أداء الحقوق

أداء الحقوق

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحقوق التي ورد الحث على أدائها، وأنواعها، وعلاقتها بالنفس المطمئنة.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن كل رحلة النفس المطمئنة في سيرها التحققي والتخلقي إنما يتم بناء على مراعاتها للحقوق التي كلفت بها.. فهي لا تتحرك من ذاتها لذاتها، وإنما تتحرك وفق ما كلفت به من وظائف تبدأ من علاقتها بربها، وتنتهي بعلاقتها مع الخلق.

ومن زعم أن له نفسا مطمئنة، أو أنه من الحكماء، أو أنه من العارفين بربهم، أو أنه من أولياء الله، ثم فرط في بعض تلك الحقوق، كان مدعيا فيما ادعاه، فيستحيل على صاحب النفس المطمئنة أن يقصر في التكاليف التي أنيطت به، والأمانات التي استودعها الله عنده.

وكمثال على ذلك يقرب لك هذا المعنى ما روي أن ابن عباس كان معتكفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاه رجلٌ، فسلم عليه، ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان! أراك مكتئبا حزينا. قال: نعم يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفلان علي حق ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه، قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ فقال: إن أحببت. قال: فانتعل ابن عباس، ثم خرج من المسجد، فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟ قال: (لا، ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها؛ كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى؛ جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق كل خندق، أبعد مما بين الخافقين) ([1])

فابن عباس كان في تلك اللحظة بين مراعاة حقين: حق الله تعالى الذي أوجبه على نفسه بالاعتكاف، وحق خلقه الذي أوجبه الله عليه.. فلذلك راح يقدم ما أوجبه الله عليه على ما أوجبه على نفسه، وإن كان حقا لله تعالى.

ولذلك؛ فإن الذي يقصر ما كلف به من حقوق على الخلق بحجة التعبد، هو لا يفرط في حق الخلق فقط، بل يفرط في حق الله أيضا.. لأنه لا يمكن لأحد أن يؤدي حق الله، وهو يغض طرفه عن التكاليف التي كلف بها.

ولتفهم سر هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن هذا الكون بني على نظام محكم، ووفق قوانين دقيقة تسري على الجميع، ولو أن جهة ما فرطت في بعض ما كلفت به، لسرى الخلل إلى الجميع.

وليعلمنا الله تعالى ذلك، ويجعلنا ننضبط بالقوانين التي وضعها، والمملوءة بالعدالة والرحمة أخبرنا أنه هو نفسه مع عظمته وتعاليه فرض على نفسه من الحقوق والقوانين ما ألزمها به رحمة منه وفضلا.

وقد ورد ذلك في آيات كثيرة، وبصيغ مختلفة منها قوله تعالى:﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:103)، فالله تعالى أوجب على نفسه ـ حسب هذه الآية ـ رحمة منه وفضلا إنجاء المؤمنين من المهالك.

وأوجب تعالى على نفسه ـ رحمة منه وفضلا ـ نصر المؤمنين، فقال:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم:47)

وأوجب تعالى على نفسه ـ رحمة منه وفضلا ـ إدخال المجاهدين في سبيله الجنة، كما قال تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة:111)

وأوجب تعالى على نفسه ـ رحمة منه وفضلا ـ أن يبعث من يموت، كما قال تعالى:﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (النحل:38)

وقد ورد في السنة الكثير من الأحاديث الدالة على هذا المعنى، ومنها ما أخبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من إيجاب الله تعالى على نفسه وضع ما ارتفع من أمور الدنيا، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(إن حقا على الله تعالى أن لا يرتفع شيء من أمر الدنيا إلا وضعه) ([2])

ومنها وعده بالإعانة والبركة لمن فعل أمورا معينة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ثلاث من فعلهن ثقة بالله واحتسابا كان حقا على الله تعالى أن يعينه، وأن يبارك له: من سعى في فكاك رقبة ثقة بالله واحتسابا كان حقا على الله تعالى أن يعينه، وأن يبارك له، ومن تزوج ثقة بالله واحتسابا كان حقا على الله تعالى أن يعينه، وأن يبارك له، ومن أحيا أرضا ميتة ثقة بالله واحتسابا كان حقا على الله تعالى أن يعينه، وأن يبارك له)([3])

ومنها وعده بإجابة من رفع كفه إليه سائلا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(ما رفع قوم أكفهم إلى الله تعالى يسألونه شيئا إلا كان حقا على الله أن يضع في أيديهم الذي سألوا)([4])

ومنها المغفرة لمن عرف ربه غافرا ومعذبا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من أذنب ذنبا فعلم أن له ربا إن شاء أن يغفر له غفر له، وإن شاء أن يعذبه عذبه؛ كان حقا على الله أن يغفر له)([5])

ومنها وقاية من ذب عن عرض أخيه من النار، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من ذب عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يقيه من النار)([6])

ومنها ما نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من أخاف مؤمنا كان حقا على الله أن لا يؤمنه من افزاع يوم القيامة)([7])

 ومنها ما نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أيما رجل حالت شفاعته دون حد من حدود الله لم يزل في سخط الله حتى ينزع، وأيما رجل شد غضبا على مسلم في خصومة لا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه وعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يدنيه يوم القيامة في النار حتى يأتي بإنفاذ ما قال)([8])

ومنها ما نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من قرأ القرآن كان حقا على الله أن لا يطعمه النار ما لم يغل به ما لم يأكل به ما لم يراء به ما لم يدعه إلى غيره)([9])

ومنها ما نص عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:(من قال حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة)([10])

وغيرها من الأحاديث الكثيرة.. والتي ورد فيها أيضا الجمع بين ذكر حقوق الله على خلقه، وحقوق الخلق على الله، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ:(أتدري ما حق الله على عباده) قال:(الله ورسوله أعلم) قال:(حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)، قال صلى الله عليه وآله وسلم:(أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك)، قال:(الله ورسوله أعلم) قال:(حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار)([11])

ومثلها الأحاديث التي تبين أنواع الحقوق التي أوجبها الله على عباده، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتّين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه، وأدرك النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فآمن به واتّبعه وصدّقه فله أجران، وعبد مملوك أدّى حقّ الله تعالى وحقّ سيّده، فله أجران، ورجل له أمة فغذاها فأحسن غذاءها، ثمّ أدّبها فأحسن أدبها، ثمّ أعتقها وتزوّجها فله أجران) ([12])

وهذا الحديث يصنف الحقوق التي يجب أداؤها إلى صنفين: حقوق الله تعالى بذكره وعبادته والتوجه الصادق له.. وحقوق الخلق بحسب درجاتهم ومراتبهم.. فيعطي كل واحد منهم الحق الذي كلف به من جهته.

ولهذا يرد في القرآن الكريم الجمع بين هذه الحقوق جميعا، كإشارة إلى أنها في مرتبة واحدة، والتقصير في واحد منها تقصير في الجميع.

ومن الأمثلة على ذلك الحقوق الواردة في قوله تعالى ـ وهو يقرن التوجه إليه بالعبودية بالتوجه للمحتاجين بما يسد حاجاتهم ـ:﴿الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)﴾ (البقرة)

وهكذا تقترن الصلاة بالنفقة والزكاة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، كقوله تعالى:﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾ (الأنفال)

وقال:﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ(31)﴾ (إبراهيم)

ومثل ذلك ما ورد في القرآن الكريم من اقتران عبادة الله بحقوق الخلق، وهو كثير جدا، ومن أمثلتها قوله تعالى:﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً﴾ (النساء:36)

وقوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177]

وغيرها من الآيات الكثيرة، ولهذا نرى القرآن الكريم مليئا بذكر الحقوق المرتبطة بجهات مختلفة كثيرة.. والتي لا يمكن أن تتحقق النفس بطمأنينتها، وهي تتجاوزها.

ولهذا؛ فإن الذين اعتزلوا الناس، رغبة عن الدنيا، وتركوا أهليهم، وما كلفوا به من واجبات، لم يقرؤوا القرآن الكريم، ولم يتدبروا فيه، لتوهمهم أن العبادة قاصرة على تلك الشعائر التعبدية، مع أنها جزء منها، والعبودية الحقيقية هي في إعطاء كل ذي حق حقه.

وهكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتحمل مسؤولياتنا من كل الجهات، فقال: (كلكم مسئول عن رعيته، فالامام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ([13])

وغيره من الأحاديث الكثيرة التي تبين المسؤوليات المناطة بكل جهة من الجهات، وكيفية التعامل معها بعيدا عن الهوى والمزاجية.

ومثل ذلك ما ورد عن أئمة الهدى، والذين بلغوا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولا وفعلا، وحموها من تلك التشويهات والدخن الذي دخل إلى الإسلام بعد تأثر بعض المسلمين برهبان النصارى وغيرهم من الأديان.

ومن الأمثلة عنها ما وري عن الإمام الباقر أنه قال: (أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام: (يا آدم.. إني أجمع لك الخير كله في أربع كلمات: واحدة منهنّ لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين الناس: فأمّا التي لي: فتعبدني ولا تشرك بي شيئاً.. وأمّا التي لك: فأجازيك بعملك أحوج ما تكون إليه.. وأمّا التي بيني وبينك: فعليك الدعاء وعليّ الإجابة.. وأما التي فيما بينك وبين الناس: فترضى للناس ما ترضى لنفسك)([14])

وقال الإمام الصادق: (ما ناصح الله عبد مسلم في نفسه، فأعطى الحق منها وأخذ الحق لها إلا أعطي خصلتين: رزقا من الله يقنع به، ورضاً عن الله ينجيه)([15])

وقال لبعض أصحابه: (ألا أخبرك بأشد ما فرض الله على خلقه؟.. إن من أشد ما فرض الله على خلقه إنصافك الناس من نفسك، ومواساتك أخاك المسلم في مالك، وذكر الله كثيرا، أما إني لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ـ وإن كان منه ـ لكن ذكر الله عند ما أحلّ وما حرّم، فإن كان طاعة عمل بها، وإن كان معصية تركها)([16])

وقال: (ثلاثة هم أقرب الخلق إلى الله عز وجل يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة، ورجل قال بالحق فيما له وعليه)([17])

 وغيرها من الروايات الكثيرة التي توضح أنواع الحقوق، وتفاصيل الأحكام المرتبطة بها.. ولعل أجمعها ما روي عن الإمام السجاد من تلك الرسالة العظيمة التي استعرض فيها أكثر من خمسين حقاً، يختص كل حقّ منها بصنف من الناس ويحدد المسؤوليات تجاهه.

وسأذكر لك بعض ما ورد فيها من حقوق([18])، كنموذج لمدى أهمية هذا الجانب في حياتك وسلوكك، ولتعلم أن السلوك إلى الله لا يعني التفريط في الواجبات، أو الانشغال عن الحياة وتركها، بل إن النفس لن تتزكى، ولن تترقى إلا أثناء ممارستها لما وجب عليها من تلك الحقوق.

فمن تلك الحقوق ما أطلق عليه الإمام السجاد حق الله الأكبر، وهو: (فأنّك تعبده لا تشرك به شيئاً، فإذا فعلت ذلك بإخلاصٍ جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحبّ منها)

وأمّا حقّ نفسك عليك: (فأن تستوفيها في طاعة الله، فتؤدّي إلى لسانك حقّه، وإلى سمعك حقّه، وإلى بصرك حقّه، وإلى يدك حقّها، وإلى رجلك حقّها، وإلى بطنك حقّه، وإلى فرجك حقّه، وتستعين بالله على ذلك)

وأمّا حق اللّسان: (فإكرامه عن الخنى، وتعويده الخير، وحمله على الأدب وإجمامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدِّين والدُّنيا، وإعفاؤه عن الفضول الشنعة القليلة الفائدة الّتي لا يؤمن ضررها مع قلّة عائدتها، ويعدُّ شاهد العقل، والدليل عليه وتزيُّن العاقل بعقله، وحسن سيرته في لسانه ولا قوَّة إلاَّ بالله العليَّ العظيم)

وأمّا حق السمع: (فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك، إلاّ لفوهة كريمة تحدث في قلبك خيراً، أو تكسبك خلقاً كريماً.. فإنّه باب الكلام إلى القلب يؤدِّي إليه ضروب المعاني، على ما فيها من خير أو شرّ، ولا قوَّة إلاّ بالله)

وأمّا حق بصرك: (فغضّه عما لا يحلُّ لك، وترك ابتذاله إلاّ لموضع عبرة، تستقبل بها بصراً أو تستفيد بها علماً، فإنَّ البصر باب الاعتبار)

وأمّا حقُّ رجليك: (فأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحلُّ لك، ولا تجعلهما مطيَّتك في الطريق المستخفَّة بأهلها فيها، فإنَّها حاملتك وسالكة بك مسلك الدِّين، والسَّبَق لك ولا قوَّة إلاّ بالله)

وأمّا حقُّ يدك: (فأن لا تبسطها إلى ما لا يحلُّ لك، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل، ومن النّاس بلسان اللاّئمة في العاجل، ولا تقبضها ممّا افترض الله عليها ولكن توقّرها به: (تقبضها عن كثير ممّا لا يحل لها، وتبسطها بكثير ممّا ليس عليها.. فإذا هي قد عقلت وشرفت في العاجل، وجب لها حسن الثواب من الله في الآجل)

وأمّا حقُّ بطنك: (فأن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير، وأن تقتصد له في الحلال، ولا تُخرجه من حدِّ التقوية إلى حدِّ التهوين وذهاب المروَّة، فإنَّ الشبع المنتهي بصاحبه إلى التُّخَم، مكسلة ومثبطة ومقطعة عن كلِّ برّ وكرم، وإنَّ الرأي المنتهي بصاحبه إلى السكر، مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروَّة)

وأمّا حقُّ فرجك: (فحفظه ممّا لا يحلُّ لك، والاستعانة عليه بغضِّ البصر، فإنّه من أعون الأعوان، وضبطه إذا همَّ بالجوع والظمأ، وكثرة ذكر الموت والتهدُّد لنفسك بالله، والتخويف لها به، وبالله العصمة والتأييد، ولا حول ولا قوِّة إلاّ بالله)

وأمّا حقّ الصلاة: (فأن تعلم أنّها وفادةٌ إلى الله، وأنّك قائمٌ بها بين يدي الله، فإذا علمت ذلك، كنت خليقاً أن تقوم فيها مقام الذليل الراغب الراهب الخائف الراجي المسكين المتضرّع، المعظّم مَن قام بين يديه بالسكون والإطراق، وخشوع الأطراف، ولين الجناح، وحُسن المناجاة له في نفسه والطلب إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت بها خطيئتك، واستهلكتها ذنوبك، ولا قوة إلاّ بالله)

وأمّا حقّ الصوم: (فأن تعلم أنّه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار، فإن سكنت أطرافك في حجبتها، رجوت أن تكون محجوباً، وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها، وترفع جنبات الحجاب، فتطّلع إلى ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة، والقوّة الخارجة عن حدّ التقيّة لله، لم يُؤمَن أن تخرق الحجاب وتخرج منه، ولا قوّة إلاّ بالله)

وأمّا حقّ الصدقة: (فأن تعلم أنها ذخرك عند ربّك، ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد، فإذا علمت ذلك كنت بما استودعته سرّاً، أوثق بما استودعته علانية، وكنت جديراً أن تكون أسررت إليه أمراً أعلنته، وكان الأمر بينك وبينه فيها سرّاً على كلّ حالٍ، ولم يستظهر عليه فيما استودعته منها إشهاد الأسماع والأبصار عليه بها، كأنّها أوثق في نفسك وكأنّك لا تثق به في تأدية وديعتك إليك، ثمّ لم تمتنّ بها على أحد لأنّها لك، فإذا امتننت بها، لم تأمن أن يكون بها مثل تهجين حالك منها إلى مَن مننت بها عليه، لأنّ في ذلك دليلاً على أنّك لم ترد نفسك بها، ولو أردت نفسك بها لم تمتنّ بها على أحدٍ، ولا قوّة إلاّ بالله)

وأمّا حقّ سائسك بالعلم: (فالتعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم، بأن تفرغ له عقلك، وتحضره فهمك، وتذكي له قلبك، وتجلي له بصرك بترك اللّذات ونقض الشهوات، وأن تعلم أنّك فيما ألقى رسوله إلى مَن لقيك من أهل الجهل، فلزمك حسن التأدية عنه إليهم، ولا تخنه في تأدية رسالته والقيام بها عنه إذا تقلّدتها، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله)

وأمّا حقّ رعيّتك بالعلم: (فأن تعلم أنّ الله قد جعلك لهم قيّماً فيما آتاك من العلم، وولاّك من خزانة الحكمة، فإن أحسنت فيما ولاّك الله من ذلك، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق، الناصح لمولاه في عبيده، الصابر المحتسب الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه راشداً، وكنت لذلك آملاً معتقداً، وإلاّ كنت له خائناً ولخلقه ظالماً ولسلبه وغيره متعرّضاً)

وغيرها من الحقوق الكثيرة، والتي وردت تفصيلاتها في كتب الفقه والأخلاق، فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على الاهتمام بها، وتعلم علومها؛ فلا يمكنك أن تعمل من دون أن تعلم.. فالعبادة بدون علم مجلبة للشيطان والأهواء.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن أولئك الذين يهونون من هذه المعاني بحجة السلوك والمعرفة بالله، مجرد أدعياء وكذبة.. وكل الحكماء الصادقين يكذبونهم، وقد روي عن بعض الحكماء أنه قال في تعريف الصالحين: (الصالح: هو القائم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فهي صفة جامعة لمعاني الخير) ([19])

وقال آخر: (حقوق في الأوقات يمكن قضاؤها، وحقوق الأوقات لا يمكن قضاؤها، إذ ما من وقت يرد إلا ولله عليك فيه حق جديد وأمر أكيد، فكيف تقضي فيه حق غيره وأنت لم تقض حق الله فيه؟)

وقال آخر: (أهل الحضرة: هم الذين نزولهم بالله وعملهم بالله، لا يرون لأنفسهم حولاً ولا قوة، ولا يطلبون من ربهم جزاء ولا أجرة، إذ محال أن يطلب الجزاء على عمل غيره، هذا في حال نزولهم إلى سماء الحقوق، وأما نزولهم إلى أرض الحظوظ فإنما هو لأداء حقوق العبودية، فليس نزولهم بشهوة النفس ونيل متعتها لتحقق فناءها وموتها، وقد انقلبت حظوظهم حقوقاً) ([20]) ….


([1]) رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي، والحاكم، الترغيب والترهيب للمنذري (2/ 99)

([2]) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي.

([3]) رواه الطبراني في الكبير والأوسط.

([4]) رواه الطبراني.

([5]) رواه الطبراني في الأوسط.

([6]) رواه أحمد والطبراني.

([7]) رواه الطبراني في الأوسط.

([8]) رواه الطبراني في الكبير.

([9]) رواه الديلمي.

([10]) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي والحاكم.

([11]) رواه البخاري ومسلم.

([12]) البخاري، الفتح 1 (97)، ومسلم (154)

([13]) البخاري ومسلم.

([14]) معاني الأخبار ص137، الخصال 1/116، أمالي الصدوق ص362.

([15])الخصال 1/25.

([16])أمالي الطوسي 2/278.

([17])الكافي 2/145.

([18]) بحار الأنوار: 71/21.

([19]) يوسف النبهاني، جواهر البحار في فضائل النبي المختار، ج 2 ص 310.

([20]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ج 2 ص 282.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *