المرشد المربي

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن مشايخ التربية والإرشاد الذين ذكرهم علماء التزكية، واعتبروهم من الضرورات التي يحتاج إليها السالك، والتي لا يمكنه تزكية نفسه، ولا ترقيتها من دونهم.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك ـ ابتداء ـ أن التزكية والترقية وظائف شرعية مرتبطة بالنبوة، وهي الوحيدة المخولة ببيان ضرورة أي شيء، أو عدم ضرورته.. ذلك أنها تستمد معرفة الحقائق من المصادر المعصومة، لا التي اختلط فيها الحق بالباطل، والمقدس بالمدنس.
ولذلك؛ فإن ما يذكرونه حول هذه المسائل ممتلئ بدخن كثير، ولا ينجو منه إلا من لم يترك دينه لأحد من الناس.. مهما كانت مرتبته.. ومهما كانت الدعاوى التي يدعيها.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لبعض أصحابه: (دينك دينك إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ.. خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا)([1])
وقال الإمام الصادق: (إيّاك أن تنصب رجلا دون الحجّة فتصدّقه في كلّ ما قال)([2])
وقال الإمام الباقر: (كلّ من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول، وهو ضالّ متحيّر، والله شانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلّت عن راعيها وقطيعها، فهجمت ذاهبة وجائية يومها، فلمّا جنّها اللّيل بصرت بقطيع من غير راعيها، فحنّت إليها واغترّت بها، وباتت معها في مربضها، فلمّا أن ساق الرّاعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيّرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها فحنّت إليها، واغترّت بها، فصاح بها الرّاعي الحقي براعيك وقطيعك فإنّك تائهة متحيّرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيّرة نادّة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها ويردّها، فبينا هي كذلك إذا اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وكذلك والله من أصبح من هذه الامّة لا إمام له من الله عزّ وجلّ ظاهرا عادلا أصبح ضالاّ تائها)([3])
ولذلك، احذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون تابعا لكل ما يذكرونه في هذه الجوانب، وخاصة تلك التي يدعون فيها إلى التبعية المطلقة للشيخ حتى لو انحرف، وعدم تجويز الإنكار عليه.. فكل ذلك مخالف للشريعة، وهو نفس ما حصل للأديان التي حرفت، والتي تحول فيها رجال الدنيا إلى معصومين لا ينتقدون، ولا ينصحون، ولا يسددون.
ولكن ذلك لا يعني ـ أيها المريد الصادق ـ عدم أهمية الشيخ المربي، إن توفرت فيه شروط التربية؛ بل هو مثل الأستاذ ـ إن كان عالما وصالحا ـ فإنه سيختصر لك الكثير من الجهد.. لكنه إن كان جاهلا ومنحرفا، فسيضلك، ويعديك بانحرافه وجهله.
لذلك إن أردت أن تحتاط في هذا الجانب؛ فعليك أن تنظر في أمرين:
أولهما: أن تعرف حدود دور الشيخ المربي، وأنها لا تتجاوز نقل تجربته في التهذيب والتزكية إليك، وأنه ليس معصوما، وأنك لست ملزما باتباعه جميع حياتك.. بل قد تستفيد منه في نفس الوقت الذي تستفيد من غيره.. فإن رأيت نفسك قد استغنت عنه؛ فيمكنك تركه، مثلما تترك أستاذك الذي علمك وأدبك بعد أن ينتهي دوره، مع بقاء احترامك له.
ثانيهما: أن تعرف أهلية المرشد الذي تريد أن تتخذه أستاذا لنفسك، وهل هو صالح لذلك، أم ليس صالحا، حتى لا يتلاعب بنفسك المتلاعبون والتجار والدجاجلة.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأشرحه لك من كلا الجانبين.
أما وظيفة المرشد ـ أيها المريد الصادق ـ فهي محصورة في توجيهك إلى ما تهذب به نفسك، بعد تشخيصه لأدوائك، مثلما يفعل الطبيب الذي يعالج الأمراض بعد تعرفه عليها.
وقد قال بعضهم معبرا عن هذا الدور: (يحتاج المريد إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة، ليهديه إلى سواء السبيل، فإن سبيل الدين غامض! وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه، قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير، فقد خاطر بنفسه وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها، فإنها تجف على القرب وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر، فمعتصم المريد شيخه فليتمسك به)([4])
ثم ذكر بعض الممارسات التي يقوم بها الشيخ المربي عند تربيته المريدين، فذكر أن على (الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم، وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم، بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته)([5])
ثم ذكر نماذج عما يمارسه الشيخ المربي مع تلاميذه ومريديه فإن (كان المريد مبتدئا جاهلا بحدود الشرع، فيعلمه أولا الطهارة والصلاة وظواهر العبادات، وإن كان مشغولا بمال حرام أو مقارفا لمعصية، فيأمره أولا بتركها، فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه، فإن رأى معه مالا فاضلا عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه، وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يمارس ما يكسر كبره وعز نفسه.. وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى قلبه مائلا إلى ذلك فرحا به ملتفتا إليه استخدمه في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة، فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار، فلا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنما، فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله ومن راعى في ثوبه شيئا سوى كونه حلالا وطاهرا مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه)([6])
وهكذا قد يضطر الشيخ أن يمنع بعض المباحات عن المريد أو يكلفه ببعض ما لم يوجبه الشرع لتستقيم نفسه بذلك، وقد ذكر القرآن الكريم نهي طالوت لجنده من شرب الماء مع توفره، بل مع كثرته، كما قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ [البقرة: 249]، وذلك لأن الجندي الذي لا يطيق أن يصبر على الماء لا يمكنه أن يصبر على مواجهة جالوت.
هذه هي حدود وظيفة المرشد، والتي لا يصح له أن يتجاوزها، أما تلك الدعاوى العريضة التي يزعمها بعض المشايخ لأنفسهم، وأن في إمكانهم تحويل مريديهم إلى صديقين، ولو من غير سلوك، ولا مجاهدات، ولا رياضات روحية؛ فإن ذلك لم يكن للرسل عليهم السلام أنفسهم.. فقد صحبهم من انحرفوا عنهم، ومن تحولوا إلى فسقة ومفسدين، فهل يمكن أن تكون قدرة الشيخ أعظم من قدرة الرسل عليهم السلام؟
لذلك لا تغتر ـ أيها المريد الصادق ـ إن أتاح الله لك صحبة بعض المشايخ الصالحين؛ فالعبرة ليست في الشيخ وإنما في صدقك وإرادتك وإخلاصك.
أما أهلية المرشد، وقدرته على أداء وظيفته في التزكية والترقية؛ فقد نص الحكماء عليها تحذيرا للمريدن من أن يقعوا بين أيدي الدجالين.
وقد عبر بعضهم عن ذلك، فقال: (قد درج أشياخ الطريق كلهم على أن أحدا منهم لم يتصدر للطريق إلا بعد تبحره في علوم الشريعة، ولم يكن أحد في عصر ممن العصور إلا وعلماء ذلك الزمان يتواضعون له ويعملون بإشارته)([7])
وقال آخر: (من كان فيه خمس خصال لا تصح مشيخته: الجهل بالدين.. وإسقاط حرمة المسلمين.. والدخول فيما لايعني.. واتباع الهوى في كل شيء.. وسوء الخلق من غير مبالاة)
وقال آخر: (الشيوخ هم العارفون بالكتاب والسنة، قائلون بها في ظواهرهم، متحققون بها في سرائرهم، يراعون حدود الله تعالى، ويوفون بعهد الله، قائمون براسم الشريعة، لا يتأولون في الورع، آخذون بالاحتياط، مجانبون لأهل التخليط، مشفقون على الأمة، لا يمقتون أحدا من العصاة، يحبون ما أحب الله ويبغضون ما أبغض الله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر المجمع عليه، يسارعون في الخيرات، ويعفون عن الناس، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، يميطون الأذى عن الطريق طريق الله وطريق الناس، يؤدون حقوق الناس، يبرون عباد الله، هينون لينون رحماء بين خلق الله)
وقال آخر: (الشيخ هو من شهدت له ذاتك بالتقديم، وسرك بالتعظيم.. الشيخ: من هذبك بأخلاقه، وأدبك بإطراقه، وأنار باطنك بإشراقه)([8])
وقال آخر: (الشيخ: من إذا نصحك أفهمك، وإذا قادك دلك، وإذا أخذك نهض بك.. الشيخ: هو من يلزمك الكتاب والسنة، ويبعدك عن المحدثة والبدعة.. الشيخ: ظاهره الشرع، وباطنه الشرع، الطريقة والشريعة)([9])
وقال آخر: (ينبغي لمن عزم على الاسترشاد وسلوك الرشاد أن يبحث عن شيخ من أهل التحقيق سالك للطريق تارك لهواه راسخ القدم في خدمة مولاه، فإذا وجهد فليمتثل ما أمر، ولينته عما نهى عنه وزجر)([10])، وقال: (لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله)
وقال: (ليس شيخك من سمعت منه، وإنما شيخك من أخذت عنه.. وليس شيخك من واجهتك عبارته وإنما شيخك الذي سرت فيك إشارته.. وليس شيخك من دعاك إلى الباب وإنما شيخك الذي رفع بينك وبينه الحجاب.. وليس شيخك من واجهك مقاله وإنما شيخك الذي نهض بك حاله.. شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك على المولى.. شيخك هو الذي ما زال يحدو مرآة قلبك حتى تجلت فيها أنوار ربك أنهضك إلى الله فنهضت إليه وسار بك حتى وصلت إليه وما زال محاذيا لك حتى ألقاك بين يديه فزجَّ بك في نور الحضرة وقال: ها أنت وربك)([11])
هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فأصخ بسمع قلبك له، واستفد من كل من يدعوك إلى تزكية نفسك وتهذيبها، واجعله أستاذا لك، ما دام يأمرك بذلك.
فإن انحرف عنه إلى
ما لا علاقة له به؛ فاحذر منه، وابحث عن غيره؛ فالله تعالى لم يضمن لك العصمة فيمن
يوجهك، وإنما ضمن لك العصمة في كلماته المقدسة.. فاجعلها إمامك الذي به تهتدي،
ودستورك الذي إليه تتحاكم.
([1]) رواه ابن عدي.
([2]) رواه الصدوق في معانى الاخبار ص 169.
([3]) الكافي ج 1 ص 375.
([4]) إحياء علوم الدين (3/56)
([5]) إحياء علوم الدين (3/ 61)
([6]) إحياء علوم الدين (3/ 61)
([7]) الأنوار القدسية للإمام الشعراني ص (63).
([8]) الشيخ ابن عباد الرندي، غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية، ج 2 ص 174.
([9]) الشيخ أحمد الرفاعي، الحكم الرفاعية، ص 7.
([10]) مفتاح الفلاح ص 30.
([11]) لطائف المنن ص 167.