الاعتبار والاستبصار

الاعتبار والاستبصار
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الاعتبار والاستبصار اللذين ورد ذكرهما والدعوة إليهما في النصوص المقدسة، وعلاقتهما بالفكر والتأمل، وعلاقتهما بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الاعتبار والاستبصار آلتان من الآلات التي يستعملها الفكر في التعرف على الحقائق والقيم، وسلوكها نتيجة لذلك.
ودورهما لا يكتفي بالتعرف على حقائق الأشياء، وإنما يتعداه إلى تهذيب النفس وتزكيتها وتحقيقها بالقيم الرفيعة التي تتيح لها الترقي في مراتب الكمال المهيأة لها.
والافتقار إلى هاتين الآلتين يجعل الإنسان يمر بالتجارب المختلفة، ويرى بعينيه كل أصناف الآيات، ثم لا يعبر منها إلى الرسائل المنطوية داخلها؛ فيعمى عن الحق، بعد أن أتيح له أن يبصره بعينيه.
ولذلك فإن الاعتبار والاستبصار هما اللذان يمكنان النفس من العبور من الظواهر إلى البواطن.. ومن الحروف إلى المعاني.. ومن السطحية في التعامل مع الأشياء إلى العمق.. وبذلك يتحول العابر إلى بصير بالأشياء، وليس مجرد صاحب علم بها.
ولذلك ورد في النصوص المقدسة الدعوة إلى الاعتبار، وفي كل شيء.. ذلك أن لله تعالى في كل شيء رسائل يرسلها إلى عباده، ليعرفوه من خلالها، وليزكوا أنفسهم ويطهروها.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [آل عمران: 13]؛ فهذه الآية الكريمة تدعو كل الناس، وليس المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط، إلى تحليل ما حصل في غزوة بدر، وكيف نصر الله تعالى المؤمنين مع قلتهم وضعفهم وظروفهم الصعبة.. حتى يستفيدوا من ذلك الكثير من المعارف، ابتداء من معرفتهم بالنبوة، وانتهاء بمعرفتهم لسنن النصر وأسراره.
ومن الأمثلة عنها قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [النحل: 66، 67]، فهاتان الآيتان الكريمتان تنبهان العقل إلى البحث عن الآيات التي تحملها هذه النعم الإلهية العظيمة، وهل يمكن أن توجد من غير موجد، أو يمكن أن يوجدها غير العليم القدير الرحيم.. وغيرها من الأسماء الحسنى التي تدل عليها تلك الآيات.
وبناء على هذا؛ فإن المراد من الاعتبار والاستبصار في النصوص المقدسة، هو (النّظر في حقائق الأشياء، وجهات دلالتها ليعرف بالنّظر فيها شيء آخر من جنسها) ([1])
وبناء على طلبك ـ أيها المريد الصادق ـ فسأشرح لك دورهما في التزكية والترقية.
الاعتبار والتزكية:
أما دورهما في التزكية ـ أيها المريد الصادق ـ فقد ورد في الدلالة عليها الكثير من النصوص المقدسة التي تدعو العقول والبصائر إلى الاعتبار بما حصل للأمم السابقة، وكيف أداهم عجبهم وغرورهم وكبرهم إلى ذلك الهلاك الذي وقع بهم.
ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى في الدعوة إلى الاعتبار بما حصل لفرعون، بعد أن بلغ به استبداده وكبره إلى ادعاء الألوهية، قال تعالى: { فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 21 – 26]
وهكذا يدعو القرآن الكريم الذين ظلموا أنفسهم بهجرهم للحق، واستكبارهم عليه، إلى الاعتبار بما حصل للقرون التي قبلهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ} [الأنعام:6]
وقال: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ{13} ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:13-14]
وقال: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]
ويضرب لهم النماذج على ذلك، ومنها ما ورد في قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة:70]
ومنها ما ورد في قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ{9} قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ{10} قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ{11} وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:9-12]
ومنها ما ورد في قوله تعالى:{ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ{38} وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ{39} فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:38-40]
ويدعو القرآن الكريم إلى السير في الأرض، والاعتبار بما حصل للظالمين، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى} [طه:128]
وقال: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ{45} أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ{46} وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ{47} وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:45-48]
وقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ{9} ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون} [الروم:9-10]
وقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً{44} وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [فاطر:44-45]
وغيرها من الآيات الكريمة التي تدعو إلى النظر فيما حصل للأمم السابقة، والذين بقيت آثار بعضهم تشهد على ما كان لهم من قوة، ولكنهم في نهاية المطاف خرجوا من الدنيا من غير أن يأخذوا منها شيئا.
ومن الأمثلة عنها كل الآيات القرآنية التي تقص قصص الأنبياء وغيرهم، والتي لم تذكر في القرآن الكريم إلا لغرض العبرة، كما قال تعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111]
ولهذا لا يهتم القرآن الكريم بتفاصيل الأحداث، بقدر اهتمامه بنواحي العبرة فيها، ولذلك قد تتكرر القصة في المحال المختلفة، بناء على تنوع العبر الموجودة فيها.
وهكذا ورد في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى ما يدعو إلى الاعتبار والاستبصار، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم جوابا لمن سأله عن محتويات صحف موسى عليه السلام، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: (كانت عبرا كلها، وفيها: عجب لمن أيقن بالموت كيف يفرح؟ ولمن أيقن بالنار لم يضحك؟ ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها لم يطمئن إليها؟ ولمن يؤمن بالقدر كيف ينصب؟ ولمن أيقن بالحساب لم لا يعمل؟)([2])
ومنها ما روي عن الإمام علي في خطبته المعروفة بـ (القاصعة)، والتي حذر فيها من إبليس.. فمما ذكره فيها قوله: (فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس، إذ أحبط عمله الطّويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة، لا يدرى أ من سني الدّنيا، أم من سني الآخرة؟ عن كبر ساعة واحدة.. فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته؟ كلّا، ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا، إنّ حكمه في أهل السّماء وأهل الأرض لواحد، وما بين اللّه وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرّمه على العالمين)
ثم راح يحذر من الوقوع في حبائل الشيطان، وخدمة مشروعة التحريفي، فقال: (فاحذروا عباد اللّه عدوّ اللّه، أن يعديكم بدائه، وأن يستفزّكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورجله. فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنّزع الشّديد، ورماكم من مكان قريب، فقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين} [الحجر:39]، قذفا بغيب بعيد، ورجما بظنّ غير مصيب، صدّقه به أبناء الحميّة، وإخوان العصبيّة، وفرسان الكبر والجاهليّة، حتّى إذا انقادت له الجامحة منكم، واستحكمت الطّماعيّة منه فيكم، فنجمت الحال من السّرّ الخفيّ إلى الأمر الجليّ، استفحل سلطانه عليكم، ودلف بجنوده نحوكم، فأقحموكم ولجات الذّلّ، وأحلّوكم ورطات القتل، وأوطؤوكم إثخان الجراحة، طعنا في عيونكم، وحزّا في حلوقكم، ودقّا لمناخركم، وقصدا لمقاتلكم، وسوقا بخزائم القهر إلى النّار المعدّة لكم، فأصبح أعظم في دينكم حرجا، وأورى في دنياكم قدحا، من الّذين أصبحتم لهم مناصبين، وعليهم متألّبين، فاجعلوا عليه حدّكم، وله جدّكم)
ثم عبر من ذلك إلى السلاح الذي يستعمله إبليس في التفريق بين المؤمنين، وهو نفسه السلاح الذي أوقعه في الكبر والغواية، فقال: (فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبيّة، وأحقاد الجاهليّة، فإنّما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشّيطان ونخواته، ونزغاته ونفثاته، واعتمدوا وضع التّذلّل على رؤوسكم، وإلقاء التّعزّز تحت أقدامكم، وخلع التّكبّر من أعناقكم، واتّخذوا التّواضع مسلحة بينكم، وبين عدوّكم إبليس وجنوده، فإنّ له من كلّ أمّة جنودا وأعوانا، ورجلا وفرسانا، ولا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه، من غير ما فضل جعله اللّه فيه، سوى ما ألحقت العظمة بنفسه، من عداوة الحسد، وقدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشّيطان في أنفه من ريح الكبر، الّذي أعقبه اللّه به النّدامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة)
ثم دعا إلى الاعتبار بما حصل للأمم السابقة، فقال: (فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته، ووقائعه ومثلاته، واتّعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم، واستعيذوا باللّه من لواقح الكبر، كما تستعيذونه من طوارق الدّهر. فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده، لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه وأوليائه، ولكنّه سبحانه كرّه إليهم التّكابر، ورضي لهم التّواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفّروا في التّراب وجوههم، وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، وكانوا قوما مستضعفين، قد اختبرهم اللّه بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة، وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره)
ومن الاعتبار الذي له دور كبير في التزكية ـ أيها المريد الصادق ـ ذكر الموت؛ ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أكثروا من ذكر هادم اللَّذات) ([3]) فسئل عن ذلك، فقال: (الموت، فما ذكره عبد على الحقيقة في سعة إلا ضاقت عليه الدنيا، ولا في شدة إلا اتسعت عليه، والموت أول منزل من منازل الآخرة، وآخر منزل من منازل الدنيا، فطوبى لمن اكرم عند النزول بأولها، وطوبى لمن احسن مشايعته في آخرها)([4])
وقال لبعض أصحابه: (كُنْ في الدنيا كأَنَّك غريب أو عابر سبيل) ([5])
وسئل: (أي المؤمنين أكيس)، قال: (أكثرهم ذكرا للموت وأشدّهم له استعدادا)([6])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم خَطَّ خطّاً مربعاً وخط خطّاً في الوسط خارجاً منه وخطّ خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله محيطٌ به أو قد أحاط به. وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأهُ هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا) ([7])
وقال الإمام علي: (ما أنزل الموت حقّ منزلته من عدّ غدا من أجله.. وما أطال عبد الأمل إلّا أساء العمل.. ولو رأى العبد أجله وسرعته إليه لأبغض العمل من طلب الدّنيا([8]))
وطلب بعضهم من الإمام الباقر أن يحدثه بما ينتفع به، فقال: (أكثر ذكر الموت فإنّه لم يكثر ذكره إنسان إلّا زهد في الدّنيا)([9])
وشكا بعضهم إلى الإمام الصادق الوسواس، فقال له: (اذكر تقطّع أوصالك في قبرك، ورجوع أحبّائك عنك إذا دفنوك في حفرتك، وخروج بنات الماء من منخريك، وأكل الدّود لحمك فإنّ ذلك يسلى عنك ما أنت فيه)، قال الرجل: (فو الله ما ذكرته إلّا سلي عنّي ما أنا فيه من همّ الدّنيا([10]))
وقال: (من كان كفنه معه في بيته لم يكتب من الغافلين، وكان مأجورا كلّما نظر إليه)([11])
وقال: (إذا أنت حملت جنازة فكن كأنّك أنت المحمول وكأنّك سألت ربّك الرّجوع إلى الدّنيا ففعل فانظر ما ذا تستأنف)، ثم قال: (عجب لقوم حبس أوّلهم عن آخرهم ثمّ نودي فيهم الرّحيل وهم يلعبون)([12])
وقال: (ذكر الموت يميت الشهوات في النّفس ويقطع منابت الغفلة ويقوّي القلب بمواعد الله ويرقّ الطبع ويكسر أعلام الهوى ويطفي نار الحرص ويحقّر الدّنيا.. وذلك عندما يحلّ أطناب خيام الدّنيا ويشدّها في الآخرة ولا يسكن نزول الرّحمة على ذاكر الموت بهذه الصفة، ومن لا يعتبر بالموت وقلّة حيلته وكثرة عجزه وطول مقامه في القبر وتحيره في القيامة فلا خير فيه) ([13])
ولأجل تذكر الموت، والاعتبار به ورد الأمر بزيارة المقابر؛ ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنّها تزهّد في الدّنيا وتذكّر الآخرة) ([14])
الاعتبار والترقية:
أما دور الاعتبار والاستبصار في الترقية ـ أيها المريد الصادق ـ فكل النصوص المقدسة تدل عليه؛ ذلك أن الله تعالى يدعونا إلى إعادة قراءة كل شيء في الكون بناء على الحقائق التي يقوم عليها، لا على الأهواء التي صنعتها النفوس.
ذلك أن كل الكون بأعيانه وأحداثه وجواهره وأعراضه ليس سوى رسائل إلهية تدل على الحقائق الوجودية العظمى، والتي يترقى السالك من خلال معرفتها في معارج الكمال المتاح له بحسب قابليته واستعداده الذي وفره لنفسه عبر تهذيبها وتزكيتها.
ولهذا كان أول ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بل ما أمرت به أمته ـ كما يشير الحكماء ـ هو أن تعاد قراءة الكون باسم الله، كما قال تعالى:﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق:1)، فالآية تحتمل من حيث الإشارة أن يكون اسم الموصول مفعولا به، ويصير المعنى حينئذ (اقرأ باسم ربك الأشياء التي خلقها)
والقرآن الكريم مليئ بهذا المعنى مما قد لا يحوجنا إلى هذا المعنى الإشاري الذي يفهمه الحكماء، بل فيه الدلالة على كيفية قراءة الكون باسم الله.
فالله تعالى يأمرنا بقراءة الرحمة الإلهية من خلال حياة الأرض بعد موتها، قال تعالى:﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ (الروم: 50)
ويأمرنا بالاستبشار تفاؤلا بفضل الله، وفرحا بالله، وتنسما لرحمة الله عند هبوب الرياح التي يرسلها الله، قال تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (لأعراف:57)
ويعلمنا أن نقرأ لطف الله وخبرته المحيطة بكل شي من خلال حروف الماء الساقطة على الأرض المخضرة، قال تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ (الحج:63)
ويعلمنا أن نقرأ علم الله وقدرته من خلال السطور المبثوثة في تقلب الزمان بأعمارنا، قال:﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ (النحل:70)
ويرينا قوة الله القاهرة، وقدرته الشاملة باستعراض تفاصيل دقيق المكونات وجليلها:
فالسموات التي ننبهر لضخامتها لا تعدو أن تكون شيئا حقيرا جدا أمام عظمة الله، قال تعالى:﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الزمر:67)
والقرآن الكريم يرشدنا من خلال هذه الآية إلى أن سبب الجهل بقدر الله هو عدم قراءة الكون باسم الله، فهؤلاء نظروا إلى عظم السموات والأرض غافلين عن خالقهما.
وليس من الغريب لهذا أن تحوي سيدة آي القرآن الكريم([15]) الحديث عن خلق الله لتستتدل به على الله، قال تعالى:﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ (البقرة:255)
فالآية الكريمة تدلنا على طريق العبور من السموات والأرض إلى الحي القيوم، لأنه لا يكون هذا الإبداع العظيم في هذا الخلق العظيم إلا بحياة المبدع وقيوميته، فالتوازن والتكامل والبقاء في المخلوقات دليل قيام خالقها بها.
ومن هذه الأبواب التي يفتحها لنا القرآن الكريم للتعرف على الله من خلال كتاب الكون ما ورد فيه من استدلالات على البعث، فهي ـ عند التأمل ـ أدلة على الله أكثر من دلالتها على البعث.
وهي تدل على الله قبل البعث، لأن الأساس الذي أوقع الدهريين والمنكرين للبعث هو اعتقادهم بالاستحالة العقلية لعودة العظم الرميم للحياة، كما قال تعالى ضاربا المثل ببعضهم:﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ (يّـس:78)
والقرآن الكريم ـ لينفي هذه الشبهة، ويرفع هذا الالتباس ـ لا يتكلف كلاما عقليا جافا كالكلام الذي يتعمده الفلاسفة، بل يكتفي بأمرنا برفع أبصارنا وحواسنا للنظر إلى الأرض الخاشعة كيف تتحول بالماء الرباني إلى جنة من جنان الحياة، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فصلت:39)، وقال:﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ (الزخرف:11)، وقال:﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ (فاطر:9)
أو يرشدهم إلى استعادة تذكر ما سبق من النشأة الأولى، قال تعالى:﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يّـس:79)
ويخاطب الذين قالوا ـ مغترين بما لديهم من المعارف ـ:﴿ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾ (الاسراء: 49)، بأمرهم بأن يتحولوا إلى أي شيء شاءوا مما يعتقدون قوته:﴿ قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾(الاسراء: 50-51)، فإذا بقيت حيرتهم حينها ويقولون:﴿ مَن يُعِيدُنَا ﴾، فإن الجواب القرآني يكتفي بتذكيرهم بالنظر إلى مبدأ خلقهم، قال تعالى:﴿ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾
وحينذاك يبدل هؤلاء الغافلون عن كنوز المعارف المخبأة في السموات والأرض الموضوع، فيسألون عن موعد ما لا يؤمنون به،وكأن عدم تحديد الموعد هو الدليل على ما ينكرونه، قال تعالى:﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾ (الاسراء:51)
أما طريق تحقيق ذلك، فالقرآن الكريم يدل عليه بالنظر في السموات والأرض، فيستدل بالقدرة على النشأة الثانية بقدرته تعالى على النشأة الأولى، قال تعالى:﴿ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ (يّـس:81)
فكل شيء يسير على الله، والكون كله يدل على ذلك اليسر، قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ (العنكبوت:19)، وقال تعالى:﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ (قّ:15)
ويرد على غلاظ القلوب من بني إسرائيل الذين صورت لهم عقولهم الغارقة في أوحال المادة أن الله ـ تعالى عما يقولون ـ يلحقه العياء، فرد عليهم تعالى في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الاحقاف:33)
وهذه النظرة لسطور المكونات تكسبها من الجمال ما لا يكسبها أي وصف بشري، فلا مقارنة بين من يرى ذات الزهرة التي سرعان ما تذبل، فيحزن لذبولها بقدر ما سره تفتحها، وبين من يرى في ابتسام الزهرة لطف الله ورحمته وجماله.
وشبه بعض الحكماء عبور المؤمن للكون الحسي الذي يستوي في النظر إليه العارف والغافل، بالنظر إلى المرآة، فهي من حيث أنها زجاجة، نرى مادتها الزجاجية، وتكون الصورة المتمثلة فيها شيئا ثانويا، بينما إن كان القصد من النظر الى المرآة رؤية الصورة المتمثلة فيها، فالصورة تتوضح أمامنا بينما يبقى زجاج المرآة أمراً ثانوياً.
وقد وضع اصطلاحين لذلك، ليوضح من خلالها النظرة القرآنية العرفانية للكون، استفادهما من اصطلاحات النحويين هما (المعنى الاسمي للكون، والمعنى الحرفي له، فالاسم ما دل على معنى في نفسه، أما الحرف فهو الذي: دلّ على معنى في غيره)
والنظرة القرآنية الإيمانية إلى الموجودات تجعلها جميعا حروفاً، تعبّر عن معنى في غيرها، وهذا المعنى هو تجليات الاسماء الحسنى والصفات الجليلة للخالق العظيم المتجلية على الموجودات.
ولهذا اتفق الحكماء على أن حقائق الأشياء، إنما هي الأسماء الإلهية الحسنى، أما ماهية الأشياء فهي ظلال تلك الحقائق.. وقد قال بعضهم مخاطباً بعض مريديه يوصيه:(حدد بصر الإيمان تجد الله تعالى في كل شيء، وعند كل شئ، وقبل كل شئ، وبعد كل شئ، وفوق كل شئ، وتحت كل شيء، قريباً من كل شئ، ومحيطاً بكل شئ، بقرب هو وصفه، وبحيطة هي نعته، وعد عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب في المسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وامحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو.. كان الله ولا شئ معه، وهو الآن على ما عليه كان)
ولأهمية هذا النوع من القراءة الكونية، ولعلاقته الوثيقة بالإيمان، بل بأرفع درجات الإيمان يثني القرآن الكريم على المؤمنين الذين أمضوا حياتهم في قراءة رسائل الله إليهم عبر مكوناته.
وأول هؤلاء، وعلى رأسهم أولئك الذين يعبر عنهم القرآن الكريم بأولي الألباب، وهم الذين خرجوا من ظواهر المكونات إلى بواطنها، ولم تحجبهم الصور المزخرفة للمكونات عن الحروف المسجلة فيها.
ولعل أعظم وصف قرآني لهم هو ما ورد في أواخر سورة آل عمران من قوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران:191)
وفي هذه الآيات برهان جلي على الأثر الذي تتركه القراءة الإيمانية لحروف المكونات، فالقرآن الكريم قدم الفكر على الذكر، وقدم القراءة على التسبيح، ثم ذكر أن أول ما يقوله هؤلاء العارفون، أو أول ما يقرؤونه هو أن هذا الخلق العظيم لم يخلق عبثا.
ومن الآيات المتحدثة عن هذا الصنف قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (الزمر:21)
ونلاحظ هنا كذلك أن هؤلاء العارفين لا يقتصرون على النظر إلى المكونات، بل يبحثون في حركاتها وسكناتها وعجيب ما يحدث لها من التحولات، ليتعرفوا من خلال ذلك على الله.
ويلي هؤلاء ـ الذين تعمقوا في معرفة الله نتيجة تعمقهم في معرفة الكون ـ أصحاب العقول الراجحة الذين يمدون أبصارهم لتأمل جميع المكونات في البر والبحر والسماء والأرض، قال تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة:164)
ونلاحظ في هذه الآية الكريمة التفصيل في ذكر أنواع المكونات، ثم الإخبار بأن هذه الآيات خاصة بالذين يعقلون، وفي ذلك إشارة إلى الفريق الثاني ممن يستفيدون من آيات الله، وهم الذين يستعملون عقولهم في الاستدلال على الخالق، وقد مثل هؤلاء علماء التوحيد والكلام، بخلاف الآيات السابقة التي عبرت عن العقل باللب.
ومثل هذه الآية ما ورد من تفاصيل قد لا يدرك أكثرها إلا العلماء المختصون، والمعبر عنهم في القرآن الكريم بالذين يعقلون، قال تعالى:﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (الرعد:4)
ومن الأصناف القارئة لكتاب الكون صنف المفكرين، وهم الذين يمزجون بين الرؤى المختلفة للكون ليستنتجوا منها المعارف الإلهية، قال تعالى عنهم:﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3) ﴾ (الرعد: 3)
ومن الأصناف القارئة لكتاب الكون أصحاب الحواس المرهفة، أو الذين شفت حواسهم لتدرك ما يختزن الظاهر من حقائق الباطن، قال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ(67)﴾ (يونس: 67)
ومن الأصناف القارئة لكتاب الكون العلماء، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم:22)
وقد قصر الخشية من الله على هؤلاء، قال تعالى بعد تعداد آيات الكون:﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر:28)
ومن الأصناف القارئة لكتاب الكون المؤمنون، قال تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنعام:99)
ومن هذه الأصناف القارئة المنيبون والمتقون، قال تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ﴾ (غافر:13)
ومنهم العابدون الموحدون، قال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (فصلت:37)
ومنهم الشاكرون الحامدون، قال تعالى:﴿ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (القصص:73)
وقد يجمع القرآن الكريم بين هذه الأصناف في نسق واحد، كما ورد في قوله تعالى:﴿ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ(3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ(4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(5) ﴾ (الجاثـية)
ونرى أن التأمل والتعمق في فواصل هذه الآيات يكشف عن معارف جليلة ترتبط بهذه الأصناف، ونوع المكونات التي تتأملها، وطريقة تأملها، وهو تصنيف أساسي له علاقة كبيرة بالسلوك، وقد نتحدث عنه في المناسبات المرتبطة به.
ولهذه الأصناف جميعا ورد قوله تعالى:﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (فصلت:53)، فهذه الآيات موجهة لهؤلاء، أو هي بعبارة أخرى موجهة لجميع الناس، ولكن لا يستفيد منها غير هؤلاء.
أما غيرهم من المعرضين عن آيات الله الذين يقصرون نظرهم على شهواتهم، فلا يرون في الكون غير سوق لتغذية هذه الشهوات، فالقرآن الكريم يضعهم في صنف المعرضين، قال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ (الانبياء:32)، وقال تعالى:﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف:105)
وهؤلاء هم الأميون في عالم الحقائق، وإن قرأو جميع حروف العالم، وحللوا جميع لغاته، فالعجب كل العجب ـ كما يقول بعض الحكماء ـ ممن يرى خطاً حسناً أو نقشاً حسناً على حائط فيستحسنه، فيصرف جميع همه إلى التفكر في النقاش والخطاط وأنه كيف نقشه وخطه وكيف اقتدر عليه ولا يزال يستعظمه في نفسه ويقول: ما أحذقه وما أكمل صنعته وأحسن قدرته ثم ينظر إلى هذه العجائب في نفسه وفي غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوّره فلا تدهشه عظمته ولا يحيره جلاله وحكمته؟)([16])
هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد
الصادق ـ فاسع لأن تعمل بما فيها؛ حتى يؤدي عقلك وظائفه التي كلف بها، والتي هي في
طاقته.. ولا تكن كأولئك الذين يسدون كل منافذ الحقيقة عن بصائرهم، ثم يتهمون الله
تعالى بأنه لم يجعل في كونه من الآيات ما يهديهم إليه.
([1] ) الكليات للكفوي (147)
([2] ) الخصال ج 2: 104 .
([3] ) رواه الترمذي (2307)، والنسائي (4/ 4)، وابن ماجه (4258)
([4] ) بحار الأنوار (6/ 133)
([5] ) البخاري ، (6416)
([6]) الكافي، ج 3 ص 257 رقم 29.
([7] ) رواه البخاري (6417).
([8]) الكافي، ج 3 ص 259 رقم 30.
([9]) الكافي، ج 3 ص 255 رقم 18.
([10]) الكافي، ج 3 ص 255 رقم 20.
([11]) الكافي ج 3 ص 256 رقم 23.
([12]) الكافي، ج 3 ص 258 رقم 29.
([13] ) بحار الأنوار (6/ 133)
([14] ) أحمد (3/ 38) ، والحاكم في المستدرك (1/ 375)
([15]) عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)، قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) قال: قلت:﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ (البقرة: من الآية255)، فضرب في صدري وقال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر) رواه مسلم.
([16]) إحياء علوم الدين (4/ 439)