الإشراق والاستنارة

الإشراق والاستنارة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عما ورد في النصوص المقدسة من استنارة القلوب وإشراقها، وعلاقة ذلك بالتزكية والترقية.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن القلب الذي وصفته النصوص المقدسة ليس مرتبطا بالحقيقة الإنسانية وحدها، وإنما هو مرتبط بعالم الغيب أيضا، يستمد منه المواد التي تفيده أو تضره، ولذلك إن مد يده إلى عالم الظلمات صار مظلما، وإن مد يده إلى عالم الأنوار أشرقت عليه، واستنار بها.

ومثل ذلك مثل الشخص الذي يخير بين أن يسير في الدرب الذي يهديه إلى الخراب المظلم.. أو يسير في الدرب الذي يهديه إلى العمران المشرق.

وبما أن هذه الهداية تستدعي توفر أطراف خارجية، يعرف السالك من خلالها الطريق الذي يريد أن يسلكه؛ فهكذا الأمر بالنسبة للقلوب.. فقد جعل الله لها أنواعا كثيرة من الهداية.. تبدأ بكتبه المنزلة، وتنتهي بأولئك الذين جعلهم الله تعالى قرناء له، يدلونه على الطريق التي يريد اختيارها.

وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال: (إن للشيطان لمة([1]) بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الآخر فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم)، ثم قرأ: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 268]، فإذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا فليستغفر الله وليتعوّذ من الشيطان) ([2])

وقال الإمام الصادق: (ما من قلب إلا وله أذنان: على إحداهما ملك مرشد، وعلى الأخرى شيطان مفتّن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي والملك يزجره عنها، وهو قول الله عز وجل: ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 17، 18])([3])

بل أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا ـ بناء على العدالة الإلهية في التكليف ـ جار على كل القلوب؛ حتى قلوب الأنبياء والمرسلين، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)، قالوا: وإياك يا رسول الله، قال: (وإياى إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم، فلا يأمرنى إلا بخير) ([4])

فهذه الأحاديث تشير إلى التواصل الدائم بين الإنسان وعالم الغيب من الملائكة والشياطين، كما تشير إلى أن الاستجابة الاختيارية لأحد الطرفين هي التي تحدد حقيقة الإنسان، وما يتنزل على قلبه.. فإن استجاب إلى الشيطان، صار قلبه مظلما كظلمته، وإن استجاب إلى الملاك أشرق قلبه كإشراقه.

فهذا المصدر الأول من مصادر النور ـ أيها المريد الصادق ـ وهو ذلك الملاك الذي وكل بك، والذي تستطيع من خلال صحبتك له، واستجابتك لما يدعوك إليه من الخير أن تتزود من أنواره ما شاءت لك نفسك.

أما المصدر الثاني؛ فهو كلمات ربك المقدسة، فكل حرف منه عالم من عوالم الأنوار العظيمة، التي يشرق بها قلبك، ليرى الكون جميعا بصورته الحقيقية التي لم تزيف ولم تغير ولم تبدل.

فقد وصف الله تعالى كتابه بكونه نورا، فقال: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]

وهكذا غيره من كتبه المقدسة ـ قبل أن تمتد إليها يد المحرفين بالتبديل والتغيير ـ كما قال تعالى عن التوراة: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ [المائدة: 44]، وقال: ﴿قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ [الأنعام: 91]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (عليك بتلاوة القرآن، فإنّه نور لك في الأرض وذخر لك في السّماء) ([5])

وقال للإمام علي: (أُعلّمك دعاء لا تنسى القرآن، قل: اللّهمّ ارحمني بترك معاصيك أبداً ما أبقيتني، وارحمني من تكلّف ما لا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك، والزم قلبي حفظ كتابك كما علّمتني، وارزقني أن أتلوه على النحو الّذي يرضيك عنّي.. اللّهمّ نوِّر بكتابك بصري، واشرح به صدري، وأطلق به لساني، واستعمل به بدني، وقوّني به على ذلك، وأعنّي عليه، إنّه لا يعين عليه إلاّ أنت، لا إله إلاّ أنت)([6])

وروي أنه بينما جبريل قاعد عند النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: «هذا باب من السّماء فتح اليوم، لم يفتح قطّ إلّا اليوم». فنزل منه ملك، فقال: «هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلّا اليوم»، فسلّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلّا أعطيته»([7])

وقال الإمام عليٌ في وصف القرآن الكريم: (جعله الله ريا لعطش العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داءٌ، ونورا ليس معه ظلمةٌ) ([8])

وقال في دعائه عند ختم القرآن الكريم: (اللهم اشرح بالقرآن صدري، واستعمل بالقرآن بدني، ونور بالقرآن بصري، وأطلق بالقرآن لساني، وأعني عليه ما أبقيتني، فإنه لا حول ولا قوة إلابك) ([9])

وقال الإمام الحسن: (إن هذا القرآن فيه‏ مصابيح‏ النور وشفاء الصدور، فليجل جال بضوئه، وليلجم الصفة قلبه، فإن التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور) ([10])

وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجرب ذلك؛ فاقرأ القرآن الكريم بصدق وإخلاص وتدبر، وسترى كيف يؤثر عليك تأثيره البليغ، بحيث ترى نفسك قد تغيرت كثيرا، وكأنها أبصرت بعد عمى، واهتدت بعد ضلالة، وذلك نفس ما تفعله الأنوار والسرج التي يهتدى بها في الظلمات.

ولهذا أخبر الله تعالى أن من أغراض تنزل القرآن الكريم إخراج العباد من الظلمات إلى النور، بتبصيرهم بالحقائق، ودلالتهم عليها، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [إبراهيم: 1]

والمصدر الثالث من مصادر النور التواصل مع الله تعالى بكثرة الذكر والصلاة؛ فذلك مما يملأ القلب بالأنوار.. فـ ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35]، ومن اتصل به، وتواصل معه بتلك الشعائر التعبدية نهل من الأنوار بحسب استعداده وحضوره وقابليته، كما قال تعالى: ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35]

ثم ذكر بعدها مصدرا من مصادر ذلك النور، فقال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾ [النور: 36-37]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (بشّر المشّائين في الظّلم إلى المساجد بالنّور التّامّ يوم القيامة) ([11])

وقال: (الصلاة نور المؤمن، والصلاة نورٌ من الله)([12])

ومثلما يزداد نور المصباح بتزويده بمصادر الإضاءة القوية، يزداد نور القلب بكثرة التواصل مع الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في فضل صلاة الليل: (إن العبد إذا تخلى‏ بسيده في جوف الليل المظلم وناجاه، أثبت الله النور في قلبه، ثم يقول لملائكته: يا ملائكتي، انظروا إلى‏ عبدي، فقد تخلى‏ بي في جوف الليل المظلم والبطالون لاهون، والغافلون نيامٌ، اشهدوا أني قد غفرت له) ([13])

وقال الإمام علي: (ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة الليل نورٌ)، فقيل له: ولا ليلة الهرير؟ قال: (ولا ليلة الهرير) ([14])

وقال الإمام الصادق: (صلاة الليل تبيض الوجه، وصلاة الليل تطيب الريح، وصلاة الليل تجلب الرزق) ([15])

وقال الإمام السجاد جوابا لمن سأله: مابال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجها؟: (لأنهم خلوا بالله فكساهم الله من نوره) ([16])

والمصدر الرابع من مصادر النور ـ أيها المريد الصادق ـ تواصلك مع الصالحين، لأن قلوبهم وأرواحهم ممتلئة بالأنوار، ولذلك فإن كل من يجلس إليهم، تتنزل عليه أنوارهم.

ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل الصلاة عليه وعلى أئمة الهدى، فقال: (أكثروا الصلاة عليَّ، فإنّ الصلاة عليّ، نور في القبر، ونور على الصراط، ونور في الجنة) ([17])

بل ورد في الحديث ما يدل على أن التواصل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يثمر صلاة الله تعالى على بعده، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات) ([18])

وقال: (إنه أتاني الملك فقال: يا محمد أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرًا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرًا؟ قلت: بلى) ([19])

وقال يحكي عن الله تعالى: (من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه) ([20])

وقد ورد في النصوص المقدسة ما يدل على دور صلاة الله تعالى على عباده في إخراجهم من الظلمات إلى النور، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 43]

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن من صفات السابقين الفائزين العقلاء المسارعة إلى شحن أرواحهم بالأنوار الكافية في الدنيا، حتى يبصروا الحقائق رأي العين؛ فلا يرتابوا، ولا يضلوا، ولا يشكوا.. وهل يمكن لمن رأى الحقائق أن يشك فيها، أو يضل عنها؟

وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، وإمكانية تحققه لكل النفوس بشرط ابتعادها عن الحجب التي تحول بينها وبين ذلك، فقال: (لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت)([21])

وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل بعض أصحابه المنتجبين، فقال: (كيف أصبحت يا حارث؟)، فقال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (انظر ما تقول؟ فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟) فقال: (قد عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت لذلك ليلي، واطمأن نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يا حارث عرفت فالزم) ([22])

بالإضافة إلى ذلك الفضل العظيم، فقد أخبر الله تعالى أن تلك الأنوار التي اكتسبها المؤمنون في الدنيا هي التي يستضيئون بها في الآخرة، قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُمْ بِالله الْغَرُورُ﴾ [الحديد: 12 – 14]

فهذه الآيات الكريمة تبين أن نور المؤمنين يسعى أمامهم وبين أيديهم، ليضيء لهم الظلمات التي تملأ ذلك الموقف، كما تبين أن مبدأ اكتساب ذلك النور كان في الدنيا، وبالعمل الصالح، ولهذا يطلبون من المنافقين العودة للدنيا لاكتساب ذلك النور.

واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا أن تسد تلك الأنوار التي تكتسبها، وتملأ قلبك بها، بالذنوب والمعاصي، وخاصة المتعدية منها، فإنها ظلمات في الدنيا والآخرة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة) ([23])

ولهذا؛ فإنه إن اختلطت الظلمات بالأنوار كانت الغلبة للمتغلب منهما، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقسيم القلوب على أساس ذلك، فقال: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السّراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفّح، فأمّا القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأمّا القلب الأغلف فقلب الكافر، وأمّا القلب المنكوس فقلب المنافق، عرف ثمّ أنكر، وأمّا القلب المصفّح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطّيّب، ومثل النّفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والدّم، فأيّ المدّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه) ([24])

وقال الإمام الباقر: (القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهر أنور.. فأما المطبوع فقلب المنافق، وأما الازهر فقلب المؤمن إن أعطاه الله عزوجل شكر، وإن ابتلاه صبر، وأما المنكوس فقلب المشرك، ثم قرأ هذه الآية: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الملك: 22]، وأما القلب الذي فيه إيمان ونفاق، فهم قوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك، وإن أدرك على إيمانه نجا) ([25])

وقال: (القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعثر على شيء من الخير وهو قلب الكافر.. وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشر فيه يعتلجان، فما كان منه أقوى غلب عليه.. وقلب مفتوح فيه مصباح يزهر، فلا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن)([26])

وقد قال بعض الحكماء يصور ذلك، ويقربه بالأمثلة: (اعلم أن القلب مثال قبة مضروبة، لها أبواب، تنصب إليه الأحوال من كل باب، ومثاله أيضا مثال هدف، تنصب إليه السهام من الجوانب، أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة، فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا تخلو عنها، أو مثال حوض، تنصب فيه مياه مختلفة، من أنهار مفتوحة إليه، وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال، أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب، والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلا بسبب كثرة الأكل، وبسبب قوة في المزاج، حصل منها في القلب أثر، وإن كف عن الإحساس. فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر، والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائما من هذه الأسباب) ([27])

وذكر سبب إقبال النفس على مصدر الظلمات، وابتعادها عن مصدر النور، فقال: (القلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك، ولقبول آثار الشيطان، صلاحا متساويا ليس يترجح أحدهما على الآخر، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى، والإكباب على الشهوات، أو الإعراض عنها ومخالفتها. فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى، وصار القلب عش الشيطان ومعدنه، لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه. وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه، وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام، صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم. ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب، وحرص وطمع وطول أمل، إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى، لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة) ([28])

ومما يروى في هذا عن بعض الحكماء أنه سئل عن الوسوسة، فقال: (إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص، فإن كان فيه شي ء عالجوه، وإلا مضوا وتركوه.. وكذلك القلب الخالي عن الهوى لا يدخله الشيطان)

وهذا ما يدل عليه قوله تعالى مخاطبا الشيطان: ﴿ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 41، 42]

وسر ذلك أن الله تعالى ـ بعدله ورحمته ـ ترك لكل عبد الحرية في اختياره؛ فإن آثر العبد عبودية الله، كان في حماية الله وجواره، وفرت منه الشياطين.. ومن آثر عبادة هواه، وما تمليه عليه نفسه تركه، وما هوى، وحينها تتسلط عليه الشياطين بظلماتها، كما قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23]

فالإضلال الواردة في الآية الكريمة ليس إضلالا قهريا للعبد، وإنما هو استجابة لطلب العبد ورضاه، ذلك أن الله تعالى هداه النجدين، ثم ترك له بعد ذلك حرية الاختيار، والتي من خلالها يحدد العبد مصيره.

هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تجعل من الدنيا سوقا لاكتساب الأنوار، وملئ قلبك بها، وسترى أن رؤيتك لكل شيء تتغير بحسب الأنوار التي تكسبها.. ذلك أن مصدر كل الهموم والغموم والكآبة والإحباط والوحشة هي تلك الظلمات التي تسكن القلب، وتجعله يرى الكون بصورة مرعبة على غير ما هو عليها، ولا علاج لذلك سوى أنوار الإيمان والعمل الصالح.


([1]) اللمة: الهمة والخطرة تقع في القلب. كما في غريب الحديث.

([2]) سنن الترمذي (5/ 219)، السنن الكبرى للنسائي (10/ 37)

([3]) بحار الأنوار: 67/34.

([4]) أحمد (1/385، رقم 3648)، ومسلم (4/2167، رقم 2814)

([5]) رواه ابن حبان، الترغيب والترهيب (2/ 349)

([6]) بحار الأنوار: 89/209، وعدة الداعي.

([7]) مسلم (806)

([8]) نهج البلاغة: الخطبة 198.

([9]) بحار الأنوار: 89/ 209/ 6.

([10]) كشف الغمّة: 2/ 199.

([11]) أبو داود (561) والترمذي (1/ 223)

([12]) مستدرك الوسائل: ج 3، ص 92، ح 3098.

([13]) الأمالي للصدوق: 354/ 432.

([14]) بحار الأنوار: 41/ 17/ 10.

([15]) علل الشرائع: 363/ 1.

([16]) علل الشرائع: 366/ 1.

([17]) مستدرك الوسائل: ج 5، ص 332، ح 6017.

([18]) رواه أحمد.

([19]) رواه أحمد وابن حبان

([20]) رواه أحمد والحاكم

([21]) بحار الأنوار: 67/59، وأسرار الصلاة.

([22]) مصنف ابن أبي شيبة 6/ 170 ح (30425)، المعجم الكبير للطبراني 3/ 266 ح (3367)

([23]) رواه مسلم

([24]) أحمد (3/ 17)

([25]) معاني الاخبار 395.

([26]) بحار الأنوار: 67/51، ومعاني الأخبار ص395.

([27]) إحياء علوم الدين، 8/47.

([28]) إحياء علوم الدين، 8/49.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *