مجالس الإيمان

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المجالس التي يجتمع فيها المؤمنون للذكر وقراءة القرآن الكريم وسماع المواعظ وغيرها، ودورها في التزكية والترقية.. وكيفية الرد على من يحكمون على بعضها بالبدعة بحجة عدم إقامة من يسمونهم سلفا لها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن من مقاصد الشريعة الكبرى عدم الاكتفاء بتزكية الأفراد، وإنما تزكية المجتمع جميعا، ذلك أنه لا يساهم فقط في توفير البيئة الصالحة للتربية، وإنما يساهم أيضا في تيسير السلوك، وتحقيق الترقي في معارج الكمال.. فالنفوس يعدي بعضها بعضا، ويؤثر بعضها في بعض.
ولذلك أثنى الله تعالى على إسماعيل عليه السلام بسبب أمره أهله بالصلاة والزكاة، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } [مريم: 54، 55]
ومثل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يفعل، قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]
ولذلك؛ فإن الاجتماع على الذكر والتذكير والمواعظ وغيرها من الوسائل الكبرى المعينة للتزكية، بشرط توافقها مع ضوابط الشريعة، حتى لا تخرج إلى البدعة.
وقد ورد في الحديث عن عبد الله بن رواحة أنه كان إذا لقي الرجل من أصحابه، يقول: (تعال نؤمن بربنا ساعة)، فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يرحم الله ابن رواحة، إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة) ([1])
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن تلك المجالس تدخل ضمن مصاديق قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } [المائدة: 2]
ذلك أن الشيطان قد يغلب بعض النفوس ويستحوذ عليها، وحينها تحتاج إلى جهة خارجية تنقذها، وتلك المجالس من تلك الجهات، وأشرفها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ولّاه الله عزّ وجلّ من أمر المسلمين شيئا فأراد به خيرا جعل له وزير صدق، فإن نسي ذكّره وإن ذكر أعانه)([2])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عليه ضيعته ويحوطه من ورائه)([3])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)([4])
فهذا الحديث ـ أيها المريد الصادق ـ يدل على أن مجالس الإيمان نوعان:
أحدهما: الاجتماع على قراءة القرآن الكريم وذكر الله.
وثانيهما: الاجتماع لتدارس القرآن الكريم وسماع المواعظ والتذكيرات.
وسأشرح لك كلا النوعين، وما ورد فيهما من النصوص المقدسة.
أما المجالس الأولى ـ أيها المريد الصادق ـ فقد أشار إليها، وإلى شرعيتها الكثير من النصوص المقدسة، ولا عبرة بفعل السلف، ولا بتركهم، إذا ثبت النص، ذلك أن العبرة بأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أمرنا بالاستنان بسننهم، لا بغيرهم.
ومن تلك النصوص الصريحة في مشروعية تلك المجالس قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) ([5])
فمصاديق هذا الحديث تنطبق على كل المعاني التي تدل على الذكر في الملأ، وهي إما أن يذكر وهم يسمعون، أو يذكرون جميعا، مثلما يُفعل في التلبية في الحج.. فكل ذلك صحيح ووجيه وشرعي.
ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن لله تعالى ملائكة سيارة، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر، قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم، حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا؛ فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم: من أين جئتم ؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض، يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك)، وفي نهاية الحديث يقول الله تعالى: (قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا، وأجرتهم مما استجاروا) ([6])
فهذا الحديث يدل على فضل الاجتماع للذكر، والجهر به من أهل الذكر جميعاً، لأنه قال: يسبحونك، ويكبرونك، ويهللونك، ويحمدونك، ويسألونك) بصيغة الجمع، والتي تدل على ترديد جميعهم للأذكار في نفس الوقت.. وحتى لو أريد غير ذلك؛ فإن الحديث يحتمل جميع المعاني.
ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إلي من أن أعتق أربعة) ([7])
والحديث واضح في مشروعية الذكر الجماعي بصيغه المختلفة، وفي ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له، والترغيب فيه دليل على أن آثار التزكية والترقية تكون أكثر فاعلية عند الأداء الجماعي.
ومن تلك الأحاديث ما روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقــال: (هل فيكم غريب ؟) يعني أهل الكتاب، فقلنا: لا يا رسول الله، فأمر بغلق الباب، وقال: (ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله) فرفعنا أيدينا ساعة، ثم وضع رسول الله r يده، ثم قال: (الحمد لله، بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها، ووعدتني عليها الجنة، وإنك لا تخلف الميعاد، ثم قال: أبشروا فإن الله عز وجل قد غفر لكم) ([8])
ومن تلك الأحاديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: (ما أجلسكم ؟) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا. فقال: (الله ما أجلسكم إلا هذا ؟) قالوا: الله ما أجلســــنا إلا ذلك. فقال: (أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) ([9])
وهذا الحديث واضح في فضل تلك المجالس، ومباهاة الله تعالى الملائكة بأصحابهم، دليل على تأثيرها في تزكية أنفسهم، وكونهم يستحقون بذلك الترقي في معارج الكمال المتاحة لهم؛ فما كان الله تعالى ليباهي بمن لم يكونوا كذلك.
ومن تلك الأحاديث ما ورد في فضل الذكر مطلقا؛ لأنها تشمل جميع الصيغ والهيئات، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (سبق المفردون)، قالوا: وما المفردون؟ يا رسول الله، قال: (الذاكرون الله كثيرا، والذاكرات) ([10])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟) قالوا: بلى، قال: (ذكر الله تعالى) ([11])
أما المجالس الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ فتشير إليها الأحاديث السابقة، ذلك أن كل ذكر جماعي لا يخلو من المواعظ والتذكيرات، ولذلك قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين القراءة الجماعية للقرآن الكريم، والتدارس، فقال: (ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)([12])
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن كل ما ورد في فضل المواعظ ينطبق عليها، ذلك أن المواعظ لا تكون عادة إلا من جهة خارجية.
فأعر سمعك لها ـ أيها المريد الصادق ـ واستفد منها، ولا يضرك إن كان الواعظ ملتزما بما وعظ به، أو كان مقصرا؛ فأنت مطالب بإصلاح نفسك، لا بمحاسبة غيرك، وقد قال بعض الحكماء يذكر شروط الانتفاع بالموعظة: (إنّما ينتفع بالعظة بعد حصول ثلاثة أشياء: شدّة الافتقار إليها، والعمى عن عيب الواعظ، وتذكّر الوعد والوعيد)
ثم ذكر سر الحاجة إلى العمى عن عيب الواعظ، فذكر أنه (إذا اشتغل به حرم الانتفاع بموعظته، لأنّ النّفوس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا ينتفع به، وهذا بمنزلة من يصف له الطّبيب دواء لمرض به مثله، والطّبيب معرض عنه غير ملتفت إليه)
ولأنك إن فعلت ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ صرت من الذين يبررون لأنفسهم المعاصي بحجة وقوع غيرهم فيها.. ولذلك استمع للموعظة، ولا يهمك الواعظ، إلا إذا دعاك للأهواء؛ فحينها عليك النفور منه، ومن دعوته.
لكنك إن كُلفت بالموعظة، فاحرص على ألا تعظ إلا فيما تحققت به، حتى لا تكون من الذين عاتبهم الله تعالى، فقال: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]
وأخبر عن شعيب عليه السّلام أنه قال لقومه: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]
ونهى الله تعالى عن ذلك نهيا شديدا، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2، 3]
وقد قال الشاعر معبرا عن بشاعة الذين يفعلون ذلك:
يا أيّها الرّجل المعلّم غيره… هلّا لنفسك كان ذا التّعليم؟
تصف الدّواء لذي السّقام وذي الضّنى… ومن الضّنى تمسي وأنت سقيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله… عار عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها… فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لكن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يعني إعراضك عمن ذكرك أو وعظك بحجة وقوعه في المعاصي؛ فأنت مطالب بأخذ الحكمة من أي فم خرجت، والحكمة ضالة المؤمن، أين وجدها فهو أحق بها.
بل حتى لو سمعت الحكمة من أفواه المجرمين والظلمة، فليس لك أن تردها، ذلك أنك مطالب بالرد على الجريمة والظلم لا على الحكمة.
وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسد عليك كل منافذ الشيطان التي قد تتسرب إلى نفسك من خلال المواعظ والواعظين؛ فعليك بتلك المواعظ الواردة في القرآن الكريم؛ فالقرآن كله موعظة، كما قال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس: 57]، وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]، وقال: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]
وأخبر أن كل ما في القرآن الكريم مواعظ للقلوب المستعدة للتقبل، فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الكِتَابِ وَالحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:231]
بل أخبر أنه أفضل المواعظ، فقال: {إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58]
ومثلها ما ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فكل أحاديثه مواعظ، فتأملها ـ أيها المريد الصادق ـ وتدبر فيها، واعبد الله تعالى بتلاوتها، واحذر من الذين يحذرونك منها.. واحذر من الذين يقبلون كل شيء فيها، حتى لو خالف القرآن الكريم، فيستحيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخالف كلام ربه، وإنما ذلك مما دس عليه.
ومن الأمثلة على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن طلب منه أن يعظه: (إن مع العز ذلا، وإن مع الحياة موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شئ حسيبا، وعلى كل شئ رقيبا، وإن لكل حسنة ثوابا، ولكل سيئة عقابا، ولكل أجل كتابا وإنه لا بدلك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت فان كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فانه إن صلح آنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك) ([13])
ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس: (يا غلام، إنّي أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصّحف) ([14])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مواعظه: (المؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضّعيف، وفي كلّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله. وما شاء فعل، فإنّ لو تفتح عمل الشّيطان) ([15])
ومثلها ما ورد من أحاديث أئمة الهدى، ومواعظهم الكثيرة؛ فهي مستلهمة من القرآن الكريم، ومن بحر النبوة الذي لم يكدر.. فاحرص على جمعها، وقراءتها، والاستماع لها، حتى يتنور قلبك بنورها.
ومن أمثلتها قول الإمام علي يعظ ابنه الإمام الحسن: (أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزّهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلّله بذكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدّنيا، وحذّره صولة الدّهر، وفحش تقلّب اللّيالي والأيّام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا وعمّا انتقلوا، وأين حلّوا ونزلوا، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة، وحلّوا ديار الغربة، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم) ([16])
ومنها قوله لبعض أصحابه: (يا نوف، طوبى للزّاهدين في الدّنيا، الرّاغبين في الآخرة، أولئك قوم اتّخذوا الأرض بساطا، وترابها فراشا، وماءها طيبا، والقرآن شعارا، والدّعاء دثارا، ثمّ قرضوا الدّنيا قرضا على منهاج المسيح.. يا نوف، إنّ داود عليه السّلام قام في مثل هذه السّاعة من اللّيل، فقال: إنّها لساعة لا يدعو فيها عبد إلّا استجيب له، إلّا أن يكون عشّارا، أو عريفا، أو شرطيّا) ([17])
ومنها قوله عند رجوعه من صفّين، بعد أن أشرف على القبور بظاهر الكوفة: (يا أهل الدّيار الموحشة، والمحالّ المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التّربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق، أمّا الدّور فقد سكنت، وأمّا الأزواج فقد نكحت، وأمّا الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟)، ثمّ التفت إلى من كان معه، فقال: (أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم: أنّ خير الزّاد التّقوى) ([18])
ومنها قوله بعد مروره على مزبلة: (هذا ما بخل به الباخلون.. هذا ما كنتم تتنافسون فيه بالأمس)([19])
وقال في موعظة أخرى: (إنّما المرء في الدّنيا غرض تنتضل فيه المنايا، ونهب تبادره المصائب، ومع كلّ جرعة شرق، وفي كلّ أكلة غصص، ولا ينال العبد نعمة إلّا بفراق أخرى، ولا يستقبل يوما من عمره إلّا بفراق آخر من أجله، فنحن أعوان المنون، وأنفسنا نصب الحتوف، فمن أين نرجو البقاء، وهذا اللّيل والنّهار لم يرفعا من شيء شرفا، إلّا أسرعا الكرّة في هدم ما بنيا، وتفريق ما جمعا) ([20])
وغيرها من المواعظ الكثيرة له ولسائر أئمة الهدى؛ فاحرص عليها، ونور قلبك بأنوارها، واعلم أن في كل كلمة منها علما وحكمة، وكيف لاتكون كذلك، وهي التي استضاءت بنور الرسالة، وبرزت من معدن النبوة.
واحذر من تلك الروايات
والمواعظ التي دسها عليهم أعداؤهم، وهم منها برؤاء؛ فارجع إلى كلام ربك لتحاكم
إليه كل ما شككت فيه.. واعلم أنهم أعظم من أن يخالفوا كلام ربهم، وكيف يخالفونه،
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم لا يفارقونه، ولا يفارقهم.
([1] ) مسند أحمد (21/ 309)
([2]) النسائي(7/ 159) وأبو داود(2932) وأحمد(6/ 70)
([3]) أبو داود(4918)
([4]) أبو داود (1455)، وأصله في مسلم (2699).
([5] ) البخاري، 7405
([6] ) البخاري ( 6408 ) ، ومسلم ( 2689 )
([7] ) أبو داود ( 3667 )
([8] ) رواه أحمد في المسند ( 4 / 124 ) ، والطبراني في الكبير ( 7 / 290 ح 7163 )
([9] ) مسلم ( 2701 )
([10] ) مسلم، حديث 2676
([11] ) البخاري، حديث 7405 ، مسلم حديث 2067
([12]) أبو داود (1455)، وأصله في مسلم (2699).
([13] ) بحار الأنوار (77/ 113)
([14] ) الترمذي (2516)، أحمد (1/ 293، 303)
([15] ) مسلم (2664)
([16] ) نهج البلاغة: الكتاب رقم (31)
([17] ) نهج البلاغة: الحكمة (104)
([18] ) نهج البلاغة: الحكمة (130)
([19] ) نهج البلاغة: الحكمة (195)
([20] ) نهج البلاغة: الحكمة (191)