الحرية والخلاص

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تشكرني على تلك الرسائل التي أجبتك فيها عن أسئلتك حول مناهج التزكية ومدارسها، وأخبرتني أنك باستعمالك لها، أصبحت أكثر طمأنينة لحقائق الإيمان، وأكثر شوقا للقيم العظيمة التي يدعو إليها.
ولذلك طلبت مني أن أزودك بالمعارف التي تفيدك في الترقي إلى عالم النفس المطمئنة، ذلك العالم الذي أشاد به القرآن الكريم، واعتبر أصحابه من الراضين المرضيين، الذين كتب لهم الفلاح والفوز في الدارين.
وقد طلبت مني أن أجيبك عن أسئلة كثيرة حول هذه المرتبة من مراتب النفس، حتى تسعى للتحقق بها، باستعمال المناهج التي كنت قد حدثتك عنها.
وكان أول سؤال لك حولها مرتبط ببيان الفروق بينها وبين النفس الأمارة واللوامة.. مما ييسر عليك بعد ذلك التعرف على خصائصها، ومراتبها، ومنازلها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن قداسة القرآن الكريم تقتضي قداسة الألفاظ والتراكيب التي يستعملها؛ فهي ليست ألفاظا ولا تراكيب اعتباطية، بل هي منتقاة بدقة، بحيث يمكن للمتبحر فيها، والمتدبر لها أن يكتشف الكثير من الحقائق.
ولذلك فإن الفروق بين النفوس تتجلى من خلال المفردات الدالة عليها..
فالنفس الأمارة بالسوء، نفس تنزل الدركات الدنيا من عالم النفس، ولذلك لا ترى إلا السوء والمنكر والأهواء والشياطين.. ولذلك لا تأمر إلا بما تراه وتعيشه، وتعتبر كل شيء خلاف ذلك غريبا عليها.
وهي أشبه ما تكون بالخنافس والحشرات التي تعيش على القاذورات، وتستحلي تلك المعيشة؛ فلا ترى صورة للحياة غيرها.
وبذلك، فهي مطمئنة للسوء والمنكر وكل المثالب التي تتحلى بها، بل ترى أنه لا يمكن أن تكون للحياة صورة غير تلك الصورة.
وأما النفس اللوامة؛ فهي النفس التي شعرت بتلك الروائح النتنة للنفس الأمارة، بعد أن أشرقت عليها بعض أنوار النفس المطمئنة، ولذلك راحت تستقذر استسلامها لمقتضياتها، وقد جعلها ذلك تمارس كل الوسائل والمناهج التي تخرج بها من سيطرتها، وتتحرر بها من ربقها.
وأما النفس المطمئنة؛ فهي النفس المنتصرة في حربها على النفس الأمارة، وهي بذلك نفس متحررة من عالم الدنس والمستنقعات والقاذورات والمثالب..
وهي نفس متحررة من الشياطين الذين كانوا يوسوسون لها، ويستحوذون عليها.
وهي لذلك تنتقل من ذلك العالم المدنس إلى عالم جديد مملوء بالأنوار، جزاء وفاقا على مجاهداتها.. ولمشاكلتها لذلك العالم.
ذلك أن الله تعالى بعدله ورحمته لخلقه، ينزل كل أحد في المرتبة التي يرضاها ويتقبلها، وله الاستعداد التام للتعامل معها.
وكما أن عالم النفس الأمارة مملوء بـ {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]؛ فإن عالم النفس المطمئنة مملوء بالملائكة والأولياء والصالحين.. كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 30، 31]
وكما أن عالم النفس الأمارة مملوء بالضيق النفسي الذي أشار إليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]؛ فإن عالم النفس المطمئنة عالم واسع ممتلئ بالبهجة والسكينة والطمأنينة، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]
وهكذا؛ فإن عالم النفس المطمئنة مختلف تماما عن عالم النفس الأمارة، وعالم النفس اللوامة.
وإن شئت تشبيها تقريبيا لذلك.. فإن مثل هذه النفوس مثل شخص فقير مريض ممتلئ بالكآبة يعيش بين اللصوص والمجرمين.. ثم فجأة يظهر له أن يفر من بين أيديهم، ويستعمل كل الوسائل التي تعينه على ذلك.. وبعد جهد شديد يستطيع أن يصل إلى مدينة مملوءة بالحكمة والصلاح.. تتوفر فيها كل المرافق الحضارية.. ويتاح له فيها أن يعالج نفسه وروحه وكل لطائفه.. ويتاح له فيها أن يتنعم بكل ما حرم منه في ذلك المحل الذي كان فيه.
فهكذا النفس ـ أيها المريد الصادق ـ في مراتبها الثلاث.. فهي في مرتبتها الأولى مرتبة النفس الأمارة مملوءة بالأمراض والكآبة لأنها تعيش في العالم الأسفل الغريب عنها، عالم الظلمات، ومع الذين آثروا أن يعيشوا في ذلك العالم من شياطين الإنس والجن.
ثم إنها بعد بغضها ذلك العالم، ومحاولتها الفرار منه، تتحول إلى نفس لوامة، تستعمل كل الوسائل لتخرج من تلك المستنقعات التي تسكن فيها، ولتمحو كل الآثار التي علقت بها.
ثم إنها بعد تمكنها من الفرار ووصولها إلى مدينة الصالحين تتحلى بأخلاقهم وطباعهم، وتطمئن بها الحياة في تلك المدائن الجميلة.
وبناء على هذا المثال التقريبي؛ فإن أول منزلة من منازل النفس المطمئنة هي [التحرر والخلاص]، ذلك أنها المنزلة التي تمكنها من التخلص من القيود والأغلال التي كانت تحبسها في تلك المستنقعات، وفي صحبة الشياطين.
ذلك أن الله تعالى بحكمته جعل في نفس الإنسان الكثير من القوى واللطائف والطاقات التي تقربها من العوالم المختلفة، لتختار بعد ذلك ما يتناسب معها، ومع طباعها، ومن خلال ذلك تتشكل حقيقتها وجوهرها.
وقد أشار إلى هذا ما روي في بعض الآثار أن بعضهم سأل حكيما، فقال: (أريد أن تعرّفني نفسي)، فقال الحكيم: أي نفس تريد؟.. قال: وهل هي إلّا نفس واحدة؟.. فقال الحكيم: (إنما هي أربع أنفس: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية. ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصتان.. فالنامية النباتية: لها خمس قوى ماسكة وجاذبة وهاضمة ودافعة ومربية، ولها خاصتان الزيادة والنقصان، وانبعاثها من الكبد وهي أشبه الأشياء بنفس الحيوان.. والحيوانية الحسية: ولها خمس قوى: سمع وبصر وشم وذوق ولمس. ولها خاصتان: الرضا والغضب، وانبعاثها من القلب، وهي أشبه الأشياء بنفس السباع.. والناطقة القدسية: ولها خمس قوى: فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بنفس الملائكة، ولها خاصتان النزاهة والحكمة.. والكلية الإلهية، ولها خمس قوى، بقاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعزّ في ذل، وفقر في غنى، وصبر في بلاء. ولها خاصتان: الحلم والكرم. وهذه التي مبدأها من الله وإليه تعود) ([1])
وهذا الخبر، وإن لم يكن دقيقا من جهة روايته، إلا أن معناه صحيح.. ففي الإنسان كل القوى التي ذكرها..
فالإنسان يشبه النبات والحيوان في صفات كثيرة.. حتى أن هناك من البشر من لم يخرج ولو في لحظة من حياته من عالم النبات والحيوان.. ذلك أنه لا يرى الحياة إلا غذاء ونموا..
وهناك من يترقى.. لكن لا ليعيش عالم الإنسان الرفيع المكرم، وإنما ليعيش مع الشياطين.. ولذلك يستعمل العقل الذي أتيح له ليترقى من خلاله وسيلة للخداع والمكر والحيلة مثل الشياطين تماما.
وهناك من يترقى ليعيش حقيقته الإنسانية وبدرجاتها المختلفة..
وقد اتفق على هذا كل الحكماء، وسأسوق لك من أقوال بعضهم ما يقرر لك تلك الحقائق، ويؤكدها، ويحول من ذلك المثل الذي ضربته لك حقيقة واقعة تعيشها كل النفوس من حيث لا تشعر.
فقد قال بعضهم معاتبا أولئك الذين يريدون معرفة الله، أو يتطلعون إلى الحقائق العالية من غير معرفة أنفسهم، والقوى التي تسيطر عليها: (ليس شيء أقرب إليك من نفسك، فإذا لم تعرف نفسك، فكيف تعرف ربك؟)([2])
ثم رد على أولئك الذين يتوهمون أن معرفة النفس قاصرة على معرفة ما بدا منها للعيان؛ فقال: (فإن قلت: إني أعرف نفسي! فإنما تعرف الجسم الظاهر، الذي هو اليد والرجل والرأس والجثة، ولا تعرف ما في باطنك من الأمر الذي به إذا غضبت طلبت الخصومة، وإذا جعت طلبت الأكل، وإذا عطشت طلبت الشرب.. والدواب تشاركك في هذه الأمور.. فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة؛ حتى تدرك أي شيء أنت، ومن أين جئت إلى هذا المكان، ولأي شيء خلقت، وبأي شيء سعادتك، وبأي شيء شقاؤك)([3])
ثم ذكر الصفات الكثيرة التي تتشكل منها النفس، فقال: (لقد جمعت في باطنك صفات: منها صفات البهائم، ومنها صفات السباع، ومنها صفات الشياطين، ومنها صفات الملائكة، فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب منك، وعارية عندك.. فالواجب عليك أن تعرف هذا، وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة.. فإن سعادة البهائم في الأكل، والشرب، والنوم، فإن كنت منهم فاجتهد في أعمالهم.. وسعادة السباع في الضرب، والفتك.. وسعادة الشياطين في المكر، والشر، والحيل. فإن كنت منهم فاشتغل باشتغالهم)([4])
ثم ذكر المرتبة العالية، مرتبة النفس المطمئنة، تلك التي يترقى فيها الإنسان إلى حقيقته التي خلقه الله عليها، ولأجلها، فقال: (وسعادة الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية، وليس للغضب والشهوة إليهم طريق؛ فإن كنت من جوهر الملائكة، فاجتهد في معرفة أصلك؛ حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب، وتعلم أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك؛ فما خلقها الله تعالى لتكون أسيرها، ولكن خلقها حتى تكون أسرك، وتسخرها للسفر الذي قدامك، وتجعل إحداها مركبك، والأخرى سلاحك؛ حتى تصيد بها سعادتك. فإذا بلغت غرضك فقاوم بها تحت قدميك، وارجع إلى مكان سعادتك. وذلك المكان قرار خواص الحضرة الإلهية، وقرار العوام درجات الجنة) ([5])
وبذلك؛ فإن النفس المطمئنة ـ أيها المريد الصادق ـ هي تلك النفس التي تحررت من كل تلك القيود التي كانت تقيدها، وتحول بينها وبين الكمال المتاح لها.
وإن شئت أن تعرف سر ذلك؛ فاعلم أن الله تعالى ـ ليتيح للإنسان حرية الاختيار ـ فطره على صفات كثيرة، يمكنه من خلالها أن ينتقي ما يشاء منها، ليعين حقيقته من خلال ذلك الاختيار.
والأمر في ذلك شبيه بتلك الفرص التي تتاح للإنسان في الدنيا ليختار التخصص المناسب والوظيفة المناسبة، والبيئة المناسبة وهكذا.. في كل شيء يكون له فيه حرية الاختيار.
وقد أشار إلى هذا قوله تعالى في بيان حقيقة الإنسان:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:30)
ففي هذه الآية إخبار إلهي عن سر ما يكتنزه الإنسان من صفات تؤهله للبر، كما تؤهله للإثم، ولهذا عندما ذكر الله للملائكة الخلافة ذكروا الإثم، وسفك الدماء، ذلك أن الخلافة تقتضي الحرية.. والحرية تقتضي الاختيار.. والاختيار يقتضي أن تكون هناك فرص مختلفة متعددة، وسبل متنوعة.. وكل ذلك يقتضي أن يكون في الإنسان ميل متساو لكل الطرق ولكل الاتجاهات حتى يحدد بعد ذلك الخيار الذي يتناسب معه ومع طبيعته وعزيمته وإرادته.
لقد ذكر الله ذلك فقال عند حديثه عن الإنسان، فقال:﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾ (الإنسان)
انظر ـ أيها المريد الصادق ـ كيف ربط الله تعالى بين السمع والبصر وبين الهداية والضلال.. فكما أن السمع والبصر يتيحان لنا أن نستعملهما في الخير والشر.. فهكذا باقي القوى واللطائف..
ولهذا يذكر الله تعالى استعدادات الإنسان ـ كإنسان ـ إلى جميع أنواع الإثم، فقد أخبر عن استعداده لليأس والكفر، فقال:﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ ﴾ (هود:9)، وقال:﴿ لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ) (فصلت:49)
وأخبر عن ظلمه الممزوج بكفره، فقال:﴿ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (ابراهيم:34)
وأخبر عن ظلمه الممزوج بجهله، فقال:﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب:72)
وأخبر عن خصومته، فقال:﴿ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ (النحل:4)
وأخبر عن عجلته، فقال:﴿ وَيَدْعُ الْأِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً﴾ (الاسراء:11)، وقال:﴿ خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ (الانبياء:37)
وأخبر عن بخله، فقال:﴿ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً﴾ (الاسراء:100)
وأخبرعن جدله، فقال:﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ (الكهف:54)
وأخبر عن هلعه، فقال:﴿ إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ (المعارج:19)
وكل هذه الاستعدادات الآثمة تختزن في ذاتها ما يقابلها من الاستعدادات الطيبة الصالحة، ذلك أن الله الحكيم الرحيم لا يخلق الشر المجرد عن كل خير([6]).. بل هو يخلق الخير.. ومن الخير ما يتحول إلى شر.. كما أن من الطعام ما يتسنه ويصبح غير صالح للأكل.. مع أنه في أصل طبيعته طيب وصالح.
وهكذا، فكما أن الطعام يتسنه، فكذلك الإنسان يمكن أن يتسنه.. وكما أن الطعام يتسنه بالغفلة عنه؛فكذلك الإنسان كلما غفل عن النظر في حقيقته وتقويمها وربطها بمصدرها الأعلى كلما تمكنت الآفات منه، وانحرفت به بعد ذلك.. لقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، فقال:﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)﴾ (الحشر)
وهذه الآية الكريمة تشير إلى أنه لا يمكن للإنسان أن يذكر نفسه أو يعرفها، وهو لا يذكر ربه ولا يعرفه؛ فحقيقة الإنسان لا يمكن أن تتجلى له إلا عندما يتصل بربه.
ولذلك؛ فإن التربية الخلقية وحدها لا تكفي ليتزكى الإنسان، كما يزعم الغافلون من أصحاب الفلسفات المادية، وإنما يحتاج أيضا إلى التربية الروحية التي تصله بربه، والتي ترقى بأخلاقه إلى المراتب العالية التي لا يمكن أن يعرفها من يعزلون الله عن الأخلاق.
أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك لم تفهم بعد سر التحرر والخلاص الذي يتحقق للنفس المطمئنة.. ولذلك سأضرب لك مثالا يقرب لك ذلك.
أنت تعلم أن الله تعالى وصف نفس الإنسان بكونها شحيحة، كما قال تعالى:﴿ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ﴾ (النساء:128)، وهذه الصفة تدعو أصحاب النفوس الأمارة إلى الحرص والبخل وكل المثالب التي ذكرتها لك.
لكن صاحب النفس المطمئنة المتحرر من كل تلك المثالب يحول من هذه الصفة وسيلة للتزكية والترقية.. ذلك أنها تدعوه إلى الحرص على ما آتاه الله من نعم، ليضعها في محلها الصحيح، ولا يدعها للآفات، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وهو يحض على هذا الشح الإيجابي لبعض صحابته حين طلب أن يوصي بجميع ماله: (الثلث والثلث كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة، تبتغى بها وجه الله، إلا أجرت بها، حتى ما تجعل فى فى امرأتك)([7])
وهكذا صفة الجدل التي وصف بها القرآن الكريم النفس الإنسانية؛ فصاحب النفس الأمارة تجعله يستعملها في الجدل في الله، وفي الحقائق والتلاعب بها، كما قال تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6]، وقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 8، 9]
بينما صاحب النفس المطمئنة يستعملها في عدم الخضوع للباطل، وفي نصرة الحق، ولهذا دعا الله تعالى إلى استعمال الجدل في الدعوة إليه، فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]
بل وصف بذلك إبراهيم عليه السلام، وأثنى عليه، فقال: { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 74، 75]
وهكذا الكفر ـ أيها المريد الصادق ـ والذي وصف الله تعالى به الإنسان؛ فإنه ـ عند صاحب النفس الأمارة ـ كفر بالله، وبالحقائق، وتغطية لها، بينما هو عند صاحب النفس المطمئنة كفر بما يخالف الحق، كما قال تعالى في الثناء على إبراهيم عليه السلام وأصحابه: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]
ولهذا؛ فإن صاحب النفس المطمئنة ـ أيها المريد الصادق ـ لن يخرج عن طبيعته الإنسانية، وإنما يكتفي بتحريرها من كل تلك المثالب التي علقت بها وشوهتها، وقيدته بسببها.
هذا جوابي على
سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ وهو يتضمن أمهات الحقائق المرتبطة بالنفس المطمئنة؛
فاسع لأن تحرر نفسك من تلك القيود التي تكبلها، وتنتكس بها عن حقيقتها، لتعيش عالم
الإنسان.. لا عالم الجماد والنبات والحيوان والشيطان.. فأنت أرقى منها جميعا.
([1]) روي الخبر منسوبا إلى الإمام علي في [بحار الأنوار: ٦١ / 84]، وهو ظاهر في عدم صحة نسبته إليه، ولهذا ذكرناه باعتبار معناه، لا باعتبار سنده، وقد علق عليه المجلسي بقوله: (هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة المتداولة، وهي شبيهة بأضغاث أحلام الصوفية)
([2]) كيمياء السعادة، أبو حامد الغزالي، (121)
([3]) كيمياء السعادة، أبو حامد الغزالي، (121)
([4]) كيمياء السعادة، أبو حامد الغزالي، (121)
([5]) كيمياء السعادة، أبو حامد الغزالي، (121)
([6]) ذكرنا هذه المسألة بتفصيل في رسالة (أسرار الأقدار) من سلسلة (رسائل السلام)
([7]) رواه البخاري ومسلم.