل أهل زمانه وأوجههم عقلا)([12])

وقال الإمام الصادق: (العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، ولا يزيده سرعة السير من الطريق إلا بعدا)([13])

ومن أخطر آفاتها الجهل، ولذلك ورد الحث على إنارتها بنور العلم والفقه، وإلا استنارت بتلك الأنور الوهمية التي أخبر الله تعالى في القرآن الكريم أنها لم تنفع أصحابها أحوج ما كانوا إليها.

وقد قال الإمام علي مشيرا إلى ذلك: (المتعبّد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح، وركعتان من عالم خير من سبعين ركعة من جاهل، لأنّ العالم تأتيه الفتنة فيخرج منها بعلمه، وتأتي الجاهل فتنسفه نسفا، وقليل العمل مع كثير العلم خير من كثير العمل مع قليل العلم والشك والشبهة)([14])

وقال الإمام الكاظم: (تفقّهوا في دين الله، فإنّ الفقه مفتاح البصيرة، وتمام العبادة، والسبب إلى المنازل الرفيعة، والرتب الجليلة في الدين والدنيا، وفضل الفقيه على العابد كفضل الشمس على الكواكب، ومَن لم يتفقّه في دينه لم يرضَ الله له عملا)([15])

وقال الإمام الصادق: (أحسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله، وأنصحوا لأنفسكم، وجاهدوها في طلب معرفة ما لا عذر لكم في جهله، فإنّ لدين الله أركانا لا ينفع من جهلها شدة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته، ولا يضرّ من عرفها، فدان بها حسن اقتصاده، ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون من الله عزّ وجلّ)([16])

وقال: (قطع ظهري اثنان: عالمٌ متهتكٌ، وجاهلٌ متنسّكٌ، هذا يصدّ الناس عن علمه بتهتّكه، وهذا يصدّ الناس عن نسكه بجهله)([17])

وهكذا ذكر الحكماء الكثير من الآفات التي تحول بين البصيرة والرؤية السليمة، فـ (البصيرة كالبصر أدنى شيء يحل فيها يعطل النظر)([18])

ومن تلك الآفات ما عبر عنه بعضهم بقوله: (عمى البصيرة في ثلاث: إرسال الجوارح في معاصي الله، والطمع في خلق الله، والتصنع بطاعة الله)([19])

وقال آخر: (اجتهادك فيما ضمن لك، وتقصيرك فيما طلب منك: دليل على انطماس البصيرة منك)([20])

وقال آخر: (عين البصيرة حجابه: الريون، والشهوات، وملاحظة الأغيار من العالم الطبيعي الكثيف، إلى أمثال هذه الحجب. فتحول بينه وبين إدراك الملكوت أعني: عالم الغيب)([21])

وقال آخر: (كل مريد ادعى فتح بصيرته وعنده بقية طمع فيما بأيدي الناس فهو كاذب، فإن من فتح الله عين بصيرته لا يصح أن يعلق قلبه بمخلوق، لأنه يجد الخلق كلهم فقراء لا يملكون شيئاً مع الله تعالى)([22])

وقال آخر: (إذا أكل المريد شيئاً بشره نفس أعمى الله عين بصيرته)([23])

وقال آخر: (الأعمى حقاً من يرى الله تعالى بالأشياء ولا يرى الأشياء بالله تعالى، والبصير من يكون نظره من ربه إلى المكونات)([24])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن توفر لمصباح قلبك ما يجعله مستعدا لتلقي الأنور الإلهية؛ فهي وحدها من ينفعك في الدنيا في كشف الحقائق، والبعد عن الشبهات والفتن.. وينفعك في الآخرة، فلا ينجو من أهوالها إلا من تزود بالأنوار المبصيرة فيها. ..


([1]) منازل السائرين، ص 79.

([2]) عبد الغني النابلسي، أسرار الشريعة أو الفتح الرباني والفيض الرحماني، ص281.

([3]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ج 1 ص 68، 69.

([4]) أحمد زروق، شرح الحكم العطائية، ص 82.

0

([5]) جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض سيدي أبي العباس التجاني، ج 2 ص 64 (بتصرف).

([6]) المرجع السابق، ج 2 ص 65.

([7]) أحمد زروق، شرح الحكم العطائية، ص 81.

0

([8]) عبد المجيد الشرنوبي، شرح حكم ابن عطاء الله (على هامش كتاب تائية السلوك)، ص 25.

([9]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ج 1 ص 68، 69.

([10]) الخصال، ص102.

([11]) بحار الأنوار، ج73، ص96.

([12]) بحار الأنوار: 1/157، والتحف.

([13]) بحار الأنوار: 1/206، وأمالي الصدوق.

([14]) بحار الأنوار: 1/208، والاختصاص.

([15]) بحار الأنوار: 10/247، والتحف ص410.

([16]) بحار الأنوار: 1/209، وكنز الكراجكي.

([17]) بحار الأنوار: 1/208، والغوالي.

([18]) محمد سعيد الكردي، الجنيد، ص32.

([19]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ج 1 ص 72.

([20]) ابن عطاء الله ونشأة الطريقة الشاذلية، ص 85.

([21]) الفتوحات المكية، ج 2 ص 241.

([22]) الأنوار القدسية في معرفة القواعد الصوفية، ج 1 ص 123.

([23]) الأنوار القدسية في معرفة القواعد الصوفية، ج 1 ص 154.

([24]) أبو عبد الرحمن السلمي، حقائق التفسير، ص 619.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *