الإخلاص والتجرد

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الإخلاص والتجرد، وحقيقتهما، ومنزلتهما، وكيفية التحقق بهما.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الإخلاص والتجرد من المنازل الضرورية للنفس المطمئنة، فلا يمكن أن تتحقق بطمأنينتها، ولا أن تصل إليها ما لم تتخلص من كل الشوائب التي تحول بينها وبين التوجه الصادق إلى ربها.. وما لم تتجرد من كل الدوافع والغايات والأهداف سوى غاية واحده هي ربها.
فالإخلاص هو تخلص الأعمال والأحوال والمواقف وكل ما يبرز من النفس من كل شائبة تحول بينها وبين التوجه الصادق إلى ربها، مثلما يتخلص اللبن من كل الشوائب التي مر عليها، كما قال تعالى:﴿ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)﴾ (النحل)، فخلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ومن كل ما يمكن أن يمتزج به.. وهكذا الإخلاص فإن فرثه ودمه هو الإشراك، فمن ليس مخلصاً فهو مشرك..
وبما أن الشرك منه خفي، ومنه جلي، فهكذا الإخلاص، فمنه خفي وجلي.. ولذلك اختلفت درجات المخلصين بقدر تخلصهم من تلك الشوائب، كما عبر عن ذلك بعض الحكماء، فقال: (تتشعب إرادات الإخلاص إلى: إرادة الإخلاص على التعظيم لأمر الله.. وإرادة الإخلاص لطلب الأجر والثواب.. وإرادة الإخلاص في تصفية العمل عن الشوائب لا يراعي فيه غير ذلك.. وكل هذه الإرادات.. فمن تمسك بواحدة منها، فهو مخلص، ﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 163])([1])
وعبر آخر عن تلك الدرجات، فقال: (إخلاص كل عبد في أعماله على حسب رتبته ومقامه: فأما من كان منهم من الأبرار، فمنتهى درجة إخلاصه: أن تكون أعماله سالمة من الرياء الجلي والخفي، وقصد موافقة أهواء النفس طلبا لما وعد الله تعالى به المخلصين من جزيل الثواب وحسن المآب.. وهذا من التحقيق بمعنى قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: 5].. وحاصل أمره إخراج الخلق عن نظره في أعمال بره مع بقاء رؤيته لنفسه في النسبة إليها والاعتماد عليها.. وأما من كان منهم من المقربين، فقد جاوز هذا إلى عدم رؤيته لنفسه في عمله، فإخلاصه إنما هو في شهود انفراد الحق تعالى بتحريكه وتسكينه من غير أن يرى لنفسه في ذلك حولا ولا قوة، ويعبر عن هذا المقام: بالصدق الذي يصح به مقام الإخلاص.. وهو من التحقق بمعنى قوله تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].. فعمل الأول هو العمل لله تعالى، وعمل الثاني هو العمل بالله)([2])
وعبر آخر عن تلك الدرجات بقوله: (الإخلاص على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: إخراج رؤية العمل من العمل، والخلاص من طلب العوض على العمل، والنـزول عن الرضا بالعمل.. والدرجة الثانية: الخجل من العمل مع بذل المجهود، وتوفير الجهد بالاحتماء من الشهود، ورؤية العمل في نور التوفيق من عين الجود.. والدرجة الثالثة: إخلاص العمل بالخلاص من العمل، تدعه يسير مسير العلم، وتسير أنت مشاهداً للحكم، حراً من رق الرسم)([3])
وقال آخر: (الإخلاص على ثلاثة أقسام هي: إخلاص العام: وهو تصفية العمل من الكدورات.. وإخلاص الخاص: وهو إخراج الخلق من المعاملات.. وإخلاص الأخص: وهو نسيان رؤية الخلق بدوام رؤية القلب إلى عالم الخفيات)([4])
وقسمها آخر إلى أربع درجات، فقال: (درجات الإخلاص أربع: درجة المتقين.. ودرجة المحبين.. ودرجة العارفين.. ودرجة الفانين)([5])
وقال آخر: (الإخلاص يتشعب إلى أربع: إرادة الإخلاص في العمل على التعظيم لله.. إرادة الإخلاص على التعظيم لأمر الله.. وإرادة الإخلاص لطلب الأجر والثواب.. وإرادة الإخلاص في تصفية العمل عن الشوائب أن لا يراعي فيه غير ذلك)([6])
وقسمها آخر إلى خمس درجات، وهي: (إخلاص الدين، للمسلمين.. وإخلاص الإيمان، للمؤمنين.. وإخلاص الأفعال، للمتقين.. وإخلاص الأقوال، للمحبين.. وإخلاص الأخلاق، للعارفين)([7])
وقال آخر: (للاخلاص رتب منها: أن يفعل الطاعة خوفاً من عذاب الله.. ومنها: أن يفعلها رجاءً لثواب الله.. ومنها: أن يفعلها حياءً من الله.. ومنها: أن يفعلها حباً لله.. ومنها: أن يفعلها تعظيماً لله ومهابة وانقياداً وإجابة)([8])
وقال آخر: (الإخلاص يدور على أوجه خمسة: إخلاص الملة من بين جملة الملل.. وإخلاص الدين القيم من الشبع والأهواء والبدع.. وإخلاص العمل من دقائق الآفات وخفايا العلل.. وإخلاص الأقوال من اللغو والباطل والمحال.. وإخلاص الأخلاق باتباع مرضاة الملك الخلاق)([9])
وغيرها من التقسيمات، والتي لا يمكن حدها، ولا ضبطها، ذلك أنها تختلف باختلاف درجات السالكين وأحوالهم.. ولكن يمكن ضبطها في منزلتين: الإخلاص الأعلى، والإخلاص الأدنى.. أو إخلاص المقربين، وإخلاص أهل اليمين، ولكل مقام أحكامه الخاصة به.
أما الأدنى، وهو إخلاص أهل اليمين، فأدنى درجاته ألا يقصد بالعمل غير الله، وإلا كان ذلك شركا ورياء وسمعة، وهو من أعظم مثالب النفس الأمارة، والتي لا يمكن أن تصل النفس إلى درجة الطمأنينة ما لم تتخلص منها.
وأما الأعلى، وهو إخلاص المقربين، فله مراتب مختلفة بحسب درجة القرب، ولذلك اختلفت التعبيرات المعرفة به؛ فقد عرفه بعضهم بقوله: (الإخلاص فقد رؤية الإخلاص، فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص)
وقال آخر: (الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة)
وقال آخر: (الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضاً في الدارين)
وقال آخر: (الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق فقط)
ولذلك، فإن العمل لأجل الظفر بالجنة، أو لأجل النجاة من النار قادح في هذا النوع من الإخلاص.. وهو واضح للعقول، ذلك أنه لو كان لك صديق تحبه وتقربه إليك، فقال لك يوما: أنا لا أحب الجلوس إليك، ولا المكث معك إلا لأجل ذلك الطعام الذي تطعمني إياه، أو لأجل أنك تستضيفني.. أو لأجل أن أستفيد منك شيئا، فإن مثل هذا الشخص لا يستحق ذلك التقريب الذي وضعته فيه.
وهذا ما لاحظه الصديقون.. فقد رأوا أن الذي يعمل لرجاء الجنة وخوف النار مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة، وإلا فهو في طلب حظوظ آجلة.. والمطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط.
ولذلك قيل لبعض الصالحين:(كيف رغبتك في الجنة؟)، فقالت:(الجار ثم الدار)
وهو نفس ما رددته امرأة فرعون عندما قالت:﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ﴾ (التحريم:11) فقدمت الجار قبل الدار.
ولا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة إلا المحبون الذي شغلهم محبوبهم عن كل شغل.. وحال هؤلاء كحال العاشق المستهتر بمعشوقه المستوفي همه بالنظر إلى وجهه والفكر فيه، فإنه في حال الاستغراق غافل عن نفسه لا يحس بما يصيبه في بدنه، لم يبق في قلبه متسع لغير محبوبه حتى يلتفت إليه لا نفسه ولا غير نفسه، كما أشار الله تعالى إلى ذلك عندما ذكر النسوة في قصة يوسف، فقال:﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾ (يوسف)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن النصوص المقدسة تعتبر الإخلاص والتجرد ـ بأدنى درجاته ـ من الواجبات الشرعية، التي لا تختلف عن الصلاة والصيام وغيرها من الشعائر التعبدية.. بل إنه لا يصح أي عمل، ولا يقبل، ما لم يتوفر فيه هذا الشرط.
ومن تلك الآيات التي تجمع بين الأمر بالإخلاص وغيره من العبادات قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)﴾ (الأعراف)
وهكذا اعتبر الله تعالى الإخلاص واجبا في كل العبادات، بل اعتبر الدين الصحيح هو الدين الخالص لله، قال تعالى:﴿ إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3)﴾ (الزمر)
وهكذا يقترن الإخلاص بالدين والعبادة في آيات كثيرة، ليدل على أن الدين لا يشمل فقط تلك الشعائر الظاهرية، وإنما يشمل أيضا تلك المعاني الباطنية، التي لا يصح من دونها، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)﴾ (الزمر)
وقال: ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15)﴾ (الزمر)
وهكذا أخبر الله تعالى أن الإخلاص شريعة إلهية في كل الأديان، قال تعالى: ﴿ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)﴾ (البينة)
وأشار إلى أن سبب وقوع المنافقين في النفاق فقدانهم للإخلاص، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)﴾ (النساء)
بل إن الله تعالى يعتبر فقدان الإخلاص شركا، قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾ (الكهف)
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن أدنى الرياء شرك، وإن أحب العباد إلى الله، عز وجل، الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا، وإن شهدوا لم يعرفوا، أولئك أئمة الهدى مصابيح العلم)([10])
و في الحديث القدسي، قال صلى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه عز وجل: (أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)([11])
وفي حديث قدسي آخر: (تضمّن اللّه لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلّا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنّة، أو أرجعه إلى مسكنه الّذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة)([12])
وقال: (إن أولى الناس أن يُقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأُتي به فعرّفه نِعَمَه فعرفها، قال: (فما عملت فيها ؟). قال: (قاتلتُ فيك حتى استشهدت، قال: (كذبت، ولكنّك قاتلت ليقال: (جريء فقد قيل ذلك، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار.. ورجل تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرّفه نِعَمه فعرفها، قال: (فما عملت فيها ؟). قال: (تعلّمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: (كذبت ولكنك تعلمت ليقال: (عالم، وقرأت القرآن ليقال: (قارئ القرآن فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار)([13])
ولهذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يحذر من الرياء بكل أنواعه، وفي كل المجالات، فقد روي أنه سئل عن رجل غزا يلتمس الأجر والذّكر، ما له؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (لا شيء له)، ثمّ قال: (إنّ اللّه لا يقبل من العمل إلّا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه)([14])
وهكذا حذر من الرياء المرتبط بالعلم، فقال: (من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)([15])
وقال:(من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو ليماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار)([16])
وقال:(أنزل الله في بعض كتابه وأوحى إلى بعض أنبيائه: قل للذين يتفقهون بغير الدين ويتعلمون لغير العلم ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة ويلبسون لباس مسوك([17]) الكباش وقلوبهم قلوب الذئاب ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، إياي يخدعون أو بي يستهزؤون فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران)([18])
وفي أخبار داود عليه السلام أنه مما اوحى الله تعالى إليه:(إن أدنى ما أصنع بالعالم إذا آثر شهوته على محبتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي، يا داود لا تسأل عني عالماً قد أسكرته الدنيا فيصدك عن طريق محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي، يا داود، إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً؛ يا داود من رد إليَّ هارباً كتبته جهبذاً ومن كتبته جهبذاً لم أعذبه أبداً)
ويروى أن رجلاً كان يخدم موسى عليه السلام فجعل يقول: حدّثني موسى صفي الله، حدّثني موسى نجي الله، حدثني موسى كليم الله، حتى أثرى وكثر ماله، ففقده موسى عليه السلام فجعل يسأل عنه ولا يحس له خبراً حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود، فقال له موسى عليه السلام: أتعرف فلاناً؟ قال: نعم. هو هذا الخنزير، فقال موسى عليه السلام: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله حتى أسأله بم أصابه هذا؟ فأوحى الله عز وجل إليه: لو دعوتني بالذي دعاني به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت هذا به؟ لأنه كان يطلب الدنيا بالدين.
ويروى عن عيسى عليه السلام قوله:(كيف يكون من أهل العلم من مسيره إلى آخرته وهو مقبل على طريق دنياه وكيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليخبر به لا ليعمل به؟)
وهكذا وردت الروايات الكثيرة عن أئمة الهدى، والتي تدعو إلى الإخلاص، وتعتبره شرطا لقبول أي عمل، ومنها قول الإمام علي: (الدنيا كلها جهل إلا مواضع العلم، والعلم كلّه حجة إلا ما عمل به، والعمل كله رياء إلا ما كان مخلصاً، والإخلاص على خطر حتى ينظر العبد بما يختم له)([19])
وقال: (طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يُشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم يَنْسَ ذكر الله بما تسمع أذناه، ولم يحزن صدره بما أُعطي غيره)([20])
وقال الإمام: (إن ربكم لرحيم، يشكر القليل، إنّ العبد ليصلي الركعتين يريد بها وجه الله فيدخله الله به الجنة)([21])
وقال: (إنّ المؤمن ليخشع له كل شيء ويهابه كل شيء.. ثم قال: (إذا كان مخلصاً لله أخاف الله منه كل شيء، حتى هوام الأرض وسباعها وطير السماء)([22])
وغيرها من النصوص الكثيرة التي تحذر من الرياء والسمعة والعجب، وكل ما يقدح في الإخلاص.
أما كيفية التحقق بالإخلاص ـ أيها المريد الصادق ـ فقد سبق لي أن ذكرت لك في رسائلي السابقة ما ورد من النصوص المقدسة حول كيفية التخلص من الرياء والعجب والغرور، وغيرها من المثالب.. وهي معينة للتحقق بالدرجات الأولى من الإخلاص.
وأهمها ما أشار إليه الإمام الصادق بقوله: (لا يصير العبد عبداً خالصاً لله عزّ وجلّ حتّى يصير المدح والذمّ عنده سواء، لأنّ الممدوح عند الله عزّ وجلّ لا يصير مذموماً بذمّهم وكذلك المذموم، فلا تفرح بمدح أحد فإنّه لا يزيد في منزلتك عند الله، ولا يغنيك عن المحكوم لك والمقدور عليك.
ولا تحزن أيضاً بذمّ أحدٍ فإنّه لا ينقص عنك به ذرّة، ولا يحطّ عن درجة خيرك شيئاً، واكتفِ بشهادة الله تعالى لك وعليك، قال الله عزّ وجلّ: (﴿وكفى بالله شهيداً ﴾.. ومَن لا يقدر على صرف الذمّ عن نفسه ولا يستطيع على تحقيق المدح له، كيف يُرجى مدحه أو يُخشى ذمّه ؟.. واجعل وجه مدحك وذمّك واحداً، وقف في مقامٍ تغتنم به مدح الله عزّ وجلّ لك ورضاه، فإنّ الخلق خُلقوا من العجين من ماء مهين، فليس لهم إلاّ ما سعوا.).. قال الله عزّ وجلّ: (﴿ وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى ﴾، وقال عزّ وجلّ: (﴿ ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً ﴾)([23])
وعبر بعض الحكماء عن هذا المعنى، فقال: (علامة إخلاصك أنك لا تلتفت إلى حمد الخلق، ولا إلى ذمهم، ولا تطمع فيما في أيديهم، بل تعطي الربوبية حقها، تعمل للمنعم لا للنعمة، للمالك لا للملك، للحق لا للباطل)([24])
وقال آخر: (علامة الإخلاص: أن يغيب عنك الخلق في مشاهدة الحق، وبقاء الأبد في فنائك عنك)([25])
وقال آخر: (علامة الإخلاص ثلاثة: أحدها: أن يخاف المحمدة، لئلا يبطل عمله، ويضيع عمره في الأعمال الرديئة.. والثاني: لا يخاف ملامة الناس، لأن من خاف ملامة الناس ترك كثيرا من أعمال الخير وكلام الحق.. والثالث: لا يحب المعذرة، لأن صاحب المعذرة لا يكون مخلصا)([26])
هذا جوابي على
أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تنزل نفسك هذه المنزلة العظيمة،
وبأعلى درجاتها، حتى تكون من المقربين، فلا ينال القرب إلا من صح منه الإخلاص
والتجرد، ولم يطلب من عوض على عمله سوى ربه.. فمن وجده فقد وجد كل شيء، ومن فقده
فقد كل شيء.
([1]) احمد بن محمد بن عباد، الموارد الجلية في أمور الشاذلية، ص 101.
([2])غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 1 ص 75.
([3]) منازل السائرين، ص 40، 41.
([4])جامع الأصول في الأولياء، ج 1 ص 201.
([5]) إمام السالكين وشيخ المجاهدين أرسلان الدمشقي، ص 57.
([6])جامع الأصول في الأولياء، ج 1 ص 149.
([7])علم القلوب، ص156.
([8]) تحفة العبّاد وادلة الورّاد لكتاب الدر المنتقى المرفوع في اوراد اليوم والليلة والأسبوع، ص 11.
([9])علم القلوب، ص 145، 146.
([10]) رواه أحمد بن منيع.
([11]) رواه مسلم.
([12]) رواه البخاري ومسلم.
([13]) بحار الأنوار: 67/249، ومنية المريد.
([14]) رواه النسائي والبيهقي.
([15]) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وابن ماجة.
([16]) رواه الطبراني في الأوسط، والدارقطني في الأفراد، وسعيد بن منصور.
([17]) مسوك: المسك: الجلد، والجمع مسوك مثل فلس وفلوس.
([18]) أبو سعيد النقاش في معجمه، وابن النجار.
([19]) بحار الأنوار: 67/242، وأمالي الصدوق.
([20])الكافي 2/16.
([21])المحاسن ص253.
([22])جامع الأخبار ص117.
([23])مصباح الشريعة ص31.
([24])الفتح الرباني والفيض الرحماني، ص 190، 191.
0
([25])محمد بن يحيى التادفي الحنبلي، قلائد الجواهر، ص 96.
([26])حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب (بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي)، ج 2 ص 215.