الثبات والاستقرار

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عما ورد في النصوص المقدسة من تقلب القلوب وتغيرها، وهل أن ذلك خاص بالنفوس الأمارة، أم أن النفوس المطمئنة يعتريها ذلك التغير والتبدل الذي يعتري غيرها من النفوس.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أنه مثلما تكون الإدارة المتحكمة في عالم السياسة والاقتصاد وغيرها هي المحددة لوجهتها، والضابطة لسلوكاتها ومواقفها؛ فكذلك الأمر في عالم النفس.
فقد جعل الله تعالى بحكمته في خلقه للطائف الإنسانية إدارة وقيادة تتحكم فيها، وبناء على تلك الإدارة تفترق النفوس، وتتميز.. فالنفوس لا تختلف في مكونها، وإنما في الجهة التي تديرها، وتضبط تصرفاتها.
وقد سمى القرآن الكريم تلك الجهة قلبا.. لا بمعناها الحرفي الجسدي الذي نعرفه؛ وإنما بمعناها الآخر، والذي يعني الجهاز المتحكم في الإنسان، والذي يتخذ القرارات المناسبة.
ولعله سمي كذلك لكون القلب هو الجهاز الذي يرسل الدم إلى جميع الجسم، وبذلك صار كأنه المتحكم فيه، ولذلك إن مرض القلب أصاب المرض سائر الجسد، وتوقفه عن العمل يعني الموت.
وهذا القلب الذي جعله الله تعالى مديرا للنفس، هو نفس ما يطلق عليه الفلاسفة: (النفس الناطقة، والروح الباطنة، والنفس الحيوانية المركبة، وهي النفس المدركة العالمة من الإنسان والمطالبة والمعاقبة) ([1])
ولذلك عرفه حكماء المسلمين بأنه (مصطلح على اللطيفة الربَّانية المرتبطة بالقلب الجسماني الصنوبري المودع من الصدر، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان) ([2])
ونحن ـ أيها المريد الصادق ـ وإن كنا لا نعرف بالضبط علاقة تلك اللطيفة الربانية التي وكل الله تعالى لها إدارة النفس الإنسانية بالقلب الجسدي إلا أننا ـ من خلال إيماننا بدقة المصطلحات القرآنية ـ نوقن بأن لهما علاقة وطيدة.
ولكن ذلك لا يدعونا إلى أن نشغل بالنا بالبحث في مثل هذه المسائل ذلك أنها تستدعي معرفة حقيقة تلك اللطيفة، وهو مستحيل لأجهزتنا الحسية، ذلك أن تلك اللطيفة في الحقيقة ليست سوى روح الإنسان، والتي تتسمى بالتسميات المختلفة بحسب أدوارها ووظائفها.
وقد عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (أما سؤالك: ما حقيقة القلب؟ فلم يجئ في الشريعة أكثر من قول الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } [الإسراء: 85].. لأن الروح من جملة القدرة الإلهية، وهو من عالم الأمر، قال الله عز وجل: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].. فالإنسان من عالم الخلق من جانب، ومن عالم الأمر من جانب؛ فكل شيء يجوز عليه المساحة والمقدار والكيفية فهو من عالم الخلق. وليس للقلب مساحة ولا مقدار؛ ولهذا لا يقبل القسمة، ولو قبل القسمة لكان من عالم الخلق، وكان من جانب الجهل جاهلا ومن جانب العلم عالما، وكل شيء يكون فيه علم وجهل فهو محال. وفي معنى آخر هو من عالم الأمر؛ لأن عالم الأمر عبارة عن شيء من الأشياء لا يكون للمساحة والتقدير طريق إليه) ([3])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن كل التقلبات التي تحصل للإنسان، سواء في جانبها الإيجابي أو جانبها السلبي مرتبطة بالقلب، كما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهى القلب) ([4])
وبناء على ما ذكرت لك من قصدية الألفاظ القرآنية؛ فإن القلب لم يسم كذلك إلا لتقلبه الشديد، بناء على كونه هو المختار الذي يختار ما يتناسب معه.. وبناء على كونه صاحب الإرادة الذي يحدد ما يريده بناء على رغبته.
وقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشيرا إلى ذلك: (مثل القلب مثل الريشة تقلبها الرياح بفلاة) ([5])، وتشبيهه بالريشة دليل على تقلبه الشديد، وخاصة إن كانت الرياح، وهي الابتلاءات والاختبارات والفتن شديدة.
وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تقلبها الرياح بفلاة) أي بأرض خالية من العمران إشارة إلى خلو القلب من المكام التي تجعله أكثر هدوءا واستقرارا، وأقوى من أن تؤثر فيه الفتن، ذلك أن الرياح أشد تأثيرًا في الفلوات منها في العمران.
وفي جمع الرياح، بدل الريح، دلالة على كثرة الاختبارات الإلهية، التي تجعل القلب المنفعل لها كثير التقلب، إذ لو استمرت الريح لجانب واحد لم يظهر التقلب؛ كما يظهر من الرياح المختلفة.
ولهذا؛ فإن أول صفات النفس المطمئنة بعد نجاحها في تلك الاختبارات الإلهية، ثباتها واستقرارها وطمأنينتها وعدم تقلبها، لأنها استسلمت للحق، وسلمت له؛ فأعطاها الحق من القوة بحيث لا تتقلب ولا تتبدل، بخلاف تلك النفس التي وصف الله تعالى أصحابها، فقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11]
وقد عبر الله تعالى في الآية الكريمة عن الاستقرار والقبول بالطمأنية، وذلك دليل على أن النفس المطمئنة نفس ثابتة، لأنها تخلصت من المزاجية والأهواء المتقلبة، وإنما خضعت للحق، ولمعاييره وموازينه؛ فصارت هي المتحكمة فيها.
ولكن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يعني العصمة؛ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ مع عصمته المطلقة ـ يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فقيل له في ذلك ؟ قال: (إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله) ([6])
وكان يقول في دعائه: (اللهمّ إنّي أسألك الثّبات في الأمر والعزيمة على الرّشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم)([7])
لكن الله تعالى بلطفه عباده، يمن عليهم بالثبات، ذلك أنه من صفات النفس المطمئنة، ومن الأسباب الكبرى لاستقرارها الاستعانة بالله، وبتأييده، ولذلك تنجح في كل الاختبارات التي تحل بها، كما قال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الاسراء:74)
ومثله قوله تعالى عن المؤمنين: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (ابراهيم:27)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أنه ـ بحسب تقلب قلبك وثباته ـ تكون حقيقتك ومنزلتك في الدنيا والآخرة.. فمنازلها لا يحددها أحد سوى اختيارات قلبك.
وقد روي عن بعض الحكماء أنه سئل عن أوائل الطريق إلى الله تعالى، فقال: (التوبة، وذكر شرائطها، ثم يُنقل من مقام التوبة إلى مقام الخوف، ومن مقام الخوف إلى مقام الرجاء، ومن مقام الرجاء إلى مقام الصالحين، ومن مقام الصالحين إلى مقام المريدين، ومن مقام المريدين إلى مقام المطيعين، ومن مقام المطيعين إلى مقام المحبين، ومن مقام المحبين إلى مقام المشتاقين، ومن مقام المشتاقين إلى مقام الأولياء، ومن مقام الأولياء إلى مقام المقريبن. وذكروا لكل مقام عشر شرائط، إذا عاناها وأحكمها وحلَّت القلوب هذه المحلة أدمنت النظرة في النعمة، وفكرت في الأيادي والإحسان، فانفردت النفوس بالذكر، وجالت الأرواح في ملكوت عزه بخالص العلم به، واردةً على حياض المعرفة، إليه صادرة، ولِبابهِ قارعة، وإليه في محبته ناظرة)([8])
وقد حاول الحكماء ـ بناء على تجاربهم في التزكية والترقية ـ أن يحصوا الكثير من المنازل التي تستقر فيها القلوب، وسموها مقامات، وكلها من المكارم التي دعا إليها القرآن الكريم، وأخبر أنها محال المتقين.
ومن تلك التقسيمات حصرها في أربعة منازل، كل منزل منها يجمع الكثير من فروع الصفات الطيبة، وهي: (الإيمان، والتوبة، والزهد، والعبودية) ([9])
ومنها حصرها في أربعة منازل، وهي: (التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا)([10])
ومنها حصرها في تسعة منازل، هي: (التوبة، والصبر، والشكر، والرجاء، والخوف، والزهد، والتوكل، والرضا، والمحبة)([11])
ومنها حصرها في اثني عشر منزلا، وهي: (التوبة، والمحاسبة، والخوف، والرجاء، والصدق، والإخلاص، والصبر، والورع، والزهد، والرضا، والتوكل، والشكر)([12])
ومنها حصرها في ثلاثة عشر منزلا، وهي: (المحاسبة، والمراقبة، والمشاهدة، والتحقق بالفناء، والبقاء، وعين اليقين، وحق اليقين، وكذلك التوبة، والورع، والزهد، والتوكل، والرضا، والتسليم)
ومنها حصرها في سبعة عشر منزلا، هي: (التوبة والزهد والصبر والفقر والتواضع والخوف والتقوى والإخلاص والشكر والتوكل والرضا واليقين والذكر والأنس والقرب والاتصال والمحبة)
ومنها حصرها في واحد وتسعون منزلا، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال:
ألقَوا إليه من صفات النفس… ما كان فيها قبل ذا من لَبْس
وهي إذا أنكرتَها فَلْتعرف…إحدى وتسعين وقيل: نيِّف([13])
وهو يقصد ذلك تغيير صفات النفس المذمومة، والتي تتحول بالرياضة والمجاهدة إلى صفات محمودة، ذلك أن كل صفة مذمومة يقابلها صفة محمودة.
ومنها حصرها في مائة منزل([14])، مقسومة عشرة أقسام: قسم البدايات، ثمّ قسم الأبواب، ثمّ قسم المعاملات، ثمّ قسم الأخلاق، ثمّ قسم الأصول، ثمّ قسم الأودية، ثمّ قسم الأحوال، ثمّ قسم الولايات، ثمّ قسم الحقائق، ثمّ قسم النهايات.
فأمّا قسم البدايات فهي عشرة منازل: اليقظة. والتّوبة. والمحاسبة. والإنابة. والتفكّر. والتذكّر. والاعتصام. والفرار. والرياضة. والسّماع.
وأما قسم الأبواب، فهو عشرة منازل: الحزن والخوف والإشفاق والخشوع والإخبات والزّهد والورع والتبتّل والرّجاء والرّغبة.
وأما قسم المعاملات، فهو عشرة منازل: الرّعاية والمراقبة والحرمة والإخلاص والتّهذيب والاستقامة والتّوكل والتفويض والثقة والتّسليم.
وأما قسم الأخلاق فهو عشرة منازل: الصّبر والرّضا والشّكر والحياء والصّدق والإيثار والخلق والتّواضع والفتوّة والانبساط.
وأما قسم الأصول، فهو عشرة منازل، وهي: القصد والعزم والإرادة والأدب واليقين والأنس والذّكر والفقر والغنى ومقام المراد.
وأما قسم الأودية، فهو عشرة منازل، وهي: الإحسان والعلم والحكمة والبصيرة والفراسة والتّعظيم والإلهام والسّكينة والطمأنينة والهمّة
وأما قسم الأحوال، فهو عشرة منازل وهي: المحبّة والغيرة والشّوق والقلق والعطش والوجد والدّهش والهيمان والبزق والذّوق.
وأما قسم الولايات، فهو عشرة منازل: اللّحظ والوقت والصّفاء والسّرور والسرّ والنّفس والغربة والغرق والغيبة والتّمكّن.
وأما قسم الحقائق، فهو عشرة منازل، وهي: المكاشفة والمشاهدة والمعاينة والحياة والقبض والبسط والسّكر والصّحو والاتّصال والانفصال.
وأما قسم النّهايات، فهو عشرة منازل، وهي: المعرفة والفناء والبقاء والتّحقيق والتّلبيس والوجود والتّجريد والتّفريد والجمع والتّوحيد.
وغيرها من التقسيمات الكثيرة، التي تحاول أن تعرف بالطريق إلى الله، وتبين المنازل التي ينزلها السالكون، ومثلها قد يوجد سائر الأديان التي سبقتنا، ففي علم السلوك المسيحي يقُسم الطريق إلى ثلاث مراحل: (مرحلة الطهارة، ومرحلة التنوير أو الاشراق، ومرحلة الاتحاد) ([15])
وفي بعض الديانات الهندية يمر السالك بخمس مراحل: (مرحلة الزاهد الناسك.. ومرحلة المعلم.. ومرحلة الداعية.. ومرحلة الكامل.. ومرحلة الامام وهو الذي تخلص من أدران المادة) ([16])
وفي البوذية يقطع السالك اربع مراحل وهي: (العزلة التامة، ومحاربة غرائز النفس ورغباتها، والقضاء النهائي على مختلف الشهوات، والتحرر والانطلاق) ([17])
لكن كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يساوي شيئا أمام ما ورد في النصوص المقدسة التي فصلت في ذكر المكارم ومنازلها وأحوالها، حتى أن المتأمل فيها لا يحتاج إلى غيرها.
ففي سورة البقرة، يصف الله تعالى المتقين بأنهم { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [البقرة: 3 – 5]
وفي سورة المؤمنون، يصف الله تعالى المؤمنين المفلحين بأنهم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 – 11]
وهكذا نجد الأوصاف الكثيرة التي يمكن أن تقتبس منها ـ أيها المريد الصادق ـ الكثير من المقامات التي تنزلها النفس المطمئنة.
ومثل ذلك ما ورد في السنة المطهرة؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (عشرون خصلة في المؤمن، فإن لم يكن فيه لم يكمل إيمانه: الحاضرون الصلاة، والمسارعون إلى الزكاة، والحاجون لبيت الله الحرام، والصائمون في شهر رمضان، والمطعمون المسكين، والماسحون رأس اليتيم، المطهرون أظفارهم، المتّزرون على أوساطهم، الذين إن حدّثوا لم يكذبوا، وإن وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإن تكلموا صدقوا، رهبان الليل، وأسود النهار، وصائمون النهار، وقائمون الليل، لايؤذون جاراً، ولا يتأذّى بهم جار، الذين مشيهم على الأرض هوناً، وخطاهم إلى بيوت الأرامل، وعلى أثر الجنائز) ([18])
ومثل ذلك ما ورد في أحاديث أئمة الهدى التي لا تستيقي إلا من بحار القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومنها ذلك الوصف الطويل للمتقين، المروي عن الإمام علي، والذي يقول فيه: (فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصّواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التّواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم، نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزّلت في الرّخاء، ولو لا الأجل الّذي كتب اللّه عليهم، لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقا إلى الثّواب، وخوفا من العقاب) ([19])
إلى آخر الأوصاف الكثيرة التي تجتمع فيها كل الفضائل، ومثله ما روي عن الإمام السجاد في وصف المؤمن، فقد قال: (المؤمن يصمت ليسلم، وينطق ليعلم، لايحدث أمانته الأصدقاء، ولا يكتم شهادته من البعداء، ولا يعمل شيئاً من الخير رياءً، ولا يتركه حياءً، إن زكي خاف مما يقولون، ويستغفر الله مما لا يعلمون، لايغره قول من جهله، ويخاف إحصاء ما عمله) ([20])
وعن الإمام الصادق أنه قال: (ينبغي للمؤمن أن يكون فيه ثمان خصال: وقور في الهزاهز، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه اللهّ، لايظلم الأعداء، ولا يتحامل للاصدقاء، بدنه منه في نصب، والناس منه في راحة، إن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والصبر أمير جنوده، والرفق أخوه، واللين والده)([21])
وعنه قال: (المؤمن له قوة في دين، وحزم في لين، وإيمان في يقين، وحرص في فقه، ونشاط فيهدى، وبرّ في استقامة، وعلم في حلم، وكيس في رفق، وسخاء في حق، وقصد في غنى، وتجمل في فاقة، وعفوفي قدرة، وطاعة لله في نصيحة، وانتهاء في شهوة، وورع فيرغبة، وحرص في جهاد، وصلاة في شغل، وصبرفي شدة، وفي الهزاهز وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور، لايغتاب، ولا يتكبر، ولا يقطع الرحم، وليس بواهن، ولا فظ ولاغليظ، ولايسبقه بصره، ولا يفضحه بطنه، ولا يغلبه فرجه، ولا يحسد الناس، ولا يغمز، ولا يعير، ولا يسرف، ينصر المظلوم، ويرم المسكين، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، لا يرغب في عز الدنيا، ولايجزع من ذلها، للناس همّ قد أقبلوا عليه، وله همّ قد شغله، لايُرى في حلمه نقص، ولا في رأيه وهن، ولا في دينه ضياع، يرشد من استرشده، وينصح من استشاره، ويساعد من يساعده، ويكيع([22])عن الخنا والجهل) ([23])
وفي حديث آخر قال: (مكارم الأخلاق عشرة: اليقين، والقناعة، والصبر، والشكر، والحلم، وحسن الخلق، والسخاء والمروءة، والغيرة، والشجاعة) ([24])
وغيرها من الروايات
الكثيرة التي يغنيك التأمل فيها ـ أيها المريد الصادق ـ عن كل ما كتب حول مقامات
السالكين، والتي قد يختلط فيها الحق بالباطل، والشرع بالهوى.. فاحذر من أن تسلم
دينك لمن ينحرف به عن سواء السبيل.
([1] ) الكليات، الكفوي: ص 754.
([2] ) التعريفات، الجرجاني: ص 203.
([3] ) كيمياء السعادة، (126)
([4] ) البخاري، ج 3، ص 53، مسلم، ج 3، ص 1221.
([5] ) ابن ماجه، برقم: (88)
([6]) ابن ماجه(199)
([7]) النسائي(3/ 54) والترمذي(3407) وأحمد ـ المسند 4/ 125.
([8] ) حلية الأولياء، ج10، ص248.
([9]) عوارف المعارف في هامش الإحياء: (4/261).
([10]) اللمع، (ص:68 – 80).
([11]) قوت القلوب: (1/178).
([12]) حقائق عن التصوف، (ص:269).
([13]) من قصيدة (المباحث الأصلية).
([14] ) هذا التقسيم للمقامات هو لأبي إسماعيل الهروي، في كتابه [منازل السائرين]، والذي لقي اهتماما كبيرا عند الشراح بمختلف طوائفهم ومذاهبهم.
([15] ) التصوف طريقة وتجربة ومذهبا لمحمد كمال جعفر ص (92)
([16] ) نشأة الفلسفة الصوفية لعرفان عبدالحميد ص(151)
([17] ) نشأة الفلسفة الصوفية لعرفان عبدالحميد ص(151 – 152)
([18] ) الكافي 2: 182
([19] ) نهج البلاغة: الخطبة رقم (193)
([20] ) الكافي 2: 182
([21] ) الكافي 2: 181 / 2، الخصال: 406 / 1.
([22] ) كع عن الشيء: حبس نفسه عنه.
([23] ) الكافي 2: 182
([24] ) الكافي 2 : 46.