الرهبة والخشية

الرهبة والخشية

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الرهبة والخشية، ودورهما في التزكية والترقية، وعن أولئك الذين غلب عليهم الإرجاء، فصاروا يسخرون من كل من يحذر من عذاب الله بحجة أنه لا يعرف رحمة الله الواسعة، وأن العذاب ليس سوى عذوبة، وأن الوعيد ليس سوى مجرد تهديد.. ورحمة الله ستشمل الجميع المسيء والمصلح.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هؤلاء الذين يذكرون هذا هم أصحاب الأماني الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء:123]

فهم قد رسموا في أذهانهم صورة لربهم، لا يدل عليها الواقع، ولا النصوص المقدسة، ولا أنبياء الله ورسله، ولا أئمة الهدى وورثة النبوة، وإنما تدل عليها رغباتهم التي تمتلئ بها نفوسهم.. فلذلك أتاحوا لها أن تضرب الحقائق بعضها ببعض، فتتوهم أن الرحمة تتنافى مع العدالة أو مع العقوبة التي وضعها الله تعالى لمن يستحقونها.

ولذلك هم عبيد الأهواء والأوهام، وليسوا عبيد الله الذي عرفنا بنفسه من خلال كتبه ورسله وورثتهم الصادقين المخلصين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أعرف العارفين بالله، وبرحمته الواسعة: ـ (إنِّي أرى ما لا ترَون، وأسمع ما لا تسمعون، إنَّ السماء أطت، وحقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذَّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) ([1])

فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غافلا عن رحمة ربه الواسعة حين نطق بهذه الكلمات؟ أم أنه كان يعرفها، ويعرف أن رحمة الله لا تتناقض مع عدل الله.. وإنما هي رحمة خاصة بمن توفرت فيه شروطها، كما قال تعالى: {عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]

فهل من الأدب بعد هذا أن نفرض إرادتنا على الله، ونلزمه بأن يرحم من لم يستحق الرحمة بسبب تجاوزه للحدود والسنن التي أمر بعدم تجاوزها؟

وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ إن رحت تتدبر القرآن الكريم، وفي وصفه لعباد الله الصالحين، ستجده مليئا بذكر رهبتهم وخشيتهم من الله وعذابه، وهي رهبة حقيقية، وليست تمثيلا.. ولو كانوا يعلمون أن الوعيد ليس سوى تهديد لا حقيقة له، ما فعلوا ذلك.

ولذلك؛ فإن الذين ينشرون مثل تلك الأفكار، يحاربون من حيث لا يشعرون وظيفة الإنذار التي اعتبرها الله تعالى من وظائف رسله الكرام عليهم السلام، فقد قال تعالى:﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ (البقرة:213)، وقال:﴿ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء:165)، وقال:﴿ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ (النحل:2)

وأخبر عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه:﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (لأعراف:63)

وأخبر عن هود عليه السلام أنه قال لقومه:﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (لأعراف:69)

وأخبر أن من مقاصد نزول القرآن الكريم الإنذار، فقال:﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام:19)، وقال:﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ (الأنعام:92)، وقال:﴿ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (لأعراف:2)، وقال:﴿ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ (ابراهيم:52)

وهكذا اعتبر من وظائف العلماء وورثة الرسل عليهم السلام الإنذار، فقال:﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة:122)

وهذا لا يعني ـ أيها المريد الصادق ـ الاقتصار على الإنذار دون التبشير، أو على نشر الرهبة دون الرغبة؛ فذلك انحراف لا يقل عن الانحراف الذي ينشره أصحاب الأماني.. ذلك أن الله تعالى ذكر كلا الأمرين، والاقتصار على أحدهما تحريف لكلماته المقدسة.

ولهذا يقرن الله تعالى ذكر الجنة بذكر النار.. وذكر الرحمة بذكر العدالة.. حتى تستقيم النفوس من خلال زرع الرغبة والرهبة فيها، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الحجر:50)، وقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (غافر:3)

وقال في الدعوة لإعمال العقل في المقارنة بين أهل النار وأهل الجنة: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[فصلت: 40]، وقال: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ}[محمد: 15]، وقال: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء: 90 – 91].

وغيرها من الآيات الكثيرة، ومثلها من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى.. ولذلك فإن العارف الحقيقي بالله هو الذي يجمع بين المعرفتين.. والداعي إلى الله على بصيرة هو الذي يستعمل كلا الوسيلتين.

أما التلاعب بالكلمات، وتوهم أن العذاب ليس سوى عذوبة، فهل يمكن أن ينطبق على قوله تعالى في وصف حال أهل النار وألمهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ [المائدة:36-37]، فهل يمكن لمن ينزل فندقا ممتلئا بالعذوبة أن يطلب مغادرته؟

وقال تعالى في وصف طعامهم: ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ [الغاشية:6-7]، فهل هذا وصف لعذاب أم لنعمة؟ وهل هو وصف لسجن ممتلئ بزنزانات التعذيب، أم هو وصف لفنادق ممتلئة باللذة والعذوبة؟

وقال تعالى في وصف آلامهم وصياحهم وعذابهم: ﴿ إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا﴾ [الكهف:29]، فهل يمكن لمن نزل الفنادق الممتلئة بالعذوبة أن يندم أو يطلب الخروج منها؟

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأحدثك به مما ذكرته النصوص المقدسة في دور الرهبة والخشية في التزكية والترقية.

الرهبة والتزكية:

أما دور الرهبة والخشية في التزكية؛ فهو ظاهر للعقول المجردة البسيطة التي تتفق على أن تطبيق القوانين لا يمكن أن يتم بصورة سليمة ما لم يوضع بجانبها قوانين خاصة بالعقوبات المرتبطة بالجرائم المختلفة.

وهذا ليس مرتبطا بقوانين الدنيا فقط، وإنما هو قانون عام يشمل كل شيء، وقد قال بعض الحكماء يذكر دوره في التزكية: (إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها)

وعبر آخر عن ذلك، فقال:(ما فارق الخوف قلبا إلا خرب)

وعبر عنه آخر، فقال:(الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق)

وهو ما دلت عليه النصوص المقدسة الكثيرة التي تعتبر الخوف المتولد من الإنذار سوطا يضرب به السالك نفسه حتى يقاوم الانحراف، ويقوم الاعوجاج، ويصحح السلوك.

ومن تلك النصوص قوله تعالى، وهو يدعو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينذر الكافرين أو المقصرين بما أعد الله تعالى لهم من عقوبات على انحرافهم:﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الأنعام:51)، فقد اعتبرت الآية الكريمة الإنذار وسيلة من وسائل تحصيل التقوى، وأسلوبا من الأساليب الداعية إليها.

ومن الأمثلة على ذلك تلك النصوص التي تحذر من القتل، وكل ما يؤدي إليه، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]

ومثله ما ورد من الأحاديث كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء)([2])، وقوله: (لزوال الدنيا أهول عند اللّه من قتل رجل مسلم)([3])، وقوله:(من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آئس من رحمة الله)([4])

فإن هذه النصوص الترهيبية وحدهاكافية في ردع أي نفس خبيثة قد لا يردعها القصاص نفسه، ذلك أننا نجد في الواقع من يقول مهددا:(سأقتله ولو قتلت به)، لأن القوة الغضبية ـ كالقوة الشهوانية ـ لا يعقلها إلا الترهيب العظيم المنشئ للخوف في النفس من الله من غضبه وعقابه.

ولهذا ذكر الله تعالى نموذج المؤمن الذي ضحى بنفسه خوفا من الله، وكان أقواهما قوة كما يذكر المفسرون، ولكن خوفه من الله منعه من أن يبسط يده لأخيه ليقتله، قال تعالى ذاكرا سر توقف أحد ابني آدم عن قتل أخيه:﴿ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة:28 ـ 29)

ولهذا نجد النصوص المقدسة تستعمل هذه الوسيلة في النهي عن الرذائل صغارها وكبارها؛ وهو ما يدل على دور ذلك في التزكية.

ومن الأمثلة على ذلك ما ورد من الترهيب من الكفر، كما قال تعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]

وقال في الترهيب من الشرك: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار) ([5])

ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التكذيب بالبعث والنشور، ويوم القيامة، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [الفرقان: {11]، وقال: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد: 5]

 ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التكذيب بآيات الله، كما قال تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 70- 72]

ومن ذلك ما ورد من الترهيب من السخرية من كلمات الله والغفلة عنها، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 26- 28]

ومن ذلك ما ورد من الترهيب من التفريق في الإيمان بين الكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله عليهم السلام، كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة: 85]

ومن ذلك ما ورد من الترهيب من قتل الأنبياء وورثتهم الآمرين بالقسط، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]

 ومن ذلك ما ورد من الترهيب من الردة، كما قال تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]

 ومن ذلك ما ورد من الترهيب من الإعراض عن طاعة الله، واتباع أئمة الضلال، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } [الأحزاب: 64- 66]

ومن ذلك ما ورد من الترهيب من الكذب على الله، والافتراء عليه، كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} [النحل: 62]

ومن ذلك ما ورد من الترهيب من النفاق، كما قال تعالى: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [التوبة: 68]، وقال: { إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء: 140]

ومن ذلك ما ورد من الترهيب من الاستكبار عن عبادة الله، والإعراض عن آياته، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 36]، وقال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7- 8]

وغيرها من الآيات الكثيرة، ومثلها من الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى التي تقرن بين المعاصي المختلفة، والعذاب المرتبط بها.

الرهبة والترقية:

أما دور الرهبة والخشية في الترقية؛ فيدل عليه ما ورد من النصوص المقدسة الكثيرة التي تدل على أن من صفات المقربين الرهبة والخشية، ولولا أنهما من المقامات الرفيعة ما وصفوا بها..

وهو ما يدل أيضا على أن وصفهم بهما يدل على كونهما من أسباب ذلك الصلاح الذي تحلوا به، وبذلك كانت الرهبة والخشية معراجا من معارج السالكين إلى الله.

ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في وصف من يعمر المساجد: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [التوبة: 18]

وقال في وصف الصالحين المسارعين في الخيرات: { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون: 57 – 61]

وقال في وصف خير البرية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } [البينة: 7، 8]

وقال في وصف العلماء الصالحين: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28]

وقال في وصف الخاشعين: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [الزمر: 23]

وقال في وصف الأوابين: { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 32، 33]

بل إن القرآن الكريم ينفي التذكرة والهداية على من حرم الخشية، قال تعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا } [النازعات: 42 – 45]، فقد أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الاستفادة من التربية النبوية قاصرة على من تتوفر فيهم الخشية، دون غيرهم من الذين لا يبالون بالوعد والوعيد، أو يسخرون منهما، أو يغفلون عنهما.

وقال: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [طه: 1 – 3]

وقال: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18]

وقال بعد ذكره لما حصل لفرعون وملئه من العقوبة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [النازعات: 26]

وأمر بتذكير من له القابلية لذلك، وهو صاحب الخشية، فقال:{ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) } [الأعلى: 9، 10]، أما غيره، فقد اعتبره تعالى شقيا، فقال: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 11، 12]

وقال:{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } [يس: 10، 11]

وغيرها من الآيات الكريمة الكثيرة التي يخبر الله تعالى فيها عن دور الرهبة والخشية في التذكر والإنابة والهداية، وهي الوسائل التي لا يمكن لأحد أن يرتقي في معارج الكمال المتاحة له من دونها.

هذا جوابي عن أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تعمل بما فيها؛ فهي مستنبطة من بحر كلمات الله المقدسة، ومن معدن النبوة والرسالة، وليست من تلك المعادن التي اختلط فيها الحق بالباطل.

فلا تسلم دينك لغير ربك، ولغير الوسائط التي جعلها الله مصادر للهداية، أما من عداها؛ فيخطئ ويصيب، ويضل ويهتدي.. فإياك أن تقع في حبالها، فتندم حيث لا ينفعك الندم.


([1] )  رواه الترمذي وقال: حديث حسن.

([2])  رواه نعيم بن حماد في الفتن، والبيهقي.

([3])  رواه الترمذي.

([4])  رواه ابن ماجة والبيهقي.

([5] )  رواه البخاري: 4497

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *