الأدب الرفيع

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الأدب، وحقيقته، ومنزلته، ومجالاته، ومظاهره، وهل هو من شروط النفس المطمئنة، أم أنه من كمالاتها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الأدب في حدوده الدنيا من شروط النفس المطمئنة؛ ذلك أنها لا يمكنها أن تتحقق بطمأنينتها ما لم تتحقق به.
وبما أن طريق النفس المطمئنة لا نهاية لها، فإنه لا نهاية لآدابها.. ذلك أنها في كل مرتبة من المراتب، أو منزلة من المنازل تكتسب آدابا جديدة.
وكيف لا تكتسبها، وهي تتقرب إلى ربها.. وعلامة القرب من الله الأدب معه، ومع خلقه، ولهذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأديب ربه له، فقال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) ([1])
ولهذا، امتلأت المصادر المقدسة بالاهتمام بالآداب وتفاصيلها الدقيقة، وفي كل الشؤون، ذلك أن من السمات الأولى للمسلم كونه صاحب أدب رفيع، وأخلاق عالية، وسمت حسن.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في موعظة لقمان عليه السلام لابنه: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان:18]
ومنها دعوته إلى تعليم الأطفال أصول الآداب الاجتماعية، كآداب الاستئذان، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النور:59]
أو آداب الزيارة كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور:61]
أو آداب المجالس، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة:11]
أو آداب الكلام، كما في قوله تعالى: ﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان:19]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:2]
أو آداب التحية، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً﴾ [النساء:86]
أو آداب المشي، كما في قوله تعالى في موعظة لقمان عليه السلام: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان:18]، وقال تعالى: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾ [الاسراء:37]
أو آداب التعامل مع مختلف أصناف الناس بما يناسبهم، وبحسب منازلهم، فقد يصلح لصنف من الناس ما لا يصلح مع غيره، بل قد يكون نفس التصرف حسنة مع قوم سيئة مع غيرهم، كما نبه إلى ذلك قوله تعالى: ﴿ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ﴾(النور:63)، فقد قيل في تفسيرها: قولوا يا رسول الله، في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم.
وإلى ذلك الإشارة أيضا بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (الحجرات:3)، فقد أثنى الله تعالى على هؤلاء بهذا السلوك أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي مقابل هؤلاء ورد ذم قوم أساءوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل نعتوا بعدم العقل، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ (الحجرات:4)، وهذا يدل على أن الأدب يدل على كمال العقل.
وبناء على هذا دعا الله تعالى إلى التعامل مع كبار السن بحسب ما يقتضيهم حالهم، قال تعالى عن الوالدين، وهو يشمل غيرهما: ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ (الاسراء:23)، فمع أن الوصية بالوالدين عامة ومطلقة في القرآن الكريم إلا أنه خص الكبر بمزيد الإحسان، وضرورة القول الحسن لما تستلزمه هذه الفترة من ذلك.
وهكذا ذكر القرآن الكريم نماذج كثيرة لآداب الصالحين، منها آداب (عباد الرحمن) الذين بدأ الله تعالى وصفهم بقوله:﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾ (الفرقان:63)، والتي يمكن أن يستنبط منها المجامع الكبرى للآداب مع الله تعالى ومع خلقه.
وهكذا ذكر القرآن الكريم آداب المتعلم في قصة موسى والخضر عليهما السلام، وقد استنبط بعض العلماء الكثير من معاني الآداب المرتبطة بها، سأذكرها لك، لا لذاتها، وإنما للتعلم كيف تنهل الحقائق والقيم من القرآن الكريم.
وقد قدم لذلك بقوله: (اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر)، ومما ذكره من الآداب([2]):
1. أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾
2. أنه استأذن في إثبات هذا التبعية، فإنه قال: هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك، وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.
3. أنه قال: ﴿ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ ﴾ وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم.
4. أنه قال: ﴿ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ﴾ وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله، وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزءا من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءا من أجزاء ماله.
5. أن قوله: ﴿ مِمَّا عُلّمْتَ ﴾ اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم.
6. أن قوله: ﴿ رَشَدًا ﴾ طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال.
7. أن قوله: ﴿ تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ ﴾ معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم، ولهذا المعنى قيل: (أنا عبد من تعلمت منه حرفاً)
8. أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير، فإنا إذا قلنا: لا إله إلا الله فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنما أتينا بها لأجل أنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا ثبت هذا فنقول قوله: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾ يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها. وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض.
9. أن قوله: ﴿ ٱتَّبَعَكَ ﴾ يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء.
10. أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل، وأنه هو موسى صاحب التوراة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة، وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد.
11. أنه قال: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن ﴾ فأثبت كونه تبعاً له أولاً ثم طلب ثانياً أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم.
12. أنه قال: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن ﴾ فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم.
وغيرها من الآداب الكثيرة التي يمكنك استنباطها من القرآن الكريم؛ فهو أعظم كتاب في التربية والتأديب.. وعلى قدر تدبره على قدر الترقي في سلم الآداب.
وهكذا ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التفاصيل الكثيرة المبينة لكيفية تنفيذ الآداب القرآنية، فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على البحث عنها، وتنفيذها، كما أمروا بها، حتى تصدق فيك تلك البشارات التي وردت للمتحلين بالآداب الرفيعة، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الهَدْي الصالح، والسمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة)([3])
ومن الأمثلة عنها ما ورد من الحظ على التعامل مع كل شخص بما يليق بحالته النفسية، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من لم يرحم صغيرنا ولم يعرف حق كبيرنا فليس منا)([4])
ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تخصيص بعض الناس بالإكرام، فقال:(إن من إكرام جلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم والإمام العادل وحامل القرآن لا يغلو فيه ولا يجفو عنه)([5])
وقال:(من تعظيم جلال الله عز وجل إكرام ذي الشيبة في الإسلام، وإن من تعظيم جلال الله إكرام الإمام المقسط)([6])
ومن الأمثلة عنها ما ورد في السنة من الآداب المرتبطة بالطريق، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من اقتطع من طريق المسلمين وأفنيتهم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)([7])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (نح الأذى عن طريق المسلمين)([8])، وقال:(أمط الأذى عن الطريق فإنه لك صدقة)([9])
وأخبر عن الجزاء العظيم المعد لمن فعل هذا، فقال: (مر رجل بغصن شجرة على ظهر الطريق فقال: والله لأنحين هذا عن طريق المسلمين لا يؤذيهم؛ فأدخل الجنة)([10])
ويدخل في هذا تنظيف جميع المحال العامة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها)([11])
وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمراعاة العابرين في الطريق، فلا يؤذيهم، أو يمسهم بما يحد من حريتهم، فقال: (إياكم والجلوس على الطرقات، فإن أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)([12])
ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى التحية وآدابها، فقال: (والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)([13])
بل اعتبر إفشاء السلام من دلائل خيرية المسلم، فقد روي أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:أي الإسلام خير؟ قال:(تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)([14])
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمثل كل الآداب، وبأرفع درجاتها، ومن الأمثلة عنها، أنه لم يكن يضحك قهقهة، وإنما كان يكتفي بالابتسامة، وكان كثير التبسم، فالتبسم دليل على النفس المطمئنة الهادئة المستقرة البشوشة، بخلاف العبوس، ولهذا كان يأمر به، ويقول: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقة)([15])
وجعل صلى الله عليه وآله وسلم لقاء الناس بوجه طليق من المعروف، فقال:(لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط)([16])
وغيرها من الآداب الكثيرة التي لا يمكن حصرها.. والتي مثلها أحسن تمثيل، ودعا إليها أحسن دعوة أئمة الهدى الذين ورثوا أخلاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوا إليها، فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على البحث عنها، لتتحقق فيك التبعية الحقيقية.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن الآداب أعظم من أن تنحصر في تلك المظاهر التي ذكرتها لك؛ فهي مجرد أمثلة عن كيفية التعامل مع الخلق، ولذلك فهي تشمل كل المعاملات، وفي كل الشؤون.
ولهذا اتفق الحكماء على اعتبارها شرطا من شروط السلوك، وقد قال بعضهم في ذلك: (من تهاون في الأدب عوقب بترك السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة)([17])
وقال آخر: (ترك الأدب موجب يوجب الطرد، فمن أساء الأدب على البساط رد إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب رد إلى سياسة الدواب)([18])
وقال آخر: (ما دام العبد يحفظ الآداب ويتعاهدها فالشيطان لا يطمع فيه، فإذا ترك الأدب طمع الشيطان في السنن، ثم في الفرائض، ثم في اليقين)([19])
وقال آخر: (الأدب عند أهل الطريق: هو باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو باب الله تعالى)([20])
وقال آخر: (التوحيد موجب يوجب الإيمان، فمن لا إيمان له لا توحيد له.. والإيمان موجب يوجب الشريعة، فمن لا شريعة له لا إيمان له ولا توحيد له.. والشريعة موجب يوجب الأدب، فمن لا أدب له لا شريعة لـه ولا إيمان ولا توحيد)([21])
وقال آخر: (الأدب في العمل علامة قبول العمل)([22])
وقال آخر: (العبد يصل بطاعته إلى الجنة، وبأدبه في طاعته إلى الله تعالى)([23])
واتفقوا على أن الأدب يشمل كل المجالات، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (الأدب على ثلاثة أوجه: أدب الروح، وأدب القلب، وأدب النفس)([24])
وقال آخر: (الأدب على ثلاثة أوجه: آداب في الظاهر وذلك بإقامة الحدود، وآداب في الباطن بالإعراض عن كل مخلوق، وآداب فيهما وذلك بالانحياش للحق والدوام بين يديه على بساط الصدق، وذلك هو جملة الأمر وتفصيله وتفريعه وتأصيله)([25])
وقال آخر: (الأدب أدبان: أدب قول، وأدب فعل.. فمن رفق لنفسه في أدبه بقوله عدم ثواب العمل.. ومن تقرب إلى الله تعالى بأدب فعله، منحه محبة القلوب، وصرف عنه العيوب، وجعله شريكاً في ثواب المتعلمين)([26])
وقال آخر: (الأدب مع الله بتعظيم شعائر الله، ومع الخلق بالصمت والمحبة)([27])
واتفقوا على أنه يختلف باختلاف درجة السالكين؛ فكلما ازداد رقي السالك كلما ازداد أدبه، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك: (الأدب على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: منع الخوف أن يتعدى إلى الإياس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور أن يضاهي الجرأة.. والدرجة الثانية: الخروج من الخوف إلى ميدان القبض، والصعود عن الرجاء إلى ميدان البسط، والترقي عن السرور إلى ميدان المشاهدة.. والدرجة الثالثة: معرفة الأدب، ثم الغنى عن التأدب بتأديب الحق، ثم الخلاص من شهود أعباء الأدب)([28])
وقال آخر: (الأدب على ثلاث أقسام: أدب العام: هو ترك ما لا يعني وإن كان صادقاً.. أدب الخاص: وهو أن يعرف الخير فيحث نفسه عليه، ويعرف الشر فيزجرها عنه.. أدب الأخص: وهو المعرفة في النعم والنقم)([29])
وقال آخر: (الناس في الأدب متفاوتون وهم على ثلاث طبقات: أهل الدنيا، وأهل الدين، وأهل الخصوصية من أهل الدين.. فأما أهل الدنيا: فإن أكثر آدابهم في الفصاحة، والبلاغة، وحفظ العلوم، وأسمار الملوك، وأشعار العرب، ومعرفة الصنايع.. وأما أهل الدين: فإن أكثر آدابهم في رياضة النفوس، وتأديب الجوارح، وطهارة الأسرار، وحفظ الحدود، وترك الشهوات، واجتناب الشبهات، وتجريد الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات.. فأما أدب أهل الخصوصية من أهل الدين: فإن أكثر آدابهم في طهارة القلوب، ومراعاة الأسرار، والوفاء بالعقود بعد العهود، وحفظ الوقت، وقلة الالتفات إلى الخواطر والعوارض والبوادي والطوارق، واستواء السر مع الإعلان، وحسن الأدب في مواقف الطلب ومقامات القرب وأوقات الحضور والقربة والدنو والوصلة)([30])
هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تلتزم
بالآداب، ليرفعك الله إلى مقامات المقربين؛ فلا يصلح للجلوس معهم، أو جوارهم إلا
من عظم أدبه، وحسن سمته، ورق خلقه.. لأن في جوارهم جوار الله، وفي قربهم قرب الله.
([1]) رواه أبو سعد بن السمعاني في أدب الإملاء.
([2]) تفسير الرازي: 21/485.
([3]) رواه أحمد وأبو داود.
([4]) رواه البخاري في الأدب وأبو داود.
([5]) رواه ابن عدي والبيهقي والخرائطي في مكارم الأخلاق.
([6]) رواه ابن الضريس.
([7]) نقلا عن: المدخل: 2/79، وقريب منه في الحلية لأبي نعيم وعبد الرزاق.
([8]) رواه ابن حبان.
([9]) رواه البخاري في الأدب المفرد باب إماطة الأذى رقم (228)
([10]) رواه أحمد ومسلم.
([11]) رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
([12]) رواه أحمد والبيهقي وأبو داود.
([13]) رواه أبو داود.
([14]) رواه البخاري ومسلم.
([15]) رواه الترمذي (1956)
([16]) رواه أحمد والترمذي والحاكم.
([17]) عبد الله اليافعي، نشر المحاسن الغالية، ص226.
([18])الرسالة القشيرية، ص 221.
([19]) ابراهيم حلمي القادري، مدارج الحقيقة في الرابطة عند أهل الطريقة – ص11.
([20])قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي واتباعه الأكابر – ص 291.
([21])اللُّمَع في التصوف، ص 143.
([22])عوارف المعارف (ملحق بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي) ج5 ص 151.
([23])عوارف المعارف (ملحق بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي) ج5 ص 151.
([24])منار السائرين ومطار الطائرين، ص 195.
([25])إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ج 2 ص 189.
([26])اللُّمَع في التصوف، ص 142.
0
([27])محمود حسن الفركاوي القادري، شرح منازل السائرين، ص 71.
([28])منازل السائرين، ص 67، 68.
([29])جامع الأصول في الأولياء، ج1 ص 202.
([30])اللُّمَع في التصوف، ص 142، 143