الترويح الروحي

الترويح الروحي

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عما يمارسه بعض السالكين من مزج ذكر الله تعالى أو الصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالشعر والغناء، وعقد المجالس الخاصة بذلك، والتي قد يتمايل فيها الحضور طربا مثلما يحصل في مجالس اللهو والطرب، ويعتبرون ذلك من ميسرات السلوك، والمعينات عليه.

وذكرت لي أدلة من ينكر ذلك، ويعتبرونه ضلالة وبدعة محرمة، تتنافى مع السلوك إلى الله تعالى، والذي يلزم فيه الوقار والورع والاحتياط.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التحاكم في مثل هذه الأشياء وغيرها، لا يعود للأمزجة، وإنما للشريعة؛ فهي التي تفرق بين ما يرضاه الله، وما يسخط عليه.

ولذلك فقد نظرت بتأن وتدبر فيما ذكرت من أدلة المحرمين لذلك؛ فلم أجد دليلا واحدا مقنعا.. ومن الأمثلة على ذلك استدلالهم بقوله تعالى: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)﴾ [النجم: 59 – 61]، وأن ابن عباس فسر (سامدون) بالغناء بلغة حمير، فإن هذا ـ مع كونه ليس دليلا، فالتفسير ليس قرآنا، وإنما هو فهم ورأي ـ إلا أن ذلك يستدعي أن يحرَّم الضحك وعدم البكاء أيضا، لأن الآية الكريم ذكرت الضحك والبكاء.

ومثل ذلك ما ذكرت عن بعضهم من استدلاله بقوله تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ﴾ [الشعراء: 224]، فإن الآية الكريمة تقصد ذلك الشعر المستخدم في أغراض غير شرعية، ولهذا ورد الاستثناء بعد ذلك في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا﴾ [الشعراء: 227]، فهذه الآية الكريمة تنفي الغواية عن الذين يذكرون الله تعالى كثيرا في شعرهم.

 ومثل ذلك ما ذكرت عن بعضهم من استدلاله بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: 64]، وأن ابن عباس فسرها بالغناء، فإن ذلك وإن كان صحيحا.. لكن الغناء مثيل الشعر، حسنه حسن وقبيحه قبيح.. بالإضافة إلى أن الصوت الذي يستعمله الشيطان ليس خاصا بالغناء، وإنما بكل وسيلة تكون سببا إلى معصية الله، بالإضافة إلى أن الغناء وإن استعمله الشيطان في سبيل الضلالة، فيصح أن يستعمله غيره في سبيل الخير والاستقامة.

ومثل ذلك ما ذكرت عن بعضهم من استدلاله بقوله تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾(لقمان:6)، وأن من المفسرين من فسر ذلك بالغناء، فإن هذا وإن صح في بعض الغناء، لكنه لا يصح في جميعه، و(ولو أن امرأ اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوا لكان كافرا، فهذا هو الذي ذم الله تعالى وما ذم قط تعالى من اشترى لهو الحديث ليلتهي به ويروح نفسه، لا ليضل عن سبيل الله تعالى.. وكذلك من اشتغل عامدا عن الصلاة بقراءة القرآن، أو بقراءة السنن، أو بحديث يتحدث به، أو ينظر في ماله، أو بغناء، أو بغير ذلك، فهو فاسق عاص لله تعالى، ومن لم يضيع شيئا من الفرائض اشتغالا بما ذكرنا فهو محسن)([1])

ويدل على فساد كل تلك الأدلة التي ذكروها ما ورد من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تدل بمفهومها ومنطوقها على إباحة إنشاد الشعر والغناء وغيرهما.

فقد روي في المصادر الحديثية الكثيرة أن الصحابة تناشدوا الأشعار بحضرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر عليهم، وفي قصة كعب بن زهير كفاية لمن تدبرها كيف استمع منه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قصيدته المعروفة (بانت سعاد)، مع ما فيها من التغزّلات، وكيف جزاه بالعفو والبردة زيادة له عن تقريره له في إنشاد الشعر بحضرته([2]).

ومن ذلك ما حدث به أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفره وكان غلام يحدو به، يقال له أنجشة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (رويدك يا أنجشة سوقك بالقوارير) ([3])، وهو يشير إلى التأثير النفسي الذي يحدثه الحداء والصوت الحسن في النفس.

وحدث عامر بن سعد قال: دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوار يغنين فقلت: أي صاحبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أهل بدر يُفعل هذا عندكم؟!… فقالا: اجلس إن شئت فاستمع معنا وإن شئت فاذهب فإنه قد رخص لنا في اللهو عن العرس([4])..

وغيرها من النصوص الكثيرة التي يفهم منها مشروعية الغناء والإنشاد والحداء والشعر وكل الممارسات التي يمارسها من يستعملون هذه الوسيلة في الترويح عن أنفسهم من الطرق الشرعية الحلال.

وقد ذكر بعض الحكماء مستغربا تحريم مثل هذا الذي لم يرد أي دليل صريح على حرمته، فقال: (إن الغناء اجتمعت فيه معان ينبغي أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها، فإنّ فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب، ثم الطيب ينقسم إلى الموزون وغيره. والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار، وإلى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات)([5])

ثم تحدث عن إباحة كل ركن من هذه الأركان المكونة لحقيقة الغناء، فذكر أن (سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب، لا ينبغي أن يحرم، بل هو حلال لأنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وللإِنسان عقل وخمس حواس ولكل حاسة إدراك، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ، فلذة النظر مثلا في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن، فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير، ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها)

ومثل ذلك النظر في الصوت الطيب الموزون، فإنّ (الوزن وراء الحسن فكم من صوت حسن خارج عن الوزن وكم من صوت موزون غير مستطاب. والأصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثلاثة: فإنها إما أن تخرج من جماد كصوت المزامير والأوتار، وإما أن تخرج من حنجرة إنسان أو غيره كصوت العنادل والقماري؛ فهي مع طيبها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذ سماعها، فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور. ولا فرق بـين حنجرة وحنجرة، ولا بـين جماد وحيوان)

ومثل ذلك النظر في الموزون والمفهوم، وهو الشعر؛ فهو (لا يخرج إلا من حنجرة الإِنسان فيقطع بإباحة ذلك لأنه ما زاد إلا كونه مفهوماً. والكلام المفهوم غير حرام والصوت الطيب الموزون غير حرام، فإذا لم يحرم الآحاد فمن أين يحرم المجموع؟ نعم ينظر فيما يفهم منه فإن كان فيه أمر محظور حرم نثره ونظمه وحرم النطق به سواء كان بألحان أو لم يكن، ذلك أن الشعر كلام فحسنه حسن وقبـيحه قبـيح. ومهما جاز إنشاد الشعر بغير صوت وألحان جاز إنشاده مع الألحان؛ لأن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذلك المجموع مباحاً. ومهما انضم مباح إلى مباح لم يحرم إلا إذا تضمن المجموع محظوراً لا تتضمنه الآحاد)

ومثل ذلك النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغالب عليه، (فلله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً، فمن الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس، ومهما كان النظر في الغناء باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب)

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما أحدثك عنه من دور هذه الوسيلة في التزكية والترقية.

الترويح والتزكية:

أما دور الترويح الذي ذكرت بالتزكية؛ فهو ظاهر، ذلك أن التشدد في تحريم اللهو المباح سيجر صاحبه إلى اللهو الحرام، أو يجعله يعيش في حياته في ضنك وضيق وحرج، مع أن الله تعالى لم يقصد من دينه إلا تربية عباده وتزكيتهم، لا إيقاعهم في الحرج، ولذلك عاتب الله تعالى من يحرمون ما أحل الله من الزينة، فقال: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 32]

ثم بين المقصد من التحريم، وكونه يشمل ما يؤثر في النفس وينحط بها، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]

بالإضافة إلى ذلك؛ فإن الأشعار والغناء الذي يحوي المعاني الطيبة، لا يختلف عن الذكر والتذكير، فلا فرق بين أن يسمع المؤمن موعظة تتعلق بالشجاعة، وبين أن يسمع قصيدة أو أغنية تحث عليها، ولذلك كان المجاهدون في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرتجزون بالشعر أثناء جهادهم، تشجيعا للنفس وحثا لها على الثبات.

وقد روي عن عبد الله بن رواحة أنه في غزوة مؤتة، وعندما أحس في نفسه بعض التردد، راح يردد منشدا مخاطبا نفسه:

أقسمت يا نفس لتنزلنه
 
  طائعة أو لتكرهنه
 
فطالما قد كنت مطمئنة   مالي أراك تكرهين الجنة

ثم يقول:

يا نفس إلا تقتلى تموتي
 
   وما تمنيت فقد أعطيت
 
إن تفعلى فعلهما هديت

  وإن تأخرت فقد شقيت

 ثم أقدم على المعركة ثابتا شجاعا إلى أن نال الشهادة، ولحق بصاحبيه زيد وجعفر.

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشجع الشعراء المؤمنين، لأن الكلمات الطيبة التي يقولونها تساهم في نشر الفضائل، ومواجهة الرذائل، وبذلك يتحقق الإصلاح النفسي والاجتماعي، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائما يهجو أهل الجاهلية، ويسخر من القيم التي كانوا يتبنونها، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشجعا: (إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)([6]) ومن قصائده التي رثى بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

بطيبة رسم للرسول ومعهد
     
  منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
 
ولا تمتحي الآيات من دار حرمة   بها منبر الهادي الذي كان يصعد

إلى آخر القصيدة، ومثلها الكثير من القصائد التي تمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتذكر أخلاقه الطيبة، والتي تحولت بعد ذلك إلى أغان وأناشيد تنشد في المجالس، ويطرب لها السامعون، ويتأثرون بمعانيها.

فما الضرر في ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ وهي ـ بحسب الواقع ـ لا تنشر إلا الفضيلة والخير، وتحث عليهما بأسلوب يفرح له البشر ويطربون.. وهل يشترط في المواعظ تأثيرها، أم جفافها؟

ولذلك فإني عندما تأملت حال من ذكرت، والذين وقع الإنكار عليهم، وجلست بعض مجالسهم سمعتهم يرددون أمثال هذه الأبيات:

ظلمت سنة من أحيا الظلام الى

  أن اشتكت قدماه الضر من ورم

وشد من سغب أحشاءه وطوى

  تحت الحجارة كشحا مترف الأدم
وراودته الجبال الشم من ذهب

  عن نفسه فأراها أيما شمم

وأكدت زهده فيها ضرورته
     
  إن الضرورة لا تعدو على العصم
محمد سيد الكونين والثقلين
    
  والفريقين من عرب ومن عجم

 وقد تأملت فيها؛ فوجدت كل معانيها طيبة، فهي تذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأخلاق الرفيعة التي كان يتصف بها، وهي تدعو من خلال ذلك إلى الأمرين: محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومحبة تلك القيم والأخلاق العالية، وكلاهما من الأسس التي لا تقوم التزكية إلا بها.. فهل في ذلك أي حرج؟

بل إني وجدت ما يفعلونه هو نفس ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد حدث أنس، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيد يعملون ذلك لهم فلما رأى ما بهم من النصب والجوع قال:

اللهم إن العيش عيش الآخره  

  فاغفر للأنصار والمهاجره

فقالوا مجيبين له:

نحن الذين بايعوا محمدا 

  على الجهاد ما بقينا أبدا

وعن البراء قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو اغبر بطنه، يقول:

والله لولا الله ما اهتدينا

  ولا تصدقنا ولا صلينا

 فأنزلن سكينة علينا

   وثبت الأقدام إن لاقينا

 إن الألى قد بغوا علينا

   إذا أرادوا فتنة أبينا

ورفع بها صوته أبينا أبينا([7]).

وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر ببعض المدينة فإذا هو بجوار يضربن بدفهن ويتغنين ويقلن:

نحن جوار من بني النجار

  يا حبذا محمد من جار

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم بارك فيهن ([8]).

فهذه الأبيات التي وصلتنا، والتي قد يوجد غيرها كثير مما لم يصلنا يدل على اعتماد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الوسيلة لتزكية النفوس وتربيتها، لعلمه بتأثيرها عليها.

الترويح والترقية:

أما دور الترويح الذي ذكرت بالترقية؛ فإن ذلك تابع للكلمات التي تردد وتنشد؛ فإن كانت كلمات تحث على معرفة الله ومحبته ومحبة أوليائه؛ فإن دورها لا يختلف عن الأذكار والصلوات والزيارات وغيرها.. ولا فرق بينهما سوى في تلك الألحان التي ترتاح لها النفس.

بل إن لتلك الألحان تأثيرها الكبير؛ ففرق بين أن تسمع الأدعية والصلوات بأصوات عادية، وبين أن تسمعها بأصوات جميلة شجية متناسبة مع معانيها..

ولهذا سن الصالحون وضع الأدعية في تلك القوالب الجميلة، كما سنوا من قبلها سماع القرآن الكريم بالأصوات الجميلة المؤثرة.

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي سن ذلك؛ ففي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن)([9])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ أن يتغنّى([10]) بالقرآن) ([11])

وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لبعض أصحابه: (لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود) ([12])

بل إن القرآن الكريم هو الذي سن ذلك، وأشار إليه، فقد قال الله تعالى عن داود عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ [سبأ: 10]

ولهذا؛ فإن أمثال تلك الأشعار التي تنشد، والتي تحث على محبة الله، أو محبه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومحبة الأولياء والصالحين؛ فلا حرج فيها، بل إنها لا تختلف عن سائر ما دعت إليه النصوص المقدسة من الأذكار والصلوات وغيرها.. ودورهما لا يختلف، فكلاهما يرقي النفس إلى مراتب الكمال المتاحة لها بعد أن يملأها بتلك المعاني الجميلة التي تحويها تلك القصائد.

وقد مررت ـ أيها المريد الصادق ـ ببعض من ذكرت، وهم ينشدون بأصوات جميلة قصيدة يقول صاحبها متغنيا بمحبة الله:

كانت لقلبي أهواءٌ مفرّقة

  فاستجمعَتْ مذْ راءَتك العين أهوائي

فصار يحسدني من كنت احسده

  وصرتُ مولى الورى مُذْ صرتَ مولائي

ما لامني فيك أحبابي وأعدائي

  إلّا لغفلتهم عن عظم بلوائي

تركتُ للناس دنياهم ودينهم

  شغلاً بحبك يا ديني ودنيائي

أشعلتَ في كبدي نارين واحدة

  بين الضلوع وأخرى بين أحشائي

وقد شعرت بتأثيرها الكبير في نفسي، وأحسب أن كل من يسمعها سيشعر بنفس التأثير، وبذلك فإنها تحدث في النفس نفس ما تحدثه الأذكار من الحضور مع الله، والأنس به، والشوق إليه.. وكل ذلك معان جميلة لا يصح لعاقل أن ينكرها.

وما حصل لي، وربما حصل لك، هو ما حصل للكثير ممن يهتمون بعالم المعاني، ويتأثرون لها، وقد ذكر بعض الحكماء ذلك، فقال: (السماع مهيج لما في القلوب، محرك لما فيها، فلما كانت قلوب القوم معمرة بذكر الله تعالى، صافية من كدر الشهوات، محترقة بحب الله، ليس فيها سواه، كان الشوق والوجد والهيجان والقلق كامن في قلوبهم كمون النار في الزناد، فلا تظهر إلا بمصادفة ما يشاكلها، فمراد القوم فيما يسمعون إنما هو مصادف ما في قلوبهم، فيستثيره بصدمة طروقه، وقوة سلطانه، فتعجز القلوب عن الثبوت عن اصطدامه، فتبعث الجوارح بالحركات والصرخات والصعقات، لثوران ما في القلوب)([13])

وقال آخر: (إن تأثير السماع في القلب محسوس، ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم فإنها جميعا تتأثر بالنغمات الموزونة)([14])

ولذلك ما دام للسماع كل هذا التأثير، ما المانع ـ أيها المريد الصادق ـ من استثماره في التربية والسلوك، وترقية المريدين في درجات الكمال المتاحة لهم، وقد قال بعض الحكماء في ذلك: (سماع من أحب اللّه وعشقه، واشتاق إلى لقائه، فلا ينظر إلى شي ء إلا رآه فيه سبحانه، ولا يقرع سمعه قارع إلا سمعه منه أو فيه، فالسماع في حقه مهيج لشوقه ومؤكد لعشقه وحبه، ومستخرج منه أحوالا من المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها، يعرفها من ذاقها، وينكرها من كلّ حسه عن ذوقها)([15])

ثم ذكر تأثير تلك المستخرجات التي استجرجها السماع وما عقبه من الوجد، فقال: (ثم تكون تلك الأحوال أسبابا لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها وتنقيه من الكدرات، كما تنقى النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث، ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهدات ومكاشفات، وهي غاية مطالب المحبين للَّه تعالى، ونهاية ثمرة القربات كلها)([16])

وبناء على هذا يخلص إلى أن السماع وما يتبعه ليس مباحا فقط، وإنما هو من المستحبات، فقال: (.. فالمفضي إليها – أي لتلك الأحوال التي سبق ذكرها- من جملة القربات لا من جملة المعاصي والمباحات)([17])

ثم بين أن المنكر لهذا منكر للطبع والفطرة السليمة التي فطر الله عليها الأنفس، والتي تميل إلى الغناء جبليا من غير تكلف، ولهذا فإن من ينكر هذا يسميه (البليد الجامد القاسي القلب المحروم عن لذة السماع) ذلك أنه (يتعجب من التذاذ المستمع ووجده واضطراب حاله وتغير لونه تعجب البهيمة من لذة اللوزينج، وتعجب الصبي من لذة الرياسة واتساع أسباب الجاه، وتعجب الجاهل من لذة معرفة الله تعالى ومعرفة جلاله وعظمته وعجائب صنعه)([18])

ثم بين علة هذه البلادة، فقال: (ولكل ذلك سبب واحد، وهو أن اللذة نوع إدراك، والإدراك يستدعي مدركا، ويستدعي قوة مدركة، فمن لم تكمل قوة إدراكه لم يتصور منه التلذذ، فكيف يدري لذة الطعوم من فقد الذوق، وكيف يدرك لذة الألحان من فقد السمع، ولذة المعقولات من فقد العقل، وكذلك ذوق السماع)([19])

أما ما ذكرت ـ أيها المريد الصادق ـ من التأثر الذي يقع للسامعين، وتمايل بعضهم نتيجة لذلك؛ فلا حرج فيه ما دام تلقائيا وغير متكلف، وقد ذكر القرآن الكريم أن التأثر يحدث أحوالا في الجسد، لا يستطيع الفكاك منها، قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23]

وقد قال بعضهم يذكر سر ذلك: (وكل حركة في العالم العلوي أو السفلي فأصلها المحبة.. فلولا الحب ما دارت الأفلاك وتحركت الكواكب النيرات، ولا هبت الرياح المسخرات، ولا مرت السحب الحاملات، ولا تحركت الأجنة في بطون الأمهات، ولا انصدع عن الحب أنواع النبات، واضطربت أمواج البحار والزاخرات، ولا تحركت المدبرات والمقسمات ولا سبحت بحمد فاطرها الأرضون والسموات وما فيها من المخلوقات) ([20])

وقال الشاعر يعبر عن أسرار تلك المواجيد والأحوال:

يحرُكنا ذكر الأحاديث عنكمُ
 
  ولولا هواكُم فِي الحشا ما تَحرَّكنا

فقُل لِلَّذي ينهَى عن الوَجد أهلهُ
 
   إذا لَم تذُق معنَى شرابٍ الهَوَى دعنا

إذا اهتزَّت الأرواح شوقاً إِلَى اللقا

   ترفصت الأشباح يا جاهلَ المعنَى

أما تنظرُ الطير المقفَّصَ يا فتَى

   إذا ذكر الأوطان حنَّ إِلَى المغنَى

يُفَرّجُ بالتغريد ما بِفُؤادهِ

   فتضطرِبُ الأعضاءُ فِي الحسّ والمعنَى

ويرقصُ فِي الأقفاصِ شوقاً إِلَى اللقا    فتهتزُّ أربابُ العقولِ إذا غنَى

كذلكَ أرواحُ المُحبِّينَ يا فَتَى

   تَهزِّزها الأشواقُ للعالَمِ الأسنَى

أنلزمُها بالصبرِ وهي مشوقةٌ

   وهل يستطيع الصبر من شاهد المعنَى

وقال آخر:

ما في التواجدِ إن حققتَ من حرجٍ
 
  ولا التمايلِ إن أخلصتَ من باسِ

إن السماعَ صفاء نور صفوتهِ
 
   يخفى ويُحجَبُ عمن قلبهُ قاسي

نورٌ لمن قلبُه بالنورِ منشرِحٌ

   نارٌ لمن صدرُه ناووسُ وسواس

راحٌ وأكْؤُسُها الأرواحُ فهي على

   قدرِ الكؤوسِ تريك الصفوَ في الكاسِ
حادٍ يذكّرُكَ العهدَ القديمَ

   وإن تقادم العهد ما المشتاقُ كالناسي

فليس عارٌ إذا غنّى له طرباً

   يئنُ بالناس لا يخشى من الناسِ

هذه ـ أيها المريد الصادق ـ إجابتي على ما طرحت من أسئلة، وأنا أدعوك من خلالها أن تستعمل هذه الوسيلة كغيرها من الوسائل في تهذيب نفسك وترقيتها، مع الحذر من القصائد التي تنشد، فليست بالمعصومة، فانتق منها ما تراه مناسبا لإصلاح نفسك، وترقيتها، ولا تلتفت للمنكرين؛ فالعبرة بما تنص عليه النصوص المقدسة، لا بالأمزجة والأهواء.


([1]) المحلى:7/567.

([2]) ابن عليوة، القول المعروف، ص68.

([3]) صحيح البخاري (8/ 58)

([4]) سنن النسائي (6/ 135)

([5]) الإحياء: 2/270.

([6]) رواه أبو داود.

([7]) البخاري:3/1103، مسلم: 3/1429.

([8]) ابن ماجة: 1/612، مسند أبي يعلى: 6/134.

([9]) أبو داود (1469 و1470 و1471)

([10]) اختلفوا في معنى قوله (يتغنى) على أربعة أقوال: أحدها: تحسين الصوت. والثاني: الاستغناء. والثالث: التحزن. والرابع: التشاغل به [ فتح الباري 8 (687)]

([11]) البخاري- الفتح 8 (5024)

([12]) البخاري- الفتح 8 (5048). ومسلم (793)

([13]) غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، (1/127)

([14]) إحياء علوم الدين (2/ 275)

([15]) إحياء علوم الدين (2/ 279)

([16]) إحياء علوم الدين (2/ 279)

([17]) إحياء علوم الدين (2/ 279)

([18]) إحياء علوم الدين (2/ 279)

([19]) إحياء علوم الدين (2/ 279)

([20]) الجواب الكافي: 201.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *