العلم النافع

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن العلم النافع بشروطه التي فصلتها النصوص المقدسة ليس منزلة من منازل النفس المطمئنة فقط، بل هو شرط من شروط كونها كذلك.. فلا يمكن أن ترتقي النفس إلى تلك المرتبة السنية، وهي بجهلها وغفلتها.
ولا يمكن للنفس اللوامة أن تجاهد صاحبها في قلع مثالب نفسه الأمارة، واستئصالها، ما لم تستعمل سلاح العلم في سبيل ذلك.
بل لا يمكن أن يعرف السالك ربه، ولا الطريق الذي يريد سلوكه، ولا الغاية التي يرنو إليها ما لم يكن دليله في كل ذلك العلم النافع.
ولذلك ورد في النصوص المقدسة بيان فضله العظيم، بل اعتباره من أشرف أنواع العبادة، بل ورد تفضيله على الشعائر التعبدية نفسها.. فالتعرف على الله الذي هو جوهر الدين وأصله وغايته وموضوعه لا يمكن أن يتم من دون العلم، كما قال تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾(محمد:19)
والقرآن يعتبر وظيفة الرسل هي وظيفة المعلمين، كما قال تعالى:﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ (آل عمران:164)
وأخبر أن كل الأنبياء جاءوا أقوامهم بالبينات، وهي العلوم الواضحات التي قويت أدلتها، قال تعالى:﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ﴾ (ابراهيم:9)
بل إن القرآن فوق ذلك كله أخبر عن مزية الإنسان التي أهلته للخلافة في الأرض، وأهلته للتكريم الرباني، فقال يقص قصة بداية خلق الإنسان:﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ (البقرة:31 ـ 33)
وهكذا ورد في السنة المطهرة الحض على العلم والترغيب فيه ورفع مكانة أهله؛ فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بأن العلم نوع من أنواع العبادة، بل هو من أفضلها، فقال: (أفضل العبادة الفقه، وأفضل الدين الورع)([1])
وقال: (قليل العلم خير من كثير العبادة، وكفى بالمرء فقها إذا عبد الله، وكفى بالمرء جهلا إذا أعجب برأيه)([2])
وقال: (ما عبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه)([3])
وقايس بين بعض النوافل وبين طلب العلم، فقال لأبي ذر، وقد رأى حرصه على النوافل: (يا أبا ذر لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابا من العلم عمل به أو لم يعمل به خير لك من أن تصلي ألف ركعة)([4])
وقال: (من تعلّم بابا من العلم ـ عمل به أو لم يعمل ـ كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة تطوعاً)([5])
وقال: (مَن طلب العلم فهو كالصائم نهاره، القائم ليله، وإنّ باباً من العلم يتعلّمه الرجل خيرٌ له من أن يكون له أبو قبيس ذهباً، فأنفقه في سبيل الله)([6])
وقال: (إنّ العبد إذا خرج في طلب العلم ناداه الله عزّ وجلّ: مرحبا بك يا عبدي.. أتدري أي منزلة تطلب ؟.. وأي درجة تروم ؟.. تضاهي ملائكتي المقرّبين لتكون لهم قرينا، لأُبلّغنّك مرادك ولأُوصلنّك بحاجتك)، فقيل للإمام السجاد راوي الحديث: ما معنى مضاهاة ملائكة الله عزّ وجلّ المقرّبين ليكون لهم قريناً ؟.. فقال: أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، فبدأ بنفسه، وثنّى بملائكته، وثلّث بأُولي العلم الذين هم قرناء ملائكته)([7])
بل ورد ما هو أعظم من ذلك كله، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مَن خرج يطلب باباً من علم ليردّ به باطلاً إلى حق أو ضلالةً إلى هدىً، كان عمله ذلك كعبادة متعبّد أربعين عاما)([8])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن تعليم العلم لا يختلف عن الصدقات، فقال: (أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علما ثم يعلمه أخاه المسلم)([9])
وأخبر أن تعلم العلم وتعليمه لا يختلف عن الحج والعمرة، فقال: (من غدا إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلّم خيرا أو ليعلّمه كان له أجر معتمر تام العمرة، ومن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلّم خيرا أو ليعلّمه، فله أجر حاجٍّ تامّ الحجّة)([10])
ويروى أنه ذُكر له رجلان، أحدهما عابد والآخر عالم، فقال: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)، ثم قال: (إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)([11])
وطلب العلم لذلك دليل على خيرية العبد الطالب للعلم، بل دليل على اجتباء الله له، قال: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)([12])، وقال: (يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، و﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28])([13])
وهذا الاجتباء هو الذي يؤهله للجنة ولهذا التكريم الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه، ففي الحديث الذي ورد في فضل طالب العلم، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)([14])
وقال: (ما من رجل تعلم كلمة، أو كلمتين، أو ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا مما فرض الله عز وجل فيتعلمهن ويعلمهن إلا دخل الجنة)([15])
ويخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن بعض صور التكريم التي يقابل بها الملأ الأعلى أهل العلم، فعن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد متكىء على برد له أحمر، فقلت له: يا رسول الله إني جئت أطلب العلم، فقال: (مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها ثم يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب)([16])
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع درجة أهل إلى درجة الأنبياء، فيقول: (من جاءه أجله وهو يطلب العلم لقي الله ولم يكن بينه وبين النبيـين إلا درجة النبوة)([17])
أما الأجور المعدة لأهل العلم، فإنها أضعاف مضاعفة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر)([18])
ومن أكبر ميزات أجر العلم أن أجره غير منقطع، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا مات ابن آدم ٱنقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)([19])
وفي حديث آخر مفصل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)([20])
وقد ورد وصف مفصل لفضل العلم وفضل أهله، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة لانه معالم الحلال والحرام ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة قائمة تقتص آثارهم ويقتدى بفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء)([21])
وهكذا وردت الكثير من الروايات عن أئمة الهدى تحض على العلم، وتبين منزلته الرفيعة من الدين، وأنه لا يمكن للنفس أن تنال مكارمها، أو ترتقي في درجات الكمال المتاحة لها ما لم تتخذه مطية لذلك.
ومن ذلك قول الإمام علي: (كفى بالعلم شرفا أن يدّعيه مَن لا يحسنه، ويفرح إذا نُسب إليه، وكفى بالجهل ذمّاً يبرأ منه من هو فيه)([22])
وقال: (العلم أفضل من المال بسبعة: الأول: أنه ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة.. الثاني: العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص بها.. الثالث: يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه.. الرابع: العلم يدخل في الكفن ويبقى المال.. الخامس: المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن خاصة.. السادس: جميع الناس يحتاجون إلى صاحب العلم في أمر دينهم، ولا يحتاجون إلى صاحب المال.. السابع: العلم يقوّي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه)([23])
وقال: (كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم، فإنه يتّسع)([24])
وقال: (الكلمة من الحكمة يسمعها الرجل، فيقول أو يعمل بها خيرٌ من عبادة سنة)([25])
وقال: (إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به، ثم تلا: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68])([26])
وقال: (قوام هذه الدنيا بأربعة: عالمٌ يستعمل علمه، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلّم، وغنيٌ جوادٌ بمعروفه، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنيا غيره)، ثم قال: (فإذا كتم العالم العلم أهله، وزهد الجاهل في تعلّم ما لابدّ منه، وبخل الغني بمعروفه، وباع الفقير دينه بدنيا غيره، حلّ البلاء وعظم العقاب)([27])
وقال: (الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله، إنّ طلب العلم فريضةٌ على كلّ مسلم، وكم من مؤمن يخرج من منزله في طلب العلم فلا يرجع إلا مغفورا)([28])
وسئل عن الخير ما هو؟.. فقال: (ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكنّ الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك)([29])
وقال الإمام السجاد: (لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج، وخوض اللّجج، إنّ الله تعالى أوحى إلى دانيال: (أنّ أمقت عبيدي إليّ الجاهل المستخفّ بحقّ أهل العلم، التارك للإقتداء بهم، وأنّ أحبّ عبادي عندي التقي الطالب للثواب الجزيل، اللازم للعلماء، التابع للحكماء، القابل عن الحكماء)([30])
وقال الإمام الباقر: (ما من عبدٍ يغدو في طلب العلم أو يروح، إلا خاض الرحمة، وهتفت به الملائكة: مرحباً بزائر الله، وسلك من الجنة مثل ذلك المسلك)([31])
وقال الإمام الصادق: (كمال المؤمن في ثلاث خصال: (تفقّه في دينه، والصبر على النائبة، والتقدير في المعيشة)([32])
وسئل عن قوله تعالى: ﴿فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾ [الأنعام: 149]، فقال: (إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: أكنت عالما ؟.. فإن قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت ؟.. وإن قال: كنت جاهلا، قال له: أفلا تعلّمت حتى تعمل ؟.. فيخصمه وذلك الحجة البالغة)([33])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن هذا الفضل العظيم الذي أتاحه الله لأهل العلم، سواء كانوا من المتعلمين أو المعلمين لا يُقصد به إلا العلم النافع الذي تعود منفعته على صاحبه أو على المجتمع الذي يعيش فيه أو على البشر جميعا.
ولذلك؛ فإن كل العلوم يمكن أن تكون كذلك بشرط أن تتحقق منفعتها الدينية أو الدنيوية.. ولذلك لا تسمع لأولئك الذين يحصرون العلم في الفقه ونحوه، ويعتقدون أن غيرها من العلوم لا علاقة لها بالأجور التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد قال بعض الحكماء يرد على ذلك، ويبين الحكم الشرعي المرتبط بها: (أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغني عنه في قوام أمور الدنيا: كالطب، إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفي وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فان أصول الصناعات أيضا من فروض الكفايات: كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلال البلد من الحجّام تسارع الهلاك إليهم، وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فان الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله، وأعدّ الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك باهماله وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغني عنه) ([34])
بل ذكر أن كل العلوم مرتبطة بأفعال الله، ويمكن من خلالها التعرف على الله، فقال: (ثم هذه العلوم ما عددناها وما لم نعدها ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد) ([35])
ثم ذكر بعض النماذج على ذلك، وهو الطب، فقال: (فمن أفعال الله تعالى الشفاء والمرض، كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾،. وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله، إذ لا معنى للطب إلا معرفة المرض بكماله وعلاماته، ومعرفةُ الشفاء وأسبابه) ([36])
ومنها علم الفلك، فـ (من أفعاله تعالى تقديرُ معرفة الشمس والقمر ومنازِلِهما بِحُسبان، وقد قال الله تعالى: ﴿الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ﴾؛ وقال: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب﴾؛ وقال: ﴿وَخَسَفَ القمر وَجُمِعَ الشمس والقمر﴾؛ وقال: ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾؛ وقال: ﴿والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم﴾.. ولا يعرف حقيقة سَيْر الشمسِ والقمرِ بِحُسبان، وخُسوفِهما وَوُلُوجِ الليلِ في النهار، وكيفيةَ تَكَوُّرِ أحدهما على الآخر، إلا من عرف هيئاتِ تركيبِ السَّماوَات والأرض، وهو علم برأسه) ([37])
وهكذا كل العلوم، يمكن أن تصبح مرايا للتعريف بالله، والدلالة عليه، ولا يمكن للنفس المطمئنة أن تُحجب بأمثال تلك العلوم، وكيف تحجب بها، وهي لم تصل إلى تلك المرتبة السنية إلا بعد أن تجلت في مرآة قلبها الحقائق العظيمة التي دلتها على وحدانية الله، والتي تقتضي أن يكون كل ما في الكون أثر من آثار صفاته وأسمائه الحسنى.. ولذلك كان كل شيء دليلا لها إلى الله، ومذكرا لها بالله.
ومثل ذلك، تلك العلوم التي تستعين بها النفس على التحقق بقيم الدين وأخلاقه الرفيعة؛ فهي من العلوم الضرورية، التي يضر الجهل بها.. ذلك أن الله تعالى لا يُعبد إلا بما شرع، ولا يمكن معرفة الشرع من دون علم.. ولذلك وجب على كل من يُقدم على أي أمر أن يسبقه بمعرفة حكم الله تعالى فيه.
وقد قال الإمام الصادق مشيرا إلى ذلك: (وجدت علم الناس كلهم في أربع: أولها: أن تعرف ربك، والثانية: أن تعرف ما صنع بك، والثالثة: أن تعرف ما أراد منك، والرابعة: أن تعرف ما يخرجك من دينك)([38])
وقيل له: (إنّ لي ابنا يحب أن يسألك عن حلال وحرام لا يسألك عمّا لا يعنيه، فقال: (وهل يسأل الناس عن شيء أفضل من الحلال والحرام ؟)([39])
وقال: (ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام)([40])
قال: (تفقّهوا في دين الله ولا تكونوا أعرابا، فإنه مَن لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة، ولم يزك له عملا)([41])
وقال: (ثلاث هن من علامات المؤمن: (علمه بالله، ومن يحب، ومن يبغض)([42])
وقال: (ما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من موت فقيه)([43])
وقال: (إذا مات المؤمن الفقيه، ثلم في الإسلام ثلمةٌ لا يسدها شيء)([44])
ومثل ذلك تلك العلوم المرتبطة بالحياة، كالسياسة والاقتصاد والإعلام وغيرها.. ذلك أن الجهل بها قد يجعل المؤمن ضحية لشياطين الإنس والجن، يتلاعبون به، وبمواقفه، مثلما حصل لأولئك الذين راحوا يسفكون الدماء المحرمة، ويخربون أوطانهم في سبيل خدمة مشاريع الشياطين، ولو أنهم كانوا يعرفون خدع السياسة والإعلام، لما وقعوا في تلك المصايد.
أما العلوم التي لا منفعة فيها، لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ فهي مجرد لغو، لا يفعله العقلاء، ذلك أن وقتهم أعظم من أن يضيعوه في اللغو.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل، فقال: ما هذا؟.. فقيل: علاّمة، قال: ما العلاّمة؟.. قالوا: (أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية)، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ذلك علمٌ لا يضرّ مَن جهله، ولا ينفع مَن علمه)([45])
وقال الإمام الكاظم: (إنما العلم ثلاثة: آيةٌ محكمةٌ، أو فريضةٌ عادلةٌ، أو سنةٌ قائمةٌ، وما خلاهن هو فضل)([46]).. وهو يقصد بالآية المحكمة كل العلوم النافعة، ذلك أنها جميعا تغترف من بحر القرآن الكريم، وتدل على الله تعالى وصفاته.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لطلب العلم النافع، وابدأ بالأولى فالأولى، فالعمر لا يتسع لجميع العلوم، ولذلك لا تضيعه فيما لا يفيدك، أو يفيد إخوانك؛ فكل علم لا يؤثر في تصحيح السلوك، أو في التعريف بالله، أو في منفعة الخلق، علم قد لا يضر لكنه لا ينفع.
واحذر من تلك الخدع التي ينصبها الشيطان لتضليل العباد، وصرفهم عن العلوم التي تنفعهم في دنياهم وأخراهم، فهو لا يجتهد في شيء، كما يجتهد في هذا الجانب..
وقد ذكر بعض الحكماء تلك الخدع التي لبس بها الشيطان على أهل عصره؛ فراح يحرف العلوم، بتسميتها بغير أسمائها، وضرب مثالا على ذلك بالفقه، الذي ورد الحث عليه في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]، حيث (تصرفوا فيه.. إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقا فيها وأكثر اشتغالا بها يقال هو الأفقه)([47])
بينما اسم الفقه الحقيقي لم يكن يطلق في العصر الأوّل إلا على (علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، وما يحصل به الإنذار والتخويف.. دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له) ([48])
ومما يروى في هذا عن بعضهم أنه سئل عن شيء، فأجاب بخلاف ما كان يظن السائل، فقال له: إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحكيم: (ثكلتك أمّك، وهل رأيت فقيها بعينك! إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكافّ نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم)
ومثل ذلك علم التوحيد، والذي تحول إلى (صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات، وتأليف الالزامات، حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وسمى المتكلمون، العلماء بالتوحيد) ([49])
مع أن علم التوحيد الحقيقي أعظم من أن يختصر في ذلك، لأنه العلم الذي يعرف بالله تعالى، ويعمق به، وبأسمائه الحسنى وصفاته، ومن آثاره في نفس المتعلم له (أن يرى الأمور كلها من اللَّه عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط، فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله.. وهذا مقام شريف إحدى ثمراته التوكل.. ومن ثمراته ترك شكاية الخلق، وترك الغضب عليهم، والرضا والتسليم لحكم اللَّه تعالى) ([50])
وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك أن تجد الكثير من فروع العلم التي نشأت في عصرك، وكلها تدخل في الباب الذي يقال عنه [علم لا ينفع، وجهل لا يضر]
ولهذا لا ترى آثار العلم النافع على المقبلين على أمثال تلك العلوم، لأنهم مثل ذلك المريض الذي تنهش جسمه الأمراض، وبدل أن يبحث عن كيفية علاجها، راح يتعلم كيفية قراءة الفنجان، أو الضرب على الرمل؛ فلا داءه عالجه، ولا العلوم التي تعلمها نفعته.
هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تطلب العلم النافع، وتبحث عن أهله، لتتعلم على أيديهم، مثلما فعل موسى عليه السلام عندما رحل تلك المسافات الطويلة ليلاقي أستاذه..
وإياك أن تضع علمك بيد قوتك الوهمية وعقلك المخادع، فتجعل منه وسيلة لاقتناص الدنيا، بما فيها من جاه ومال وسلطة.. بدل أن تقتنص به المكارم والحقائق التي تسعدك في الدنيا والآخرة.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن أقرب الطرق للعلم النافع تقوى الله تعالى.. فالله تعالى يرزق من اتقاه من العلوم والمعارف ما لا يمكن أن يظفر به في أي جامعة من جامعات الدنيا، فقد قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 282]، فانظر كيف قرن الله التقوى بالعلم؛ فلا يتعلم حقيقة العلم إلا من اتقى الله حق التقوى.
وقد قال بعض الحكماء يشير إلى هذه المدرسة الربانية: (إن المتأهب الطالب
للمزيد، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة والذكر، وفرَّغ المحل
من الفكر، وقعد فقيراً لا شيء له عند باب ربه، حينئذ يمنحه الله تعالى، ويعطيه من
العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده
خضر فقال: ﴿عبْداً مِنْ عِبادِنا آتيناهُ رحمَةً مِنْ عندِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ
لَدُنّا علماً﴾ [الكهف: 65]. وقال تعالى: ﴿واتَّقوا اللهَ
ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]. قال تعالى: ﴿إنْ تتَّقوا اللهَ يَجعَلْ
لكُمْ فُرقاناً﴾ [الأنفال: 29]. وقال: ﴿ويجعلْ لَكُمْ نُوراً تمشونَ به﴾ [الحديد:
28].. فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلَّت هيبته وعظمت منته، من
العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة، بل كل صاحب نظر وبرهان، ليست له هذه
الحالة) ([51])..
([1]) رواه الطبراني في معاجيمه الثلاثة.
([2]) الطبراني في الأوسط.
([3]) الدارقطني والبيهقي.
([4]) ابن ماجه.
([5]) بحار الأنوار: 1/180، وروضة الواعظين.
([6]) بحار الأنوار: 1/184، ومنية المريد.
([7]) بحار الأنوار: 1/180، وأمالي الطوسي.
([8]) بحار الأنوار: 1/182، وأمالي الطوسي.
([9]) رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
([10]) بحار الأنوار: 1/185، ومنية المريد.
([11]) الترمذي.
([12]) البخاري ومسلم وابن ماجه.
([13]) الطبراني في الكبير.
([14]) أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي.
([15]) أبو نعيم.
([16]) أحمد والطبراني، وابن حبان في صحيحه، والحاكم.
([17]) الطبراني في الأوسط.
([18]) الطبراني في الكبير.
([19]) مسلم وغيره.
([20]) ابن ماجه والبيهقي، وابن خزيمة في صحيحه.
([21]) رواه ابن عبد البر في كتاب العلم.
([22]) بحار الأنوار: 1/185، ومنية المريد.
([23]) بحار الأنوار: 1/185، ومنية المريد.
([24]) بحار الأنوار: 1/183، والنهج.
([25]) بحار الأنوار: 1/183.
([26]) بحار الأنوار: 1/183، والنهج.
([27]) بحار الأنوار: 1/178، وتفسير الإمام العسكري.
([28]) بحار الأنوار: 1/179، وروضة الواعظين.
([29]) بحار الأنوار: 1/183، والنهج.
([30]) بحار الأنوار: 1/186، ومنية المريد.
([31]) بحار الأنوار: 1/174.
([32]) بحار الأنوار: 1/182، وأمالي الطوسي.
([33]) بحار الأنوار: 1/ 178، ومجالس المفيد.
([34]) إحياء علوم الدين، 1/28.
([35]) جواهر القرآن (ص: 45)
([36]) جواهر القرآن (ص: 46)
([37]) جواهر القرآن (ص: 47)
([38]) بحار الأنوار: 1/212، ومعاني الأخبار، الخصال.
([39]) بحار الأنوار: 1/ 213، والعلل.
([40]) بحار الأنوار: 1/213، والمحاسن.
([41]) بحار الأنوار: 1/ 214، والمحاسن.
([42]) بحار الأنوار: 1/215، والمحاسن.
([43]) بحار الأنوار: 1/220، ومنية المريد.
([44]) بحار الأنوار: 1/220، ومنية المريد.
([45]) بحار الأنوار: 1/211، وأمالي الصدوق.
([46]) بحار الأنوار: 1/211، والغوالي.
([47]) إحياء علوم الدين، 1/54.
([48]) إحياء علوم الدين، 1/54.
([49]) إحياء علوم الدين، 1/56.
([50]) إحياء علوم الدين، 1/56.
([51]) الفتوحات المكية، (1/ 280)