إقامة الشهادة

إقامة الشهادة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن أولئك الذين تصوروا أن غرض الدين قاصر على تزكية النفس وترقيتها في مراتب الولاية، وأن المؤمن الصالح هو الذي يكتفي بنفسه، أو بأهله الأقربين دون أن يكون له اهتمام بما يجري في العالم من أحداث سياسية وغيرها، وأنه ليس ملزما بإصلاح العالم، وإنما هو ملزم بإصلاح نفسه فقط.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هذا الذي وصفت لم يفهم أغراض الإسلام، ولا أغراض التزكية، ولذلك فاته من التزكية ومراتبها العالية بقدر قصور فهمه.

ولو أنه عاد للمصادر المقدسة، التي لا يفهم الدين إلا منها، لعرف خطأ المسار الذين اختاره، والفهم الذي فهمه، ذلك أن الله تعالى أمر أفراد الأمة في القرآن الكريم بألا يكتفوا بإصلاح أنفسهم، وإنما بإعطاء النموذج الصالح للصلاح والتقوى، حتى يهتدي بهم الخلق، وقد سمى الله تعالى ذلك شهادة، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ [النساء: 135]

فالآية الكريمة تأمر المؤمنين بأن يتولوا وظيفة الدعوة للقسط والعدالة، في كل مستوياتها ومجالاتها، وأن يوفروا لأنفسهم من الصفات ما يؤهلم لإعطاء النموذج الحسن في ذلك.

ولهذا، فإن المؤمنين الذين يكتفون بالاهتمام بأنفسهم، ويقصرون في حق الدعوة إلى الله، وإلى العدالة التي أمر بها، ويقصرون في مواجهة الظلمة والمستبدين، لا يختلفون كثيرا عن أولئك الذين كانوا يقولون: دعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله..

والمؤمن لا يقول ذلك.. بل هو يسعى لأن يحكم شريعة الله في خلقه.. ويحكم معها كل قيم العدالة التي أمر بها.. والتي لا يمكن أن تتحقق من دون شريعة الله.

وهذا ما فعله الرسل عليهم السلام؛ ذلك أنه لو كان قصدهم تزكية النفس مجردة عن طلب العدالة، ومواجهة الاستبداد والظلم، وتحقيق المجتمع الصالح لما واجههم أقوامهم، ولما حاربوهم، وآذوهم..

ولهذا قرن الله تعالى بين تضحيات الأنبياء، وتضحيات الدعاة إلى القسط، فقال: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: 21]

وعند مطالعتك ـ أيها المريد الصادق ـ لما ذكره القرآن الكريم عن الأنبياء عليهم السلام الذين بلغوا أوج مراتب الكمال، تجدهم مهتمين بالسلبيات المنتشرة في مجتمعاتهم، ومهتمين بمواجهتها، والتضحية بكل شيء في سبيل ذلك، كما ذكر تعالى ذلك عن شعيب عليه السلام، وأنه نادى في قومه قائلا: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)﴾ [هود: 84 ـ 87]

فهذه الآيات الكريمة تدل على أنه كان يدعو إلى تغيير جذري بين قومه، يبدأ من تصحيح عقائدهم، ثم يشمل بعد ذلك كل جوانب حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

وهكذا عندما قال لوط عليه السلام لقومه: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ﴾ [العنكبوت: 28، 29]، كان يدعو إلى حركة تغييرية تبدأ بالأخلاق، وتنتهي بكل جوانب الحياة.

وهكذا عندما قال صالح عليه السلام لقومه: ﴿يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61]، وقال لهم: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 74]، كان يدعوهم بذلك إلى تغيير حياتهم جميعا، حتى بيوتهم لتنسجم مع شريعة الله، والفطرة التي فطرهم الله عليها.

وهكذا عندما أرسل موسى وهارون عليهما السلام لفرعون، كانا يحملون معهما مطالب تغييرية كبيرة، ترتبط بالمصريين والإسرائيليين، وقد عبر عنها موسى عليه السلام عند قوله لقومه: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)﴾ [إبراهيم: 6 ـ 8]

وهكذا كانت حركات جميع الأنبياء وورثتهم عليهم الصلاة والسلام تحمل أمثال هذه المطالب الشرعية، وبذلك فإن كل تلك الدعوات دعوات ثورية، لأنها ثارت على كل الانحرافات، ابتداء من الانحرافات العقدية، وانتهاء بالانحرافات السلوكية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

وهكذا أخبر الله تعالى أن الكمل من هذه الأمة هم الذين يسعون إلى هذه الوظائف الشرعية، لأنه لا يمكنهم أن يزكوا أنفسهم حق التزكية، ولا أن يرقوها في مراتب الكمال، وهم منحرفون عن منهج الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء.

كما قال تعالى عند ذكره لوظائف الأمة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: 143)، وقال: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج:78)

وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعرف مدى علو مرتبة الشهادة وإنقاذ الخلق في مراتب السلوك، فاعلم أن الحكماء ذكروا أربع مراحل لسير السالكين: أولها السير من النفس إلى الله، وهي رحلة البحث عن الله.. وثانيها: سير الإنسان من الله في الله، بحثا عن معرفة الله.. وثالثها: سير الإنسان مع الله إلى خلق الله.. ورابعها: سير الإنسان مع الله بين خلق الله، لإنقاذ خلق الله.

وهذه المرحلة الأخيرة من سير السالكين، وهي رحلتهم لإنقاذ خلق الله من عبودية الشيطان، هي التي سماها القرآن الكريم شهادة، ودعا إلى إقامتها مثل إقامة الصلاة، وأخبر أنها من وظائف الرسل جميعا، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]

ولهذا كان من العلامات الكبرى للوارث للنبوة، السالك سبيلها، غير المنحرف عنها، عدم الركون للظلمة، أو السكون لهم، أو الرضا بأفعالهم، وإنما مواجهتهم بكل ما أتيح لهم من أساليب.

ولهذا مارس كل أئمة الهدى هذه الوظيفة العظيمة، إلى أن لقوا الله تعالى جميعا شهداء في هذا الطريق، كما عبر الإمام الرضا عن ذلك بقوله: (والله، ما منا إلا مقتول شهيد)([1]

وعندما سمع بعضهم يشكك في قتل الإمام الحسين، ويذكر أنه شبِّه لهم، قال: (والله، لقد قتل الحسين، وقتل من كان خيراً من الحسين، أمير المؤمنين، والحسن بن علي، وما منا إلا مقتول، وإني ـ والله ـ لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني)([2]

ثم رد على من اعتمد على قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء: 141] لنفي قتل الإمام الحسين بقوله: (لن يجعل الله لكافر على مؤمن حجة، ولقد أخبر الله عز وجل عن كفار قتلوا النبيين بغير الحق، ومع قتلهم إياهم لن يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا من طريق الحجة)

وروي أن الإمام الحسن بن علي قال في مرضه الذي توفي فيه: (والله، إنه لعهد عهده إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولد علي وفاطمة، ما منا إلا مسموم، أو مقتول)([3]

وكل ذلك بسبب ذلك الوقوف الشديد في وجه الجور والظلم والاستبداد وكل من يمثلهم، لحفظ دين الله من أن يصبح أداة من أدوات الظلمة مثلما حصل في الأديان الأخرى.

وكنموذج لذلك ينفي كل تلك الترهات التي ينطق بها من لا يعرفون الولاية ولا مراتبها ما قاله الإمام الحسين، وهو سيد شباب أهل الجنة، في تفسير سبب خروجه على الظلمة والمستبدين، فقد قال في وصيته: (إنّي لمْ أخرج أشِرَاً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي صلى الله عليه وآله وسلم؛ أُريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين)([4]

بل إن الإمام الحسين نفسه رد على تلك المقولات التي تريد أن تحرف الإسلام، وتبعده عن الغاية الإصلاحية الكبرى التي جاء بها، لينقذ البشرية ويخلصها من كل أصناف الطغيان، فقد قال في بعض خطبه: (اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار، إذ يقول: ﴿لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ [المائدة: 63]، وقال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78، 79]، وإنما عاب الله ذلك عليهم؛ لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك؛ رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون، والله يقول: ﴿فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ [المائدة: 44]، وقال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71])([5]

وبعد أن سرد هذه الآيات الكريمة الواضحة في الدلالة على وجوب مواجهة المنكر من أي مصدر صدر، راح يفسرها لهم، ويبين أغراضها والنواحي العملية المرتبطة بها، فقال: (فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه؛ لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هينها وصعبها؛ وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع رد المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها) ([6])

ثم راح يخاطب عقولهم وعواطفهم وتلك العهود التي عاهدوا الله بها من خلال إسلامهم؛ فقال: (أنتم أيتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة؛ يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر، أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله، وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون، فاستخففتم بحق الأئمة؛ فأما حق الضعفاء فضيعتم؛ وأما حقكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالا بذلتموه، ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله) ([7])

ثم راح يذكرهم بالجنة والنار، والعذاب الذي ينتظر الساكتين عن المنكر ومواجهته، فقال: (أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله، وأمانا من عذابه، لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته؛ لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها، ومن يعرف بالله لا تكرمون، وأنتم بالله في عباده تكرمون! وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون! وذمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محقورة، والعمى والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون! ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعينون! وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون!) ([8])

ولم يكن يكتفي بتلك المواعظ العامة، وإنما كان يفصل المنهج الذي ينبغي أن تسير عليه الأمة في حكمها وسياستها وكل شؤونها، وهو أن تكل الأمور لأهل العلم والولاية، لا غيرهم ممن لا يعرف حكم الله، ولا يستطيع مراعاتها؛ وقد قال لهم في تلك الخطبة: (وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون ذلك؛ بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الامناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة. ولو صبرتم على الأذى، وتحملتم المؤونة في ذات الله، كانت امور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات) ([9])

ثم بين لهم المنهج الذي يمكن أن يسلكوه للتخلص من القيود التي وضعها الظلمة على رقابهم، وأولها حرصهم على الحياة، وخوفهم من الموت، وكأنه بذلك يهيئهم للمواجهة الكبرى التي تحققت في كربلاء، ليقيم عليهم الحجة بنفسه، بعد أن أقامها عليهم بكلماته، فقد قال: (سلطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم؛ فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على معيشته مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم؛ اقتداء بالأشرار، وجرأة على الجبار، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد. فيا عجبا! وما لي لا أعجب والأرض من غاش غشوم، ومتصدق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، القاضي بحكمه فيما شجر بيننا)([10])

هذه ـ أيها المريد الصادق ـ هي الكلمات الصادقة الممثلة للدين، والتي عليك أن تعتمد عليها في تزكية نفسك وترقيتها، أما من يدعوك إلى الاكتفاء بنفسك، وعدم الاهتمام بشؤون الأمة، ولا بالإصلاح، ولا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهو يدعوك إلى دين آخر، ليس دين الإسلام.

ذلك أن القرآن الكريم الذي هو كتاب المسلمين المقدس، يقول مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [الشورى: 15]

ويخبر أن أرفع المراتب هي مراتب الدعاة إلى الله، فيقول: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]

ويخبر عن الورثة الحقيقيين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108]

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ـ بقدر حرصك على إصلاح الخلق ـ ييسر الله تعالى لك إصلاح نفسك.. فالله هو الذي يزكي الأنفس ويربيها.. ولذلك فإن من مواهبه لمن يسعون في إصلاح الخلق بصدق وحرص أن يصلح لهم أنفسهم، ويعينهم عليها، وفرق كبير بين أن تسعى أنت لإصلاح نفسك، وبين أن يتولى الله عنك ذلك.


([1]) الأمالي للصدوق ص120، وعيون أخبار الرضا ج2 ص256.

([2]) عيون أخبار الرضا ج2 ص203.

([3]) كفاية الأثر ص226 و227 والصراط المستقيم ج2 ص128.

([4]) الفتوح 5 / 33، مقتل الخوارزمي 1 / 188.

([5]) تحف العقول: 237..

([6])المرجع السابق: 237..

([7])المرجع السابق: 238..

([8])المرجع السابق: 238..

([9])المرجع السابق: 239..

([10])المرجع السابق: 239..

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *