الحكمة والاتزان

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن دور العقل في عالم النفس المطمئنة، وعن موقف أولئك الذين يذمونه، ويعتبرونه حجابا، ويعتبرون الكمال في عزله.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن ذلك الذم الذي قرع سمعك عن العقل، لا يقصد به تلك النعمة الإلهية العظمى التي أكرم الله تعالى بها نفوس عباده، حتى يميزوا بين الحق والباطل، والخير والشر، وليتحكموا في نزواتهم وشهواتهم وغرائزهم؛ فلا تتحرك إلا بما تقتضيه قيم الفطرة السليمة.
وإنما يقصدون به تلك الغريزة الشيطانية التي تلبس لباس العقل، والعقل منها براء.. وقد أشار إليها الإمام الصادق عندما سُئل ما العقل، فقال: «ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان» فقيل له: فالذي كان في معاوية، فقال: «تلك النكراء وتلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل»([1])
والحكماء يسمونها [القوة الوهمية]، ويعرفونها بأن (القوّة التي من شأنها استنباط وجوه المكر والحيل، والتوصّل إلى الأغراض بالتلبيس والخدع، ومن أي طريق كان محللًا أو محرّماً، جائزاً أو غير جائز)([2])
ويذكرون أنها إذا صارت في خدمة القوّة الغضبية أصبح الإنسان جبّاراً في الأرض، فيطغى، ويعيث فيها فساداً، ويتنكّر لكلّ خير، ويتنكّب كلّ شرّ.
وإذا صارت في خدمة القوّة الشهوية فإنّها تهيئ لها كلّ وسيلة توصلها إلى غرضها، وتبحث لها عن كل طريق حتّى ما لا يخطر على بال الشيطان نفسه من أجل الوصول إلى تلك الشهوة.
وأمّا إذا صارت في خدمة القوّة العاقلة الحقيقية؛ فإنّها تبحث لها عن طرق الوصول إلى القرب الإلهي وسبل الرقي في درجات الكمال.
وهم يذمونها، لا لأجل دورها الأخير في خدمة العقل، وإنما لأدوارها في خدمة الغضب والشهوة، ولسيطرتها على أكثر النفوس.. بل بسببها تصبح النفوس أمارة.
والأخطر من ذلك كله هو جدلها وخصومتها وبحثها عن كل الحيل التي تصرف النفس عن بارئها، ولو بتغطية الحقائق والتلاعب بها، باسم الفلسفة أو الفكر أو العلم أو البراهين.. وغيرها من الأسماء التي تحتال بها لحجب الحقائق.
ومثل ذلك مكرها وحيلها في التلاعب بالقيم الروحية والأخلاقية، حيث تقلب الموازين، وتحول الخير شرا والشر خيرا، والمعروف منكرا، والمنكر معروفا.
وللأسف ـ أيها المريد الصادق ـ فإن هذه الأوصاف للقوة الوهمية هي ما يطلق عليه أكثر الناس قوة عقلية.. فيتوهمون أن كل تلك المدارس المادية والإلحادية والوجودية، والتي تدعو إلى الصراع مع كل شيء.. مدارس عقلية تنطلق من العقل، وإليه تعود.. ولذلك يعظمون سدنتها، مع أنهم لا يتلقون تلك المفاهيم والقيم إلا من وحي الشيطان، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112]
أما العقل الحقيقي ـ أيها المريد الصادق ـ فما كان لأحد من الناس أن يذمه، وكيف يذمه، وهو حجة الله تعالى على خلقه؟
وكيف يذمه، وقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على فضله، وأنه لولاه ما عرف الله، ولا سلك السائرون سبيلهم إليه؟
وكيف يذمه، ولولاه ما لجمت النفس الأمارة، وما استطاع الإنسان التحكم في غضبه وشهواته وأهوائه؛ فمعارف الإيمان هي الوحيدة التي تقمع سطوة تلك الغرائز، وتوجهها التوجيه الصحيح؟
وقد قال بعض الحكماء يرد على أولئك الذين لم يعطوه حقه من التشريف والفضل، متوهمين تناقضه مع الدين: (العقل منبع العلم ومطلعه وأساسه، والعلم يجرى منه مجرى الثمرة من الشجرة، والنور من الشمس، والرؤية من العين، فكيف لا يشرف ما هو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة؟ أو كيف يستراب فيه والبهيمة مع قصور تمييزها تحتشم العقل، حتى إن أعظم البهائم بدنا وأشدها ضراوة وأقواها سطوة إذا رأى صورة الإنسان احتشمه وهابه، لشعوره باستيلائه عليه، لما خص به من إدراك الحيل) ([3])
ولهذا ترى القرآن الكريم يرجع كل المثالب التي تقع فيها النفوس الأمارة إلى عدم استخدامها للعقل، أو سوء استخدامها له، أو استخدامها للقوة الوهمية بدله.
ومن ذلك قوله تعالى في وصف الكفار المعرضين عن الحق مع وضوح أدلته: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:171)
ومثل ذلك قوله في وصف من يسخرون من القيم الروحية:﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ (المائدة:58)
ومثل ذلك قوله في الذين يسيرون في الأرض، أو يدرسون التاريخ، ثم لا يعتبرون:﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج:46)
ولهذا؛ فإن الوصف المناسب لهؤلاء هو كونهم دوابا، لأن الفرق بينهم وبينها في العقل، وما داموا لم يستخدموها؛ فقد عادوا إلى طورهم البهيمي، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ (لأنفال:22)
وفي المقابل يثني الله تعالى على من استعملوا عقولهم في رحلة التعرف على ربهم.. فيسميهم ذوي الألباب؛ فيقول:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران:190)، ويقول:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:21)
وهكذا الذين يعتبرون بالتاريخ وعبره، ويستفيدون منها، قال تعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف:111)
وهكذا الذين يسلمون للبراهين والحجج الدالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى:﴿ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الرعد:19)
وهكذا الذين تتحرك جوارحهم لكل الأعمال الصالحة والقيم النبيلة بناء على تأثير عقولهم فيهم، قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:9)
ولذلك؛ فإن الفرق بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة يكمن في نوع العقل المتحكم فيها؛ فأما الأمارة، فتتحكم فيها تلك القوى الوهمية التي تزين لها الغرائز التي تتسلط عليها، وأما المطمئنة؛ فيتحكم فيها العقل المجرد، المسدد بنور الوحي، والمؤيد بالإلهام الرباني.
ولذلك كان كمال العقل دليلا على كمال الدين.. وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يا أيّها النّاس اعقلوا عن ربّكم، وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه، واعلموا أنّه ينجدكم عند ربكم، واعلموا أنّ العاقل من أطاع الله وإن كان دميم المنظر حقير الخطر دنىّ المنزلة رثّ الهيئة، وإنّ الجاهل من عصى الله تعالى وإن كان جميل المنظر عظيم الخطر شريف المنزلة حسن الهيئة فصيحا نطوقا، فالقردة والخنازير أعقل عند الله تعالى ممن عصاه) ([4])
وقال: (ما قسّم الله للعباد شيئا أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإفطار العاقل أفضل من صوم الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله رسولا ولا نبيا حتى يستكمل العقل، ويكون عقله أفضل من عقول جميع أمته، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدّى العاقل فرائض الله حتى عقل منه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، إنّ العقلاء هم أولوا الألباب الذين قال الله عزّ وجلّ: (﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾)([5])
وقال: (إذا بلغكم عن رجل حُسن حاله، فانظروا في حُسن عقله، فإنما يجازى بعقله)([6])
وقال: (لكل شيءٍ آلةٌ وعدةٌ، وآلةُ المؤمن وعدّته العقل.. ولكل شيءٍ مطيّةٌ، ومطيةُ المرء العقل.. ولكل شيءٍ غايةٌ، وغايةُ العبادة العقل.. ولكل قومٍ راعٍ، وراعي العابدين العقل.. ولكل تاجرٍ بضاعةٌ، وبضاعة المجتهدين العقل.. ولكل خرابٍ عمارةٌ، وعمارةُ الآخرة العقل.. ولكل سفرٍ فسطاطٌ يلجأون إليه، وفسطاطُ المسلمين العقل)([7])
وقال: (لكلّ شي ء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته، أ ما سمعتم قول الفجّار في النّار: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ!) ([8])
وقال: (إنّ أحبّ المؤمنين إلى اللَّه عزّ وجلّ من نصب في طاعة اللَّه عزّ وجلّ ونصح لعباده وكمل عقله ونصح نفسه فأبصر، وعمل به أيّام حياته فأفلح وأنجح) ([9])
وقال: (أتمّكم عقلا أشدّكم للَّه تعالى خوفا وأحسنكم فيما أمركم به ونهى عنه نظرا، وإن كان أقلّكم تطوّعا) ([10])
وقال: (أوّل ما خلق اللَّه العقل فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال اللَّه عزّ وجلّ: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم على منك، بك آخذ، وبك أعطى، وبك أثيب، وبك أعاقب) ([11])
وقال: (ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدى صاحبه إلى هدى ويردّه عن ردى، وما تمّ إيمان عبد ولا استقام دينه حتّى يكمل عقله) ([12])
و قال: (إنّ الرّجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصّائم القائم، ولا يتمّ لرجل حسن خلقه حتّى يتمّ عقله فعند ذلك تمّ إيمانه وأطاع ربّه وعصى عدوّه إبليس) ([13])
وقال: (جدّ الملائكة واجتهدوا في طاعة اللَّه سبحانه وتعالى بالعقل، وجدّ المؤمنون من بني آدم على قدر عقولهم فأعملهم بطاعة اللَّه عزّ وجلّ أوفرهم عقلا) ([14])
وروي أن المسائل كثرت يوما على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا أيّها النّاس إنّ لكلّ شي ء مطيّة ومطيّة المرء العقل، وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلا) ([15])
وسئل: بم يتفاضل النّاس في الدّنيا؟ فقال: بالعقل، فقيل: وفي الآخرة؟ قال: بالعقل، فقيل: أليس إنّما يجزون بأعمالهم؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وهل عملوا إلّا بقدر ما أعطاهم عزّ وجلّ العقل؟ فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون) ([16])
وروي أنه لمّا رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة أحد سمع النّاس يقولون: فلان أشجع من فلان وفلان أبلى ما لم يبل فلان ونحو هذا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: أمّا هذا فلا علم لكم به، قالوا: وكيف ذلك يا رسول اللَّه؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّهم قاتلوا على قدر ما قسم اللَّه لهم من العقل، وكانت نصرتهم ونيّتهم على قدر عقولهم فأصيب منهم من أصيب على منازل شتّى، فإذا كان يوم القيامة اقتسموا المنازل على قدر نيّاتهم وقدر عقولهم) ([17])
وروي أن قوما أثنوا على رجل عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى بالغوا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كيف عقل الرّجل؟ فقالوا: نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الأحمق يصيب بجهله أكثر من فجور الفاجر، وإنّما يرتفع العباد غدا في الدّرجات الزّلفى من ربّهم على قدر عقولهم) ([18])
وقد ضرب الإمام الصادق لذلك مثالا، فقال: (إنّ الثواب على قدر العقل، إنّ رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله عزّ وجلّ في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشجر طاهرة الماء، وإنّ ملَكا ًمن الملائكة مرّ به، فقال: يا رب.. أرني ثواب عبدك هذا، فأراه الله عزّ وجلّ ذلك، فاستقلّه الملك، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اصحبه. فأتاه الملك في صورة أنسي، فقال له: (مَن أنت ؟).. قال: (أنا رجلٌ عابدٌ بلغنا مكانك وعبادتك بهذا المكان، فجئت لأعبد معك، فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك: (إنّ مكانك لنزهة، قال: ليت لربنا بهيمة، فلو كان لربنا حمار لرعيناه في هذا الموضع، فإنّ هذا الحشيش يضيع، فقال له الملك: وما لربك حمار ؟.. فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش.. فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الملك: (إنما أثيبه على قدر عقله)([19])
وهكذا ورد في الروايات الكثيرة عن أئمة الهدى ما يدل على فضل العقل، وقيام الدين عليه، وأنه لا يمكن لأحد أن يزكي نفسه، ولا أن يرقيها، وهو يعزل عقله، ومن ذلك ما روي عن الإمام علي أنه قال: (أصل الإنسان لبّه، وعقله دينه، ومروته حيث يجعل نفسه، والأيام دول، والناس إلى آدم شرع سواء)([20])
وقال: (ليس الرؤية مع الأبصار، وقد تكذب العيون أهلها، ولا يغشّ العقل مَن انتصحه)([21])
وقال: (الحلم غطاءٌ ساترٌ، والعقل حسامٌ باترٌ، فاستر خلل خُلقك بحلمك، وقاتل هواك بعقلك)([22])
وقال: (الجمال في اللسان، والكمال في العقل، ولا يزال العقل والحمق يتغالبان على الرجل إلى ثماني عشرة سنة، فإذا بلغها غلب عليه أكثرهما فيه)([23])
وقال: (العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء)([24])
وقال الإمام الصادق: (دعامة الإنسان العقل، ومن العقل: الفطنة، والفهم، والحفظ، والعلم.. فإذا كان تأييد عقله من النور، كان عالما حافظا زكيا فطنا فهما، وبالعقل يكمل، وهو دليله ومبصّره ومفتاح أمره)([25])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن العقل الذي تحدثت عنه كل هذه النصوص لا يراد به ما تعارف عليه الناس من وفرة الذكاء، وحدته، وقوة الحافظة، ودقة الملاحظة، وغير ذلك مما يتفاخر الناس به، ذلك أن كل تلك الأمور قد تصبح أدوات في يد القوة الوهمية، لتمكر بها، وتحتال، وتخادع.
ولهذا أخبر الله تعالى عن الانحراف الكبير الذي وقع فيه من أوتوا تلك الأدوات، ولكنهم أساءوا استخدامها، فقال: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [الأحقاف: 26]
فالآية الكريمة تشير إلى أن هؤلاء الذين أوتوا من كل القوى والطاقات، لم يستخدموها في محالها الصحيحة، وإنما اكتفوا باستخدامها في شؤون الدينا، بينما راحوا يجحدون أبسط الحقائق المرتبطة بالدين، ولو أنهم بذلوا عشر ما بذلوه في شؤون الدنيا لاهتدوا للإيمان، ولقيمه الرفيعة.
ولذلك فإن تلك الأدوات من حدة الذكاء، ودقة الملاحظة، وقوة الذاكرة، وسعة الخيال، وغيرها يمكن استثمارها في الخير والشر، والحق والباطل.. وهي أدوات للعقل، وليس هي العقل عينه.. ذلك أنه كما يستخدمها العقل السليم في الوصول إلى الحقائق والقيم، تستخدمها القوة الوهمية، أو العقل المخادع في شؤون الحيل والمكر والدهاء.. أو في ترتيب ما تفرضه الغرائز من طلبات.
لذلك لا تنخدع ـ أيها المريد الصادق ـ بذلك الذي يبدو لك عبقريا في ذكائه.. فقد يكون في منتهى الغفلة والغباء إن عرضت عليه حقائق الدين، أو دعوته إلى قيمه.
وكيف لا يكون كذلك، وأنت ترى أن بعض كبار الفلاسفة، وصل به الغباء والغفلة إلى أن ينكر قوانين العقل الضرورية كالعلة والسببية وغيرها.. حتى لا تستخدم في الدلالة على الله.
ولذلك، فإن العقل الحقيقي الذي أثنت عليه تلك النصوص المقدسة هو العقل الذي يتحكم في الأهواء، ويزن التصرفات، بحيث لا يبرز منه إلا ما تدعو إليه الحكمة، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صفة العاقل أنه من (يحلم عمَّن جهل عليه، ويتجاوز عمَّن ظلمه، ويتواضع لمَن هو دونه، ويسابق مَن فوقه في طلب البرّ، وإذا أراد أن يتكلّم تدبّر فإن كان خيرا تكلّم فغنم، وإن كان شراً سكت فسلم، وإذا عرضت له فتنة استعصم بالله، وأمسك يده ولسانه، وإذا رأى فضيلة انتهز بها، لا يفارقه الحياء، ولا يبدو منه الحرص، فتلك عشر خصال يُعرف بها العاقل) ([26])
وكل هذه الصفات تدل على تحكم عقل صاحبها في نفسه وأهوائه وغرائزه، حتى لو بدا للناس أبله أو أحمق أو مغفلا.. ذلك أن العبرة بالذكاء الذي يهدي إلى الحق، لا الذكاء الذي يستعمل مطية للأهواء، والذي نسبه قارون إلى نفسه مفتخرا، فقال: ﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: 78]، وقد رد الله تعالى عليه بقوله: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا﴾ [القصص: 78]
وقد روي في هذا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بمجنون، فقال: ما له ؟.. فقيل: إنه مجنون، فقال: (بل هو مصابٌ، إنما المجنون مَن آثر الدنيا على الآخرة)([27])
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صفة الجاهل، وأنه من (يظلم مَن خالطه، ويتعدّى على مَن هو دونه، ويتطاول على مَن هو فوقه، كلامه بغير تدبرٍ، إن تكلم أثم وإن سكت سها، وإن عرضت له فتنةٌ سارع إليها فأردته، وإن رأى فضيلةً أعرض وأبطأ عنها، لا يخاف ذنوبه القديمة، ولا يرتدع فيما بقي من عمره من الذنوب، يتوانى عن البر ويبطىء عنه، غير مكترث لما فاته من ذلك أو ضيّعه، فتلك عشر خصال من صفة الجاهل الذي حُرم العقل)([28])
وفي حديث آخر اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مراعاة الجوانب الاجتماعية، من أهم صفات العقل، فقال: (رأس العقل بعد الإيمان التودد إلى الناس.. وأعقل الناس محسنٌ خائفٌ، وأجهلهم مسيئٌ آمنٌ)([29])
وذكر في حديث آخر تنظيم العاقل لوقته، وجمعه بين كل المحاسن المرتبطة بالدينا والآخرة، وبالروح والجسد، فقال: (ينبغي للعاقل إذا كان عاقلا، أن يكون له أربع ساعات من النهار: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يأتي أهل العلم الذين ينصرونه في أمر دينه وينصحونه، وساعة يُخلي بين نفسه ولذتها من أمر الدنيا فيما يحلّ ويحمد)([30])
وهكذا ورد عن أئمة الهدى الكثير من أوصاف العقلاء، ومنها قول الإمام علي: (العاقل لا يُحدّث مَن يخاف تكذيبه، ولا يسأل مَن يخاف منعه، ولا يقدم على ما يخاف العذر منه، ولا يرجو مَن لا يوثق برجائه)([31])
وقال: (لا يُرى الجاهل إلا مفرطاً أو مفرِّطاً)([32])
وقال: (مَن أُعجب برأيه ضلّ، ومَن استغنى بعقله زلّ، ومَن تكبّر على الناس ذلّ)([33])
وقال: (عجباً للعاقل كيف ينظر إلى شهوةٍ، يعقبه النظر إليها حسرة)([34])
وقال: (همة العقل ترك الذنوب، وإصلاح العيوب)([35])
وقال: (ليس للعاقل أن يكون شاخصا إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو حظوة (أي مكانة) في معاد، أو لذ في غير محرّم)([36])
وغيرها من الأقوال الكثيرة؛ فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على التعرف عليها، والاستفادة منها في بناء عقلك السليم المؤيد بنور البصيرة، حتى لا يختطفك أصحاب العقول الوهمية المخادعة؛ فيحولوك عن السراط المستقيم الذين يمثله كتاب ربك، وسنة نبيك، وهدي أئمتك.
ولذلك لا
تتحرك أي حركة، أو تقف أي موقف قبل أن تزنه بتلك الموازين.. فالعبرة ليست بكثرة
الأعمال، وإنما بصحتها وسلامتها وكون مصدرها الهدى، لا الهوى.
([1]) المحاسن للبرقي، 195/ 15.
([2]) التربية الروحية؛ بحوث فى جهاد النفس، ص: 165
([3]) إحياء علوم الدين، 1/141.
([4]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل.
([5]) بحار الأنوار: 1/92، والمحاسن.
([6]) بحار الأنوار: 1/93، والمحاسن.
([7]) بحار الأنوار: 1/95، وكنز الكراجكي.
([8]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل.
([9]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس.
([10]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل.
([11]) الطبراني في الأوسط وأبو نعيم.
([12]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل في العقل.
([13]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل والترمذي.
([14]) رواه البغوي في معجم الصحابة.
([15]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل.
([16]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل والترمذي الحكيم في النوادر.
([17]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل.
([18]) رواه داود بن المحبر في كتاب العقل في العقل، والترمذي الحكيم في النوادر.
([19]) بحار الأنوار: 1/84، وأمالي الصدوق.
([20]) بحار الأنوار: 1/82، وأمالي الصدوق.
([21]) بحار الأنوار: 1/95، ونهج البلاغة.
([22]) بحار الأنوار: 1/95، ونهج البلاغة.
([23]) بحار الأنوار: 1/96، وكنز الكراجكي.
([24]) بحار الأنوار: 1/96).
([25]) بحار الأنوار: 1/90، والعلل.
([26]) بحار الأنوار: 1/129، والتحف.
([27]) بحار الأنوار: 1/131، وروضة الواعظين.
([28]) بحار الأنوار: 1/129، والتحف.
([29]) بحار الأنوار: 1/131، وروضة الواعظين، الغوالي.
([30]) بحار الأنوار: 1/131، وروضة الواعظين.
([31]) بحار الأنوار: 1/130، والمحاسن.
([32]) بحار الأنوار: 1/159، ونهج البلاغة.
([33]) بحار الأنوار: 1/160، ونهج البلاغة.
([34]) بحار الأنوار: 1/161، ونهج البلاغة.
([35]) بحار الأنوار: 1/161، ونهج البلاغة.
([36]) بحار الأنوار: 1/131، وروضة الواعظين.