السلامة والصفاء

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن السلامة والصفاء التي ورد وصف القلوب بها في القرآن الكريم، وعلاقتها بالنفس المطمئنة، وكيفية التحقق بها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الصورة التي يكون عليها القلب في الدنيا والآخرة هي التي تحدد النجاة والفوز، كما تحدد الهلاك والخسارة.. فالله تعالى ـ كما ورد في الحديث الشريف ـ (لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم، وإنّما ينظر إلى قلوبكم) ([1])
ولهذا يرد في القرآن الكريم تصنيف البشر بحسب قلوبهم؛ فهي من يحدد كونهم من أصحاب النفوس الأمارة، أو أصحاب النفوس المطمئنة.. وهي من يحدد النجاة والفوز، كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]
بل اعتبر الله تعالى القلب السليم من صفات الأنبياء والمرسلين، فقال في وصف إبراهيم عليه السلام: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83، 84]
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأوصاف الدقيقة للقلوب وأنواعها، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السّراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفّح، فأمّا القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأمّا القلب الأغلف فقلب الكافر، وأمّا القلب المنكوس فقلب المنافق، عرف ثمّ أنكر، وأمّا القلب المصفّح فقلب فيه إيمان ونفاق، فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدّها الماء الطّيّب، ومثل النّفاق فيه كمثل القرحة يمدّها القيح والدّم، فأيّ المدّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه) ([2])
وأخبر عن السبب الذي تنقسم به القلوب إلى هذه الأقسام، وهو موقفها من الامتحانات وأنواع البلاء التي تتعرض لها، فقال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأيّ قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء. وأيّ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتّى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصّفا. فلا تضرّه فتنة ما دامت السّماوات والأرض، والآخر أسود مربادّ كالكوز مجخّيّا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلّا ما أشرب من هواه)([3])
ولذلك إن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تبحث عن الصفاء والسلامة؛ فلا تبحث عنها في الأعمال وحدها، بل ابحث عنها في قلبك؛ فهو التي يحدد حقيقتك ومكانتك ومرتبتك..
ذلك أن كل الأوزار والمظالم والانغلاق الذي يقع فيه البشر يعود إلى قلوبهم، بسبب تشربها للآثام، وإدمانها عليها، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين: 14]
ولذلك تدعو النصوص المقدسة إلى مراعاة القلوب، قبل مراعاة الأعمال؛ فحقيقة الإنسان ليست في تلك الصورة، ولا تلك الحركات التي تبرز منها، وإنما في تلك الإدارة الخفية التي تكمن وراء كل عمل من الأعمال أو موقف من المواقف.
فالمنغلقون المتعصبون الذين لا يسمعون الحجج، ولا يقتنعون بها، لا يعود ذلك لخلل في تفكيرهم، ولا في أدوات إدراكهم، وإنما لخلل في قلوبهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة: 6، 7]
والذين يسخرون بالدين، ومن المؤمنين، ويستهزئون بهم، ويتصورون أنهم يخادعونهم، لا يفعلون ذلك إلا طاعة لما تمليه عليهم قلوبهم، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } [البقرة: 8 – 10]
والذين يتبعون المتشابهات، ويتركون المحكمات، ويسعون إلى إثارة الفتن لا يفعلون ذلك إلا طاعة لقلوبهم، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7]
وأولئك الذين يسارعون في الكفر، ويضللون الناس بألسنتهم، ويمارسون أثناء ذلك كل الموبقات، لا يفعلون إلا ما تطفح به قلوبهم من قسوة وقذارة، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]
وأولئك الذين يسارعون إلى موالاة المستكبرين، ويؤيدونهم في مواجهة المستضعفين المظلومين، لا يفعلون ذلك إلا لتلك القيم القذرة التي تشربتها قلوبهم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [المائدة: 51، 52]
وأولئك الذين يغلقون آذانهم عن كل حجة، ويستكبرون عن سماع كل دليل، ويسارعون إلى مواجهة الحق، لا يفعلون ذلك إلا بقلوبهم، قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام: 25، 26]
والذين ينظرون إلى المحارم بعيون الشهوات، لا بعيون الاحترام، لا يفعلون ذلك إلا لخلل في قلوبهم، قال تعالى: { يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } [الأحزاب: 32]
والذين يمرون بالآيات البينات، ثم يعرضون عنها، لا يفعلون ذلك إلا بسبب عمى العيون التي في قلوبهم، قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]
والممتلئون بالغفلة السادرون في غيهم، الذين يعرضون عن ذكر الله، ويسخرون منه، لا يفعلون ذلك إلا للأمراض التي تعتري قلوبهم، قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [الأنبياء: 1 – 3]
والذين يكتمون الشهادة، ويعرضون الحقوق بسببها للضياع لا يفعلون ذلك إلا للإثم الذين يسكن قلوبهم، قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]
والمتكبرون والمتجبرون، لا يتكبرون ولا يتجبرون إلا بقلوبهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر: 35]
وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك بالتأمل في كل هذه الصفات، والتي تشمل جميع التصرفات الآثمة، أن تعرف القلب السليم.. فهو قلب خلا من كل تلك الأمراض، ولذلك صار طاهرا طيبا مطمئنا، يسكن إلى الحق، ويسلم له، ويتبعه، ولا يرضى بديلا عنه، بل يضحي بكل شيء في سبيله.
لقد وصفه الله تعالى بذلك، فقال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، فذلك الوجل الذي أصاب القلوب السليمة الطاهرة هو الذي كان سببا في زيادة الإيمان.. وزيادة الإيمان هي التي أثمرت التوكل على الله.. وهو الذي أثمر بعد ذلك كل الصفات النبيلة، والتي منها ما عقب الله تعالى به تلك الآية، فقال: { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال: 3]
وهكذا الألفة والمودة التي تنتشر عبر المظاهر السلوكية المختلفة، لم تكن لتتحقق لولا وجود مادتها في القلب، كما قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 62، 63]
وهكذا الخشوع؛ فمحله القلب، قال تعالى: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]
وهكذا الطهارة، فطهارة الجسد لا تكفي وحدها ما لم تصحبها طهارة القلب، قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [الأحزاب: 53]
وهكذا الرأفة والرحمة، قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27]
وهكذا الإيمان، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحجرات: 14]
وهكذا التقوى، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]
وهكذا الإنابة، قال تعالى: { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32، 33]
ولهذا يأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الاكتفاء بشعائر الدين الظاهرة التي تمارسها الجوارح، من دون إشراك القلب في ذلك، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم الله عزّ وجلّ أيّها النّاس، فسلوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل)([4])
ويدعو إلى قراءة القرآن الكريم لا بالألسن فقط، وإنما بالقلوب أيضا، فيقول: (اقرؤوا القرآنَ، ولا يغرَّنَّكم هذهِ المصاحفُ المعلَّقةُ، فإنَّ اللهَ لنْ يعذِّبَ قلباً وعى القرآنَ)([5])
ويدعو إلى عدم الاكتفاء باستفتاء المفتين، وإنما يُستفتى القلب أيضا، فقد يغيب عن المفتي من المعاني ما يجعله يتساهل في فتواه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (استفتِ قلبك، واستفتِ نفسك، البِرُّ ما اطمأنت إليه النفسُ، والإثمُ ما حاكَ في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاكَ الناسُ وأفتوك)([6])
وبناء على هذا كله يعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القلوب هي المحددة للأفضلية، فقد سئل عن أفضل الناس، قال: (كل مخموم القلب، صدوق اللسان) قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: (هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد) ([7])
فهذا الحديث ـ أيها المريد الصادق ـ يفسر لك سلامة القلب التي سألت عنها، وهي تشمل جانبين.. أحدهما مرتبط بالتزكية، والثاني مرتبط بالترقية.. ذلك أن القلب مثل المرآة الصافية التي لا يمكنها أن تعكس صور ما تراه إلا بعد أن تُنقى، وتُطهر، وتُزكى من كل ما يحول بينها وبين الرؤية الدقيقة.
ولهذا كثرت وصايا أئمة الهدى بالدعوة إلى إصلاح القلوب، حتى لا يصبح الدين مجرد مظاهر وطقوس ورسوم لا علاقة لها بالوجدان الإنساني.
ومما يروى في ذلك عن الإمام علي أنه أوصى ابنه، فقال: (يا بني.. إن من البلاء الفاقة وأشدّ من ذلك مرض البدن، وأشد من ذلك مرض القلب.. وإنّ من النعم سعة المال، وأفضل من ذلك صحة البدن، وأفضل من ذلك تقوى القلوب)([8])
وسئل الإمام الصادق عن قول الله عز وجل: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، فقال: (السليم الذي يلقى ربه، وليس فيه أحد سواه، وقال: (وكلُّ قلب فيه شكُّ أو شرك فهو ساقط، وإنما أرادوا الزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة)([9])
وقال: (القصد إلى الله تعالى بالقلوب، أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال)([10])
وقال الإمام الرضا: (إن لله في عباده آنية وهو القلب، فأحبّها إليه أصفاها وأصلبها وأرقّها: أصلبها في دين الله، وأصفاها من الذنوب، وأرقّها على الإخوان)([11])
هذا جوابي على
سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع إلى تطهير قلبك وتصفيته من كل الران الذي علق
به من جراء الذنوب والغفلة، واعلم أنك لن تظفر بحقيقتك، ولن تلبس ثوب إنسانيتك إلا
بعد التخلص من كل الشوائب التي تحول بينك وبينها.. فالذهب لا يسمى ذهبا إلا بعد أن
يمر على كير الفتن، ليتخلص من كل المعادن الخسيسة التي تلتصق به.
([1] ) رواه مسلم (4/ 1986)
([2] ) أحمد (3/ 17)
([3] ) مسلم (144)
([4] ) رواه أحمد (2/ 177)
([5]) الدارمي 3185 ..
([6]) أحمد 17320 ، والدارمي 2421.
([7] ) رواه ابن ماجه: 4216
([8])أمالي الطوسي 1/146 .
([9]) بحار الأنوار: 67/59 ، وأسرار الصلاة .
([10]) بحار الأنوار: 67/60، ونوادر الراوندي .
([11]) بحار الأنوار: 67/56، وفقه الرضا .