الأنس والشوق

الأنس والشوق

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن تلك الأحوال الناتجة عن المحبة الإلهية، والتي يذكرها السالكون عن أنفسهم، من الأنس بالمحبوب، والشوق إليه، والخوف من القطيعة والهجر، وغير ذلك.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن تلك الأحوال، والتي قد تختلف باختلاف درجات المحبة، علامات على صدقها؛ ذلك أن من مقتضيات الحب الأنس بالمحبوب حال حضوره، والشوق إليه حال غيابه، والخوف من الهجر والقطيعة، والهيبة منهما.. وغير ذلك مما يذكره المحبون عن أنفسهم، مهما اختلفت الجهات التي توجهوا إليها بحبهم.

ذلك أن الحب واحد في الجميع، والفرق بين أنواع المحبة، ليس في ذاتها، وإنما في الجهة التي يتوجه إليها.

وقد أخبر الله تعالى عن شوق يعقوب عليه السلام الشديد لابنه إلى الدرجة التي أصيب فيها بالعمى.. ثم أخبر عن عودة بصره إليه بعد ذلك بمجرد أن شم قميصه.. وكل ذلك دليل على شدة محبته له.. ذلك أنه يستحيل أن يتحقق الشوق أو الأنس أو غيرهما من الأحوال من دون أن تكون هناك محبة تدفع لذلك.

ولذلك ترى الصالحين قد يستشهدون للتعبير عن أحوالهم بما قاله غيرهم من المحبين، لا لكونهم قد وقعوا في ذلك الحب المدنس الذي وقع فيه غيرهم، وإنما لأن الأحوال متشابهة، وإن كان المحبوب مختلفا.

ولو أنك ـ أيها المريد الصادق ـ تأملت تلك المناجاة العظيمة التي كان يرددها الإمام السجاد، والتي يطلق عليها [مناجاة المحبين]، لوجدته يذكر فيها الكثير من تلك المعاني.

فمما ورد فيها قوله: (إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، ومن ذا الذي آنس بقربك، فابتغى عنك حولا، إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودك ومحبتك، وشوقته إلى لقائك، ورضيته بقضائك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك وقلاك وبوأته مقعد الصدق في جوارك، وخصصته بمعرفتك، وأهلته لعبادتك، وهيمته لإرادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك، وفرغت فؤاده لحبك، ورغبته فيما عندك، وألهمته ذكرك، وأوزعته شكرك، وشغلته بطاعتك، وصيرته من صالحي بريتك، واخترته لمناجاتك، وقطعت عنه كل شئ يقطعه عنك) ([1])

بل إنه يتجاوز ذلك كله؛ فيذكر ما يذكره المحبون من التعبير عن أشواقهم، فيقول: (اللهم اجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين، ودهرهم الزفرة والانين، جباههم ساجدة لعظمتك، وعيونهم ساهرة في خدمتك، ودموعهم سائلة من خشيتك، وقلوبهم متعلقة بمحبتك، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك، يا من قدسه لأبصار محبيه رائقة، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة، يا منى قلوب المشتاقين، ويا غاية آمال المحبين، أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك، وأن تجعلك أحب إلي مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائدا إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائدا من عصيانك، وامنن بالنظر إليك علي وانظر بعين الود والعطف إلي، ولا تصرف عني وجهك، واجعلني من أهل الاسعاد والحظوة عندك، يا مجيب يا أرحم الراحمين) ([2])

ولذلك لا تستعجل ـ أيها المريد الصادق ـ بالإنكار على من هذا حاله؛ حتى لا تحرم من تلك الأحوال السنية، بل كن من المشتاقين إليها، الحريصين على تحصيلها، الذين ملأهم الحزن على خلو قلوبهم منها، لعل الله تعالى يحول من ذلك الشوق واقعا تعيشه، فيمتلئ قلبك بتلك المشاعر النبيلة التي عبر عنها بعضهم، فقال:

القلب محترق والدمع مستبق.. والكرب مجتمع والصبر مفترق

كيف القرار على من لا قرار له.. ما جناه الهوى والشّوق والقلق

يا ربّ إن يك شيء فيه لي فرج.. فامنن عليّ به ما دام بي رمق

وقال آخر مخاطبا ربه:

أيها السيد الكريم.. حبك بين الحشا مقيم

يا رافع النوم عن جفونى.. أنت بما مر بى عليم

وقال آخر يذكر الأحوال التي يمر بها المحبون:

عجبت لمن يقول ذكرت إلفى.. وهل أنسى فأذكر ما نسيت؟

أموت إذا ذكرتك ثم أحيا.. ولو لا حسن ظنى ما حييت

فأحيا بالمنى وأموت شوقا.. فكم أحيا عليك! وكم أموت!

شربت الحب كأسا بعد كأس.. فما نفد الشراب وما رويت

وقال آخر: دخلت على بعض المحبين غرفته، وهو يكنس بيته بخرقة ويقول([3]):

و ما رمت الدّخول عليه حتّى.. حللت محلّة العبد الذّليل

و أغضيت الجفون على قذاها.. وصنت النّفس عن قال وقيل

وقال آخر في وصف المحبين وأحوالهم: (عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه قائم بأداء حقوقه ناظرا إليه بقلبه أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فباللّه، وإن نطق فعن اللّه، وإن تحرك فبأمر اللّه، وإن سكن فمع اللّه فهو باللّه وللّه ومع اللّه) ([4])

وقال آخر: صحبت رجلا يعرف بالواله، مدة سنة، فلم أسأله عن مسألة، ثم قلت له يوما: إيش المعرفة التي ليس فوقها معرفة؟ فقال: أن تجد اللّه أقرب إليك من كل شي ء وأن تمحي من سرائرك وظواهرك كل شي ء غيره، فقلت له: بأي شي ء يوصل إلى هذا؟ فقال: بزهدك فيك وبرغبتك فيه.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن تلك الأحوال التي يذكرها هؤلاء عن أنفسهم، لا تعني علو المنزلة أو نزولها، وإنما تعبر عن الحالة النفسية التي يمر بها السالك إلى الله، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال في التفريق بين الأنس والهيبة: (هما حالتان من أحوال السالكين، وذلك أنه حين يتجلى الحق تعالى على قلب العبد بشاهد الجلال يكون نصيبه في ذلك الهيبة، وحين يتجلى على قلبه بشاهد الجمال يكون نصيبه في ذلك الأنس، ليكون أهل الهيبة من جلاله في تعب، وأهل الأنس من جماله في طرب، وفرق بين القلب الذي يحترق من جلاله في نار المحبة، والقلب الذي يضيء من جماله في نور المشاهدة)([5])

وهذا لا يعني تفضيل الأنس على الهيبة، بل لكل منهما محله الخاص، والمرتبط بما ورد في النصوص المقدسة من تقلب القلوب بناء على الخواطر والإلهامات التي تخطر عليها.

الأنس بالله:

ومن ألذ تلك الأحوال ـ أيها المريد الصادق ـ الأنس بالله، ذلك أن النفس تشعر فيه بقربها من ربها، وعدم وجود أي حجاب بينها وبينه، كما عبر الإمام عليّ عن ذلك بقوله في وصف الصالحين: (هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدّعاة إلى دينه)([6]

وهذا يدل على أن الأنس هبة من الله تعالى للذين بذلوا مهجهم في المجاهدات والرياضات التي تؤهل نفوسهم للتقرب من الله تعالى، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:

الأنس بالله لا يحويه بطال.. وليس يدركه بالحول محتال

و الآنسون رجال كلهم نجب.. وكلهم صفوة لله عمال

 ولذلك فإنه فضل إلهي يغمر القلوب بالفرح والسعادة لقرب ربها منها، وشعورها بـ (الاعتماد على الله، والسكون إليه، والاستعانة به)([7]).. و(الفرح بوجدان حضرته، والسكون إلى عنايته، والاستعانة به على وجد معيته)([8])

وهذا الأنس يبدأ من أول مراحل السلوك، ويبقى مع المريد مصاحبا له في كل منزل ينزل فيه.. وقد كتب بعضهم إلى مريد له يقول: (ليكن أنسك بالله، وانقطاعك إليه، فإن لله تعالى عباداً استأنسوا بالله فكانوا في وحدتهم أشد استئناساً من الناس في كثرتهم، وأوحش ما يكون الناس، ما آنس يكونون، وآنس ما يكون الناس أوحش ما يكونون)

وحكي عن آخر أنه رؤي مرة مبتسماً فقيل له: من أين لك هذا الانشراح ؟ فقال: (أعطوني الصباح شراباً يقال له شراب الأنس، فاليوم يوم عيد أسلمت نفسي للابتهاج فيه)

لكن هذا الحال مع شرفه وفضله إلا أنه يحتاج إلى الهيبة والتعظيم حتى لا يتحول إلى الإدلال، أو سوء الأدب مع الله، مثلما وقع من بعضهم حين صاروا يتحدثون عن الله أو معه بما لا يتناسب مع جلاله وعظمته، وذلك دليل على فقدانهم لما يدعونه، كما قال بعضهم معبرا عن ذلك: (لا يكون الأنس باللّه إلا ومعه التعظيم، لأن كل من استأنست به سقط عن قلبك تعظيمه إلا اللّه تعالى فإنك لا تتزايد به أنسا إلا ازددت منه هيبة وتعظيما) ([9])

ولهذا لا تلتفت ـ أيها المريد الصادق ـ لما يروونه في الإسرائيليات من أن بعض صالحي بني إسرائيل راح يقول مخاطبا ربه، طالبا السقيا: (ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك؟ أنقصت عليك عيونك! أم عاندت الرياح عن طاعتك! أم نفد ما عندك! أم اشتد غضبك على المذنبين ألست كنت غفارا قبل خلق الخطائين خلقت الرحمة، وأمرت بالعطف، أم ترينا أنك ممتنع؟ أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة) ([10])

فمثل هذه الأحوال لا يستحسن الاستدلال بها، أو نشرها بين عامة الناس؛ فذلك مما أدى إلى تلك الطامات العظيمة، التي شوهت علم التزكية، وحولته إلى مجال ممتلئ بالدعاوى.

وقد ذكر بعض الحكماء ذلك، منتقدا له، فقال عند حديثه عن ظاهرة [الشطح]: (أحدهما: الدعاوي الطويلة العريضة في العشق مع اللَّه تعالى، والوصال المغني عن الأعمال الظاهرة، حتى ينتهى قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب، والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا كذا وقلنا كذا، ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله: أنا الحق. وبما حكى عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: سبحانى سبحانى، وهذا فن من الكلام عظيم ضرره في العوام، حتى ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوي، فان هذا الكلام يستلذه الطبع، إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال، فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم، ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة، ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل، والعلم حجاب، والجدل عمل النفس. وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق. فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره حتى من نطق بشي ء منه فقتله أفضل في دين اللَّه من إحياء عشرة) ([11])

ومثله تلك الكلمات غير المفهومة التي (لها ظواهر رائقة، وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل، وذلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه، وهذا هو الأكثر. وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره، لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة، ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول، ويحير الأذهان، أو يحمل على أن يفهم منها معانى ما أريدت بها، ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه) ([12])

والأنس بالله مختلف عن هذا تماما، لأنه ينشر في صاحبه كل القيم الرفيعة الناتجة من شعوره بحضور الله، وهو الحضور الذي يملؤه بكل المكارم والآداب، وأولها الأدب مع الله، بالإضافة إلى الأدب مع خلقه، والذي يدعوه إلى احترام أحوالهم ومقاماتهم وعدم خطابهم بما لا يفهمونه أوتطيقه عقولهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما حدّث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلّا كان فتنة عليهم) ([13])

و قال: (كلّموا النّاس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب اللَّه ورسوله؟)([14])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن الأنس يبدأ من أول مراحل السير إلى الله تعالى، ذلك أن الله بفضله وكرمه يجعل السائرين إليه ممتلئين بالأنس، إما بالأوراد التي يرددونها، أو بالمعاني التي تخطر على بالهم حال الذكر، أو بغيرها من المعاني.. لكن الدرجة العظمى هي الأنس بالله.. وهي مرحلة تحتاج الكثير من التزكية.

ولهذا ترى الحكماء يصنفون دوافع الأنس بحسب المرتبة التي يكون فيها السالك، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (الأنس على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: الأنس بالشواهد، وهو استحلاء الذكر، والتغذي بالسماع، والوقوف على الإشارات.. والدرجة الثانية: الأنس بنور الكشف، وهو أنس شاخص عن الأنس الأول، تشوبه صولة الهيمان، ويضربه موج الفناء. وهذا الذي غلب قوماً على عقولهم، وسلب قوماً طاقة الاصطبار، وخل عنهم قيود العلم.. والدرجة الثالثة: أنس اضمحلال في شهود الحضرة، لا يعبَّر عن عينه، ولا يشار إلى حده، ولا يوقف على كنهه)([15])

وقال آخر: (أهل الأنس في الأنس على ثلاثة أحوال: فمنهم: من أنس بالذكر، واستوحش من الغفلة، وأنس بالطاعة، واستوحش من الذنب.. والحال الثاني من الأنس: فهو لعبد قد استأنس بالله، واستوحش مما سواه من العوارض والخواطر المشغلة.. والحال الثالث من الأنس: هو الذهاب عن رؤية الأنس بوجود الهيبة والقرب والتعظيم مع الأنس، كما ذكر عن بعض أهل المعرفة أنه قال: إن لله عباداً أوجدهم من الهيبة له ما أخذهم به عن الأنس بغيره)([16])

الشوق إلى الله:

أما الشوق إلى الله ـ أيها المريد الصادق ـ فهو على خلاف الحال السابق؛ ذلك أن المشتاق يشعر بنوع من الغربة والبعد عن محبوبه، ولذلك يتلهف قلبه للقائه، ويتألم لذلك التلهف.

وهو لا يعني أن حاله أقل من حال من يشعر بالأنس بالله، ذلك أن لكل منهما دوافعه وثماره الخاصة.. فالأنس يدفع صاحبه إلى السكينة والطمأنينة، والشوق يدفعه إلى الحركة والمجاهدة.

ولذلك لا تلتفت لما ذكره بعضهم عندما ذكر له الشوق إلى الله، فقال: (إنما يشتاق إلى الغائب وما غبت عنه منذ وجدته)

ذلك أن المشتاق قد يكون صاحب رتبة أرفع من صاحب الأنس، فـ (شوق المشاهدة واللقاء أشد من شوق البعد والغيبوبة، فيكون في حال الغيبوبة مشتاقا إلى اللقاء، ويكون في حال اللقاء والمشاهدة مشتاقا إلى زوائد ومبار من الحبيب وأفضاله) ([17])

ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاء الله تعالى أن يرزقه الشوق إلى لقائه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، وأعوذ بك من ضراء مضرة، ومن فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهديين) ([18])

وعن الإمام الصادق أنه قال: (المشتاق لا يشتهي طعاماً ولا شراباً، ولا يستطيب رقاداً ولا يأنس حميماً، ولا يأوي داراً، ولا يسكن عمراناً، ولا يلبس ثياباً، ولا يقر قراراً، ويعبد الله ليلاً ونهاراً، راجياً بأن يصل إلى ما يشتاق إليه، ويناجيه بلسان الشوق معبراً عما في سريرته، كما أخبر الله تعالى عن موسى في ميعاد ربه: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84]، وفسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حاله: أنه ما أكل، ولا شرب، ولا نام، ولا اشتهى شيئاً من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوماً شوقاً إلى ربه.. فإذا دخلت ميدان الشوق، فكبر على نفسك ومرادك من الدنيا، وودع جميع المألوفات، واصرفه عن سوى مشوقك ولتبين حياتك وموتك … ومثل المشتاق مثل الغريق: ليس له همة إلا إخلاصه) ([19])

ولذلك كان للشوق دور كبير في التزكية والترقية، بخلاف الأنس الذي يجعل صاحبه ساكنا هادئا مطمئنا راضيا بما هو فيه، وقد قال بعض الحكماء في ذلك: (الشوق نار الله أشعلها في قلوب أوليائه حتى يحرق به ما في قلوبهم من الخواطر والإرادات والعوارض والحاجات، وهو ناشئ عن المحبة، فإذا بلغه العبد استبطأ الموت شوقاً إلى ربه، وأخذ في التواجد والتطاير إلى حضرة قربه)([20])

ولهذا كان الشوق هو الحادي المحرك للسائر إلى الله في كل مراحل سيره، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (شوق العامة: هو إلى زخارف جنانه.. وشوق الخاصة: إلى نيل رضوانه.. وشوق خاصة الخاصة: إلى حضرة عيانه)([21])

وقال آخر: (الشوق على قسمين: شوق العوام: للحور والقصور.. وشوق الخواص: للشهود والحضور)

وقال آخر: (شوق العوام لنعيم الأشباح، وشوق الخواص لنعيم الأرواح)([22])

وقال آخر: (المشتاقون على مراتب: مشتاق يسعى بقدم الملامة على مركب المعذرة في وادي التوبة، مقصده القبول.. وآخر يسعى بقدم الاجتهاد على مركب الافتقار في وادي الرغبة، مقصده النوال.. وثالث يسعى بقدم التهذيب على مركب الخشوع في وادي الإشفاق، مقصده الأمان.. ورابع يسعى بقدم الإخلاص على مركب النجاة في وادي الإنابة، مقصده الإكرام.. وخامس يسعى بقدم المحبة على مركب الشوق في وادي الهيمان، مقصده المحبوب)([23])

وقال آخر: (أهل الشوق في الشوق على ثلاثة أحوال: فمنهم: من اشتاق إلى ما وعد الله تعالى لأوليائه من الثواب والكرامة والفضل والرضوان.. ومنهم: من اشتاق إلى محبوبه من شدة محبته وتبرمه ببقائه شوقاً إلى لقائه.. ومنهم: من شاهد قرب سيده أنه حاضر لا يغيب، فتنعم قلبه بذكره)([24])

وقال آخر: (الشوق وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: شوق العابد إلى الجنة ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الأمل.. والدرجة الثانية: شوق إلى الله تعالى زرعه الحب الذي نبت على حافات المنن، فعلق قلبه بصفاته المقدسة، فاشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وأعلام فضله. وهذا الشوق تفثأه المبار، وتخالجه المسار، ويقاويه الاصطبار.. والدرجة الثالثة: نار أضرمها صفو المحبة فنغَّصت العيش، وسلبت السلوة، ولم يُنَهْنَهُهَا معزٍ دون اللقاء)([25])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تطهر أرض قلبك من كل الآفات التي تحول بينه وبين هذه المشاعر النبيلة.. فهي مشاعر ممتلئة بالسمو والقداسة والجمال، وهي وحدها من يجعلك تعيش السعادة الحقيقية في دنياك وأخراك.. بل هي التي تعجل بإدخالك الجنة في الدنيا قبل الآخرة.. فاسع لأن تكون من أهلها، واحذر من أن تكون كأولئك المخدولين الذين قصروا أنسهم بالتراب، وشوقهم للتراب…

..

….


([1]) الصحيفة السجادية الكاملة: 315

([2]) الصحيفة السجادية الكاملة: 315

([3]) اللمع في التصوف (ص: 263)

([4]) اللمع في التصوف (ص: 263)

([5]) محمد هشام، مدارج السالكين عند الصوفية، ص 548..

([6]) نهج البلاغة، رقم 147.

([7]) اللمع في التصوف، ص 64.

([8]) السيد محمود أبو الفيض المنوفي، معالم الطريق إلى الله، ص 392.

([9]) عوارف المعارف (ص: 570)

([10]) ذكره الغزالي ووافق عليه، لكنا نرى أن ذلك لا يصح، وأنه مقدمة لما حصل بعد ذلك من التهتك والشطح وغيره، انظر: إحياء علوم الدين،14/119.

([11]) إحياء علوم الدين، 1/61.

([12]) إحياء علوم الدين، 1/62.

([13]) رواه العقيلي في الضعفاء وابن السني وأبو نعيم.

([14]) رواه البخاري موقوفا على على ورفعه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم.

([15]) منازل السائرين، ص 69، 70.

([16])اللُّمَع في التصوف، ص 65، 66.

([17]) عوارف المعارف (ص: 568)

([18]) رواه أحمد (30/265) والنسائي (رقم/1305)

([19]) مصباح الشريعة، ص: 196

([20]) رشيد الراشد، الدر المنظم في وجوب محبة السيد الأعظم، ص 74، 75.

([21]) أحمد بن عجيبة، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، ص 12.

([22]) أحمد بن عجيبة، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ج 2 ص 281.

([23]) السهروردي، الرحيق المختوم، ص 163.

([24]) اللمع في التصوف، ص 64.

([25]) منازل السائرين، ص 91، 92.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *