العزلة التربوية

العزلة التربوية

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن العزلة وأنواعها، ودورها في التزكية والترقية، والفرق بينها وبين الرهبانية التي لا يزال بعض أهل الكتاب يمارسونها.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن العزلة ـ بضوابطها الشرعية ـ من أحسن المدارس التربوية، لما لها من دور كبير في التزكية والترقية، ولذلك وردت النصوص المقدسة بالحديث عنها، والثناء على أهلها.

وحتى لا تقع في سوء الفهم لتلك النصوص، مثلما وقع لبعض السالكين إلى الله، أذكر لك أن العزلة التربوية نوعان: عزلة دائمة، وعزلة مؤقتة بوقت محدود.

وسأشرح لك كلا النوعين، وآثارهما في التزكية والترقية، وما يدل عليهما من النصوص المقدسة.

العزلة الدائمة:

أما العزلة الأولى؛ فهي تلك التي يضطر إليها بعض المؤمنين نتيجة سكنه في بيئة منحرفة تماما، وقد عجز عن إصلاحها، وعجز مثل ذلك عن الرحيل عنها؛ فاضطر لأجل ذلك إلى السكن بين أهلها من غير أن تكون له أي مخالطة معهم، لأنه علم أن تلك المخالطة ستضر بدينه، وقد تضر بدنياه.

ومثل هذا من رأى أن مجالس أصدقائه وجيرانه ممتلئة بالآفات من الغيبة والنميمة وغيرها، وقد عجز أن يصلحهم، أو يوجههم؛ فاضطر إلى مقاطعتهم، خشية أن تسري إليه أدواءهم، أو يكون شريكا لهم في جرائمهم.

وإلى هذا النوع الإشارة بقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام ـ عندما عجز عن إصلاح قومه ـ: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾ [مريم: 48]، ثم بين الله تعالى بركات تلك العزلة عليه، فقال:﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾ [مريم: 49، 50]

ومثل ذلك قوله عن أصحاب الكهف: ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا﴾ [الكهف: 16]

ومثل ذلك ما ورد في ذم أولئك الذين آثروا الانحراف بحجة كونهم مستضعفين، فلم يعتزلوا أقوامهم، ولا رحلوا عنهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ (النساء:97)

وإلى هذا الصنف الإشارة بتلك الأحاديث التي تدعو إلى اعتزال الناس في الفتن، خاصة بعد العجز عن الإصلاح، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم)([1]) قالوا: فما تأمرنا؟ قال:(كونوا أحلاس بيوتكم)([2]

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ستكون فتنٌ القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي، من تشرف إليها تستشرفه، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به)([3]

وقال: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)([4]

وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الفتن، فسئل: يا رسول الله،من خير الناس فيها؟ قال:(رجلٌ في ماشية يؤدي حقها ويعبد ربه، ورجلٌ آخذ برأس فرسه يخيف العدو ويخوفونه)([5]

وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم من هذه الأحاديث القعود عن نصرة أهل الحق إن عرفتهم بأوصافهم التي ذكرها القرآن الكريم، مثلما فعل أولئك الذين قعدوا عن نصرة الإمام علي، بحجة اعتزال الفتن، مع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر لهم الآيات والعلامات الدالة على أهل الحق، وأوجب عليهم نصرتهم.

ولذلك لا تجوز العزلة إلا عند اختلاط الأمور، وعدم تبين الحق من الباطل، أما عند التمييز بينهما، والقدرة على نصرة الحق؛ فإن الحياد والاعتزال ليس سوى نصرة للباطل.

وإلى النوع من العزلة أيضا ما ورد في كلمات أئمة الهدى التي ترغب في العزلة، وتعتبرها السبيل إلى النجاة من الفتن، كما قال الإمام علي: (قال عيسى بن مريم: (طوبى لمن كان صمته فكرا، ونظره عبرا، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته، وسلم الناس من يده ولسانه)([6])

وقال الإمام الباقر: (لا يكون العبد عابدا لله حق عبادته حتى ينقطع عن الخلق كلهم إليه، فحينئذ يقول: (هذا خالص لي فيقبله بكرمه)([7])

وقال الإمام الصادق: (إن الله جلّ وعزّ أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: (إن أحببت أن تلقاني غداّ في حظيرة القدس، فكن في الدنيا وحيداً غريباً مهموماً محزوناً مستوحشاً من الناس، بمنزلة الطير الواحد، الذي يطير في أرض القفار، ويأكل من رؤوس الأشجار، ويشرب من ماء العيون، فإذا كان الليل آوى وحده ولم يأو مع الطيور، أستأنس بربّه، واستوحش من الطيور)([8])

وقال: (إن قدرتم أن لا تُعرفوا فافعلوا، وما عليك إن لم يثن عليك الناس ؟.. وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت عند الله محمودا ؟!)([9])

وقال: (إنّ من أغبط أوليائي عندي عبدا مؤمنا إذا حظّ من صلاح أحسن عبادة ربه، وعَبَد الله في السريرة وكان غامضا في الناس، فلم يُشر إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا فصبر عليه، تعجّلت به المنية فقلّ تراثه، وقلّت بواكيه ـ ثلاثا ـ)([10])

وقال: (طوبى لعبد نوومة، عرف الناس قبل معرفتهم به)([11])

وقال: (ما من مؤمن إلا وقد جعل الله له من إيمانه أنسا يسكن إليه، حتى لو كان على قُلّة جبل لم يستوحش)([12])

وقال الإمام الكاظم في وصيته لهشام بن الحكم: (يا هشام.. الصبر على الوحدة علامة على قوة العقل، فمن عقل عن الله اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند الله، وكان الله أنيسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزّه من غير عشيرة.. يا هشام.. قليل العمل مع العلم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الجهل مردود)([13])

وقال الإمام العسكري: (الوحشة من الناس على قدر الفطنة بهم)([14])

وقد قال بعض الحكماء يشير إلى ضرورة هذه العزلة ودورها في التزكية: (من خالط الناس فلا يخلو عن مشاهدة المنكرات، فإن سكت عصى الله به وإن أنكره تعرّض لأنواع من الضرر ربّما يجرّه الخلاص منها إلى معاصي هي أكثر ممّا نهي عنه ابتداء، وفي العزلة خلاص من هذا فإنّ الأمر في إهماله شديد والقيام به شاقّ) ([15])

ثم ذكر من الأمثلة على ذلك الغيبة، فقال: (أمّا الغيبة وهي من المهلكات؛ فإن التحرّز عنها مع المخالطة عظيم لا ينجو منها إلّا الصدّيقون، فإنّ عادة الناس كافّة التمضمض بأعراض الناس والتفكّه بها، والتنقّل بحلاوتها، فهي طعمتهم ولذّتهم، وإليها يستروحون من وحشتهم في الوحشة؛ فإن خالطتهم ووافقت أثمت وتعرّضت لسخط الله، وإن سكت كنت شريكا والمستمع أحد المغتابين، وإن أنكرت أبغضوك وتركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادوا غيبة إلى الغيبة، وربّما زادوا على الغيبة وانتهوا إلى الاستخفاف والشتم)([16])

ومن الأمثلة عن الضرورات الداعية إليها ما سماه [مسارقة الطبع]، بسبب (ما يشاهده من أعمال الناس وأخلاقهم فهو داء دفين قلّما يتنبّه له العقلاء فضلا عن الغافلين، فلا يجالس الإنسان فاسقا مدّة مع كونه منكرا عليه في باطنه إلّا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لأدرك بينها تفرقة في النفرة عن الفساد واستثقاله إذ يصير الفساد بكثرة المشاهدة هيّنا على الطبع ويسقط وقعه واستعظامه له، وإنّما الوازع عنه شدّة وقعه في القلب فإذا صار مستصغرا بطول‏ المشاهدة أو شك أن تنحل القوّة الوازعة، ويذعن الطبع للميل إليه أو لما دونه ومهما طالت مشاهدته للكبائر من غيره استحقر الصغائر من نفسه، ولذلك يزدري الناظر إلى الأغنياء نعمة الله عليه فيؤثر مجالستهم في أن يستصغر ما عنده، ويؤثر مجالسة الفقراء في استعظام ما أتيح له من النعم، فكذلك النظر إلى المطيعين والعصاة وهذا تأثيره في الطبع، فمن يقصر نظره على ملاحظة أحوال الصالحين في العبادة والتنزّه عن الدّنيا فلا يزال ينظر إلى نفسه بعين الاستصغار، وإلى عبادته بعين الاستحقار، وما دام يرى نفسه مقصّرا، لا يخلو عن داعية الاجتهاد رغبة في الاستكمال واستيمالا للاقتداء، ومن نظر إلى الأحوال الغالبة على أهل الزّمان وإعراضهم عن الله، وإقبالهم على الدّنيا، واعتيادهم للمعاصي استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة في الخير يصادفها في قلبه، وذلك هو الهلاك، ويكفي في تغيير الطبع مجرّد سماع الخير والشرّ فضلا عن مشاهدته) ([17])

وإلى هذه المعاني الإشارة بما روي عن بعضهم أنه لزم المقابر والدّفاتر فقيل له: في ذلك فقال: لم أر أسلم من الوحدة، ولا أوعظ من قبر، ولا جليسا أمتع من دفتر.

و كان بعضهم يريد الحجّ وأراد آخر مصاحبته، فقال له: دعنا ويحك نتعايش بستر الله إنّي أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه.

وقال بعضهم: جئت إلى مالك بن دينار وهو قاعد وحده وإذا كلب قد وضع حنكه على ركبته فذهبت أطرده فقال لي: دعه يا هذا، هذا لا يضرّ ولا يؤذي وهو خير من الجليس السوء.

وقيل لبعضهم: ما حملك على أن تعتزل الناس؟ قال: خشيت أن أسلب ديني ولا أشعر.

و قال آخر: اتّقوا الله واحذروا الناس فإنّهم ما ركبوا ظهر بعير إلّا أدبروه، ولا ظهر جواد إلّا عقروه، ولا قلب مؤمن إلّا خرّبوه.

و قال آخر: أقلل المعارف فإنّه أسلم لدينك وقلبك، وأخفّ لسقوط الحقوق عنك لأنّه كلّما كثرت المعارف كثرت الحقوق وعسر القيام بالجميع.

وكل هذا ـ أيها المريد الصادق ـ لا يؤخذ على إطلاقه، وإنما باعتبار المحل الذي يكون فيه المؤمن؛ فإن كان بين ناس مؤمنين صالحين تفيده صحبتهم، وتهذبه وتؤدبه؛ أو كان بين ناس يمكنهم أن يستفيدوا منه، أو يتأدبوا على يديه؛ فخلطة هؤلاء أفضل، لأنه بين أن يستفيد منهم، أو يفيدهم.

ولذلك لم يبق إلا أولئك المنحرفون المنغلقون الذين سدوا آذانهم عن سماع المواعظ أو النصائح، فلذلك كان الأولى تركهم، وسؤال الهداية لهم؛ فلعلها تأتيتهم من أبواب أخرى غير بابه.

ولهذا أمر الله تعالى الرسل عليهم السلام باعتزال أقوامهم بعد اليأس منهم، كما قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف:110)

العزلة المؤقتة:

أما العزلة الثانية، وهي المؤقتة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تلك التي يطلق عليها بعضهم [الخلوة]، ويقصدون بها الانفراد بالنفس مدة من الزمن تطول أو تقصر، لتهذيبها وتزكيتها وترقيتها ومراجعة مواقفها، وطولها أو قصرها خاضع لتحقق الغرض منها.

وقد أشار بعض الحكماء إليها في قوله: (ما نفع القلب شي ء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة)؛ فالغرض من هذه العزلة التفكر في النفس وأخلاقها وكيفية تقويمها، وكيفية الرقي بها إلى معارج الكمال المهيأة لها.

وقد علق بعضهم على تلك الحكمة، فقال: (الخلوة هي انفراد القالب عن الناس، إذ لا ينفرد القلب بالله إلا إذا انفرد القالب. والفكرة سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. ولا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحِمْية، والفكرة كالدواء، فلا ينفع الدواء بغير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها ولا نهوض بفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفريغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جَولاَن القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه وغاية صحته، وهو الذي سماه الله القلب السليم، قال الله تعالى في شأن القيامة: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ [الشعراء: 88، 89])([18])

وشبه تأثير الخلوة التربوي بتأثير الحمية، فقال: (إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت، ولا ينفعها إلا الحمية، وهو قلة موادها، ومنعها من كثرة الأخلاط (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء). وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر واستحوذ عليه الحس مرض، وربما مات، ولا ينفعه إلا الحمية منها، والفرار من مواطنها، وهي الخلطة، فإذا اعتزل الناس واستعمل الفكرة نجح دواؤه، واستقام قلبه، وإلا بقي سقيماً حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك والخواطر الرديئة، نسأل الله العافية)([19])

وذكر حكيم آخر سر تلك الفوائد، وعلاقتها بالنفس واستعداداتها، فقال: (وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه ؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة)([20])

وذكر حكيم آخر دورها في الترقية، فقال (إن المتأهب الطالب للمزيد، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة والذكر، وفرَّغ المحل من الفكر، وقعد فقيراً لا شيء له عند باب ربه، حينئذ يمنحه الله تعالى، ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده خضر فقال: ﴿عبْداً مِنْ عِبادِنا آتيناهُ رحمَةً مِنْ عندِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا علماً﴾ [الكهف: 65]. وقال: ﴿واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]. قال: ﴿إنْ تتَّقوا اللهَ يَجعَلْ لكُمْ فُرقاناً﴾ [الأنفال: 29]. وقال: ﴿ويجعلْ لَكُمْ نُوراً تمشونَ به﴾ [الحديد: 28].. فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلَّت هيبته وعظمت منته، من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة، بل كل صاحب نظر وبرهان، ليست له هذه الحالة)([21])

وما ذكروه ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك تشبيهه بالمريض الذي قد يعزل في محال خاصة، إلى أن تعود إليه الصحة، وحينها يمكنه أن يعود للاختلاط بالمجتمع من جديد.

ويدل لهذا النوع من العزلة قوله تعالى: ﴿واذكرِ اسم ربِّكَ وتَبَتَّلْ إليه تبتيلاً﴾ [المزمل: 8]، فالآية الكريمة تدعو إلى التبتل، وهو الانقطاع التام لله تعالى، وهو نفس معنى الخلوة.

ومما يدل عليه من السنة أن (أولُ ما بُدِىءَ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حِراءَ؛ فيتَحَنَّثُ فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، ويتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء)([22])

وقد علق بعضهم على هذا الحديث بقوله: (في الحديث دليل على أن الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه، أتاه هذا الخير العظيم، وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم له من مقامات الولاية، وفيه دليل على أن الأوْلى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في أول أمره يخلو بنفسه.. وفيه دليل على أن البداية ليست كالنهاية، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول ما بُدِىءَ في نبوته بالمرائي، فما زال صلى الله عليه وآله وسلم يرتقي في الدرجات والفضل، حتى جاءه المَلكُ في اليقظة بالوحي، ثم ما زال يرتقي، حتى كان كقاب قوسين أو أدنى، وهي النهاية. فإذا كان هذا في الرسل فكيف به في الأتباع؟! لكن بين الرسل والأتباع فرق، وهو أن الأتباع يترقون في مقامات الولاية ـ ما عدا مقام النبوة، فإنه لا سبيل لهم إليها، لأن ذلك قد طُويَ بساطه ـ حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا، وهو أعلى مقامات الولاية)([23])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ وأنا أنصحك بأن تتخذ لنفسك في كل يوم أوقاتا، تتفرغ فيها لنفسك، وتهذيبها وتزكيتها وترقيتها.. وهكذا يمكنك أن تتخذ في كل أسبوع أو شهر مدة من الزمن، تراجع فيها مواقفك، وتحاسب فيها نفسك، حتى لا يسلب المجتمع حقيقتك عنك.. فأنت ستذهب إلى الله وحدك، وليس مع مجتمعك.. فاحذر أن يغروك عن نفسك، وتصبح تابعا ذليلا لهم، مع أن الله تعالى خلقك حرا عزيزا.

واسع ـ أيها المريد الصادق ـ في تلك الخلوات التي تختلي فيها بنفسك، وتراجع فيها مواقفك أن تكون صارما حازما؛ فكل من رأيته حجابا بينك وبين الحق، فاقطعه وأزله وارفعه.. فلا خير فيمن يحجبك عن ربك، ولا خير فيمن لا يعينك على تزكية نفسك.


([1]) أبو داود (4259) والترمذي (2204)

([2]) أبو داود (2262)

([3]) البخاري (3601) ومسلم (2886).

([4]) البخاري (19).

([5]) الترمذي (2177) وأحمد (6/419)

([6]) الخصال 1/142.

([7]) بحار الأنوار: 67/111، وعدة الداعي.

([8]) أمالي الصدوق ص119.

([9])أمالي الصدوق ص396.

([10]) قرب الإسناد ص28.

([11]) بحار الأنوار: 67/110، وكتاب الحسين بن سعيد.

([12]) بحار الأنوار: 67/111، وعدة الداعي.

([13]) بحار الأنوار: 67/112، وعدة الداعي.

([14]) بحار الأنوار: 67/111، وعدة الداعي.

([15]) إحياء علوم الدين (2/ 228)

([16]) إحياء علوم الدين (2/ 228)

([17]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏4، ص: 17

([18]) المنقذ من الضلال، ص131.

([19]) إيقاظ الهمم في شرح الحكم، (1/30)

([20]) إحياء علِ الدين (3/ 76)ا

([21]) الفتوحات المكية، (1/ 280)

([22]) صحيح البخاري (1/ 3)

([23]) بهجة النفوس شرح مختصر البخاري، (1/10)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *