المعرفة اليقينية

المعرفة اليقينية

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المعرفة، والفرق بينها وبين العلم، وعلاقة ذلك بالتزكية والترقية، وعلاقته قبل ذلك بالنفس المطمئنة، وهل هي من منازلها؟

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الفرق بين العلم والمعرفة ـ هو الفرق بين مراتب العلم، والتي اهتم القرآن الكريم بها كثيرا، ومن أمثلتها ما ورد في قوله تعالى في سورة التكاثر: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر: 3، 4]، وهذا يدل على أن العلم الثاني ليس هو نفس العلم الأول، لا في حقيقة المعلوم، وإنما في درجة اليقين به، ولهذا رتب بينهما ترتيبا متراخيا، ليدل على أن الانتقال إلى مرحلة أخرى في إدراك المعلوم تحتاج وقتا طويلا.

ثم فسر ذلك، فقال: ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 5 – 7]، وهذا يدل على أن العلم الأول كان علما ذهنيا مجردا، وأما العلم الثاني، فانتقل من الذهن إلى البصر والبصيرة، بحيث أصبح مكشوفا مشاهدا.

وقد ذكر الله تعالى درجة أخرى للعلم أكبر من تينك الدرجتين، وهي درجة حق اليقين، وقد ذكرها بعد إيراده لأحوال المحتضرين من السابقين وغيرهم، فقال: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: 95]

وهو يشير بذلك إلى أن الجزاء المعد للمؤمنين وغيرهم، باختلاف درجته، سيعيشونه حقيقة في تلك اللحظات قبل الاحتضار.. وهذه هي المعرفة القصوى، وهي المطلوب الأكبر لأصحاب النفوس المطمئنة.

وليتضح لك ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ أذكر لك أن للمعلومات بحسب رسوخها في النفس درجات مختلفة، منها ما يكون مجرد طلاء خفيف في العقل، لا أثر له في الحياة، ولا في السلوك.. ومنها ما يتعمق في العقل، وبقدر تعمقه يكون تأثيره.. ومنها ما يجعل صاحبه منشغلا به عن كل شيء، لتذوقه للمعلوم، وتحققه به، ولا شك في كون هذا هو الأكثر تأثيرا من كل الدرجات السابقة.

ولهذا قال تعالى عن بعض الأعراب: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 14)، أي أن إيمانكم لم يصل بعد إلى الدرجة التي يستحق بها هذا الاسم.. وإنما هو مجرد استسلام للحقائق دون تسليم وإذعان مطلق لها.

ولهذا أيضا نفى الله تعالى تلك الدعاوى التي تدعي الإيمان من دون تحقق بمقتضياته، وأولها تغلغل الإيمان ومعارفه في النفس، كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة:8)، وقال عن غيرهم من المنافقين وأهل الكتاب: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ﴾ (المائدة: 41)

ولهذا؛ فإن المراد من طلب زيادة العلم الذي نص عليه قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]، لا يقصد به زيادة عدد المعلومات فقط، وإنما زيادة اليقين بها، حتى تصبح، وكأنها رأي العين، أو حتى تندمج مع النفس اندماجا كليا.

ولهذا يخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام، أنه مع علمه بإحياء الله تعالى للموتى، كما نص على ذلك قوله تعالى على لسانه في حجاجه مع الملك: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [البقرة: 258]

إلا أنه ـ ومع ذلك اليقين ـ طلب المزيد، بتحويل علمه من علم اليقين إلى عين اليقين، كما قال تعالى حاكيا عنه: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]

وهذا يدل على أن الطمأنية الإيمانية لا تتحقق بمجرد علم اليقين، وإنما تتحقق بعين اليقين.. فبقدر المشاهدة والكشف بقدر ما تتحقق الطمأنينة.

ولصعوبة المسالك المؤدية إليها أمر إبراهيم عليه السلام بأوامر شديدة حتى تتحقق له تلك الرؤية، قال تعالى: ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة: 260]

فمع أنه كان في الإمكان أن يحصل ذلك في محل واحد.. لكن الله تعالى أراد أن يعلم عباده أن تحصيل هذه المرتبة من اليقين يحتاج مجاهدات كثيرة، كما نص على ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]

ومثل ذلك ما حصل لموسى عليه السلام عندما طلب زيادة في العلم؛ فقد أُمر بأن يسير مسافات طويلة، وهناك رأى من الحقائق المرتبطة بالقدر ما لم يكن يعلمه بهذا النوع من العلم.

وقد عبر عن هذا المعنى، وعلاقته بالمعرفة بعض الحكماء، فقال: (فموسى الكليم مع ما له من المقام العظيم في النبوّة ما اقتنع بذلك المقام وما توقف في مقام علمه الشامخ، وبمجرد أن لاقى شخصاً كاملاً قال له بكل تواضع وخضوع: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [الكهف: 66]، وصار ملازماً لخدمته حتى أخذ منه العلوم التي لا بد من أخذها، وإبراهيم لم يقتنع بمقام شامخ الإيمان والعلم الخاص للأنبياء، بل قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: 260]، فأراد أن يرتقي من الإيمان القلبي إلى مقام الاطمئنان الشهودي، وأعظم من ذلك أن الله تبارك وتعالى يأمر نبيّه الخاتم وهو أعرف خلق الله بالكريمة الشريفة ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]) ([1])

ومثل ذلك يقال في الحواريين أصحاب المسيح عليه السلام، والذين طلبوا المائدة من نبيهم، لا شكا في نبوته، ولا طلبا للتحقق منها، وإنما كان طلبهم للخروج من علم اليقين إلى عين اليقين، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: 112، 113]

وقد أخبر الله تعالى أن طلبهم ذلك، لم يكن إلا بقصد تحصيل الطمأنينة، وهي المرتبة الأعلى في المعرفة، والتي لا تكتفي بالرؤية، وإنما بالمعايشة، والتي عبرت عنها الآيات الكريمة بالأكل.. ذلك أن أكلهم من تلك المائدة، يجعلون لا يرون النعيم فقط، وإنما يعيشونه أيضا.

لا تحسب ـ أيها المريد الصادق ـ أني من خلال إيرادي لك لهذه الأمثلة أن المعرفة اليقينية لا تتحقق إلا للأنبياء أو أتباعهم ممن عاصرهم.. فليس الأمر كذلك، ورحمة الله تأبى ذلك.

ولذلك جعل الكثير من السبل المؤدية للمعرفة اليقينية، وأولها الذكر الكثير.. ذلك أنه بكثرة ترديد ألفاظ الذكر مع حضور القلب، بقدر ترسخها في النفس إلى أن تتحول إلى مشاهد مرئية.. بل حتى يغيب الذاكر عن نفسه؛ فيعيش معاني الذكر بكل كيانه، كما عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (لا تترك الذكر لعدم حضور قلبك مع الله فيه، لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره، فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة، ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور، ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع غيبة عن ما سوى المذكور، وما ذلك على الله بعزيز) ([2])

وقد ورد في الحديث ما يشير إلى دور الذكر في تحصيل هذا النوع من المعرفة؛ فقد روي أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شكا له حاله، فقال: (يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي العين؛ فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، ونسينا كثيرا)، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، لكن ساعة وساعة) ([3])

ومثل ذلك الفكر والتأمل، والذي أشار إليه قوله تعالى عن الغرض من إشهاد إبراهيم عليه السلام لملكوت السموات والأرض: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (الأنعام:75)

فالمعرفة اليقينية التي تحققت لإبراهيم عليه السلام كان سببها ـ كما تذكر الآية الكريمة ـ ما رآه من ملكوت السموات والأرض، والقرآن الكريم يعبر عن رؤيته بـ ﴿نُرِي﴾، وفي ذلك إشارة إلى أن رؤية إبراهيم عليه السلام كانت رؤية بالله، لا بنفسه، أي أنه صار باقيا بالله بعد أن فنى عن نفسه.

وقد ذكر الله تعالى بعض ما أريه إبراهيم عليه السلام وما قرأه، فقال: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ (الأنعام:76)، ثم رأى القمر بازعا، ﴿قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ (الأنعام: 77))، ثم رأى الشمس بازغة ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 78)

والكثير قد يتصور أن ما ذكره إبراهيم عليه السلام هو من باب التمثيل والاحتيال لإرشاد قومه، ونحن لا ننكر هذا، ولا ننكر كذلك أن الله تعالى يصف لنا الطريق الذي سلكه إبراهيم عليه السلام للوصول إلى الله، لا إلى اعتقاد وجوده أو تفرده بالألوهية فحسب، وإنما إلى معان أخرى أعمق وأجل.

ولهذا يرتبط اليقين في القرآن الكريم بأصحاب الدرجات العالية من المؤمنين، من أمثال الأنبياء وأئمة الهدى، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة:24)

بل إن الله تعالى يذكر أن الغرض من تنويع الآيات في الكون وتكثيرها تحقيق اليقين، ذلك أنه كلما كثرت المظاهر الدلة على القدرة الإلهية أو غيرها من الصفات كلما كان اليقين بها أعظم، كما قال تعالى عن آيات الله الكونية المتجلية في الأرض: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾ (الذريات:20)

وقال عن خلق الإنسان وعالم الحياة: ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (الجاثية:4)

وقال عن عالم الأفلاك: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ (الدخان:7)

وهكذا الأمر بالنسبة لكتاب الله الناطق، فحقائقه التي هي بصائر البصائر لا يراها ولا يعرفها ولا يهتدي بها غير الموقنين، قال تعالى: ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (الجاثية:20)

ومثل ذلك أحكام الله لا يدرك حكمها، ويستكنه أسرارها، ويعرف وجوه المنافع والمصالح فيها سوى الموقنين، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (المائدة:50)، والآية تشير إلى أن إدراك الحسن المتغلغل في ثنايا الأحكام لا يقلب صفحاته سوى الموقنين.

ومن الطرق المؤدية لهذه المعرفة اليقينية التقوى، والتي أشار إليها قوله تعالى: ﴿واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]، وقال: ﴿إنْ تتَّقوا اللهَ يَجعَلْ لكُمْ فُرقاناً﴾ [الأنفال: 29]. وقال: ﴿ويجعلْ لَكُمْ نُوراً تمشونَ به﴾ [الحديد: 28]

وقد عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين، وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباينة النفس فعلى قدر مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين)

وسر ذلك يعود إلى ما سبق أن ذكرته لك من أن القلب في حقيقته يشبه المرآة التي تتجلى عليها الحقائق، والذنوب والمعاصي تشبه الحجاب والغشاوة التي تغطي المرآة، فتمنع الأشياء من التجلي فيها.. ولذلك كانت التقوى التي تعني الورع عن الذنوب هي الطريق الأقرب لتصفية مرآة القلب، حتى تشاهد الحقائق رأي العين.

ولهذا كله كان اليقين أرفع الدرجات، باعتبار كل تلك السبل من الذكر والفكر والتقوى وغيرها وسائل تؤدي إليه.

وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام الباقر عندما سئل عن الإيمان والإسلام فقال: (إنما هو الإسلام، والإيمان فوقه بدرجة، والتقوى فوق الإيمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، ولم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين، فسئل: (فأي شيء اليقين؟)، قال: (التوكل على الله، والتسليم لله، والرضا بقضاء الله، والتفويض إلى الله)([4])

وما ذكره الإمام الباقر من المقامات والأحوال القلبية يدل على تغلغل الإيمان في القلب إلى الدرجة التي يستسلم فيها استسلاما كليا لله ثقة به، ورضا عنه، ومحبة له، وقد قال بعضهم مبينا سر ارتباط ذلك باليقين: (تفسير اليقين بما ذكر من باب تعريف الشيء بلوازمه وآثاره، فإنه إذا حصل اليقين في النفس بالله سبحانه ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته، وتقديره للأشياء، وتدبيره فيها، ورأفته بالعباد ورحمته يلزمه التوكل عليه في أموره، والاعتماد عليه والوثوق به، وإن توسل بالأسباب تعبدا، والتسليم له في جميع أحكامه، ولخلفائه فيما يصدر عنهم، والرضا بكل ما يقضي عليه على حسب المصالح من النعمة والبلاء والفقر والغنى والعز والذل وغيرها، وتفويض الأمر إليه في دفع شر الأعادي الظاهرة والباطنة، أو ردّ الأمر بالكلية إليه في جميع الأمور، بحيث يرى قدرته مضمحلة في جنب قدرته، إرادته معدومة عند إرادته، كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 29])([5])

ولهذا عرف الإمام الصادق التوكل، بأنه اليقين، فسئل عن حده، فقال: (أن لا تخاف مع الله شيئا)([6])، وذلك لأن خوف غير الله يدل على عدم المعرفة؛ فمن عرف عظمة الله، يستحيل أن يخاف غيره، مثلما حصل للسحرة الذين اكتشفوا ضعف فرعون بمجرد إيمانهم بالله.

ويذكر الإمام الصادق الكثير من الثمار الطيبة التي تنتجها هذه المعرفة اليقينة، فيقول: (من صحة يقين المرء المسلم أن لا يُرضي الناس بسخط الله، ولا يلومهم على ما لم يؤته الله، فإنّ الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، ولو أنّ أحدكم فرّ من رزقه كما يفر من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، ثم قال: (إنّ الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)([7])

ويقول: (اليقين يُوصل العبد إلى كل حال سنيّ، ومقام عجيب)([8])

ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك أنه صلّى بالناس، الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرّا لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كيف أصبحت يا فلان ؟).. قال: (أصبحت يا رسول الله موقنا)، فعجب رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله، وقال له: (إنّ لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟).. فقال: (فإنّ يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعَزَفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب، وحشر الخلايق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان)، ثم قال له: (الزم ما أنت عليه)، فقال الشاب: (ادع الله لي يا رسول الله أن أُرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر)([9])

وهكذا يذكر الإمام علي دور اليقين في تيسير المجاهدة، فيقول في وصف المتقين: (هجم بهم العلم على حقائق الأمور، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملاء الأعلى) ([10])

وبناء على هذا؛ يعتبر اليقين الوسيلة التي تملأ الأعمال الصالحة بالبركة، كما عبر الإمام الصادق عن ذلك بقوله: (إنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير على غير يقين)([11])

وذلك لأنه يجعل من العامل مقبلا على عمله بكل إخلاص وتفان، بخلال الملل الذي يجده من يفتقد اليقين، قال الإمام علي: (قليل مدوم عليه، خير من كثير مملول منه)([12])

ويذكر أن الإيمان الحقيقي، أو التدين الحقيقي لا يذوقه إلا أصحاب اليقين، فيقول: (لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه)([13])

وروي أنه بينما كان يعبّيء الكتائب يوم صفين، ومعاوية مستقبله على فرس له يتأكّل تحته تأكّلا، والإمام علي على فرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المرتجز، وبيده حربة رسول الله، وهو متقلّد سيفه ذا الفقار.. فقال رجل من أصحابه: (احترس يا أمير المؤمنين.. فإنا نخشى أن يغتالك هذا الملعون)، فقال له الإمام: (لئن قلت ذاك إنه غير مأمون على دينه، وإنه لأشقى القاسطين، وألعن الخارجين على الأئمة المهتدين، ولكن كفى بالأجل حارسا، ليس أحد من الناس إلا ومعه ملائكة حفظة يحفظونه، من أن يتردى في بئر، أو يقع عليه حائط، أو يصيبه سوء، فإذا حان أجله خلوا بينه وبين ما يصيبه، وكذلك أنا إذا حان أجلي انبعث أشقاها، فخضّب هذه من هذا ـ وأشار إلى لحيته ورأسه ـ عهدا معهودا ووعداً غير مكذوب)([14])

وروي أن قنبر غلام الإمام علي كان يحبه حبا شديدا، فإذا خرج علي خرج على أثره بالسيف، فرآه ذات ليلة فقال: يا قنبر ما لك؟.. فقال: جئت لأمشي خلفك يا أمير المؤمنين، قال: (ويحك.. أمن أهل السماء تحرسني أو من أهل الأرض؟..فقال: لا، بل من أهل الأرض، فقال: (إنّ أهل الأرض لا يستطيعون لي شيئا إلا بإذن الله من السماء فارجع)([15])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تطلب هذا المقام الرفيع من الإيمان؛ فإن ظفرت به ظفرت بالإكسير الأحمر الذي يرفعك إلى أقصى الدرجات.. فابذل جهدك لتتحقق باليقين، وترفع عن عين قلبك كل ألوان الغشاوة والريب، حتى تعيش الحقائق، ولا تكتفي بالعلم بها، أو رؤيتها من بعيد…


([1]) القرآن الثقل الأكبر، ص 45.

([2]) إيقاظ الهمم شرح متن الحكم، ص 60.

([3]) مسلم 8/ 94 (2750) (12)

([4]) الكافي 2/52.

([5]) بحار الأنوار: 67/138.

([6]) الكافي 2/57.

([7])الكافي 2/57.

([8])مصباح الشريعة ص59.

([9])الكافي 2/53.

([10]) نهج البلاغة، رقم 147

([11]) الكافي 2/57.

([12]) نهج البلاغة، 4/103.

([13]) الكافي 2/57.

([14]) التوحيد ص367.

([15])الكافي 2/59.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *