المعاتبة والمعاقبة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المرابطة الأخيرة التي ذكرها الحكماء، وهي تلك المعاتبات والمعاقبات التي كانوا يطبقونها على أنفسهم، ويتشددون معها فيها، ومدى موافقة ذلك الشريعة، ومدى تأثيرها في التزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التعامل الصحيح مع النفس، يقتضي ذلك، ذلك أنها إن لم تخف العقوبة، ركنت إلى الأهواء، وشردت بها السبل، وصعب على صاحبها التحكم فيها.
لذلك قد يلجأ إلى فطامها عن بعض ما تحب، أو عقوبتها بما تستحق مثلما يحصل مع الطفل الصغير الذي لا يفرق بين ما ينفعه وما يضره، كما عبر الشاعر عن ذلك بقوله:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على… حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه… ان الهوى ما تولى يصم أو يصم
وراعها وهي في الأعمال سائمة… وان هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة… من حيث لم يدر أن السم في الدسم
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا عند ذكره لأمر الله تعالى لبني إسرائيل بقتل أنفسهم، بعد اتخاذهم العجل، قال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)﴾ (البقرة)؟
وقد روي في الحديث أنه انطلق رجل ذات يوم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزع ثيابه وتمرّغ في الرمضاء، وجعل يقول لنفسه: ذوقي ونار جهنم أشدّ حرّاً أجيفة بالليل بطالة بالنهار؟ فبـينما هو كذلك إذ أبصر النبـي صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة فأتاه فقال: غلبتني نفسي فقال له النبـي صلى الله عليه وآله وسلم: (ألم يكن لك بد من الذي صنعت، أما لقد فتحت لك أبواب السماء، ولقد باهى الله بك الملائكة)، ثم قال لأصحابه: (تزودوا من أخيكم)، فجعل الرجل يقول له: يا فلان ادع لي، يا فلان ادع لي، فقال النبـي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمهم)، فقال: (اللهم اجعل التقوى زادهم، واجمع على الهدى أمرهم)، فجعل النبـي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم سدده)، فقال الرجل: اللهم اجعل الجنة مآبهم([1]).
وفي حديث آخر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واسمه أبو لبابة ـ بعدما خالف ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ أتى المسجد النبوي، فربط نفسه بسارية المسجد، وحلف ألا يحله إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبره ـ وكان قد استبطأه ـ قال: (أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، أما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه)
وبقي أبو لبابة على تلك الحال إلى أن نزلت توبته، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السحر يضحك، فقلت: مم تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك؟ قال: تيب علي أبي لبابة، قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت.. فقامت على باب حجرتها، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يطلقني بيده الشريفة.
وقد روي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت تحلّه؛ فقال: إنّي حلفت ألا يحلّني إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن فاطمة بضعة مني)([2])
وقد أقام مربوطا ست ليالي أو سبع ليال، وقيل سبع عشرة ليلة.. وكان تأتيه امرأته أو بنته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيربط بالعمود حتى كاد يذهب سمعه وبصره.
وروي أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن تاب الله عليه: (من تمام توبتي أن أهجر دار قوم أصبت فيها الذنب)، وروي أنه عاهد الله أن ينخلع من ماله فقال له صلى الله عليه وآله وسلم:(يجزيك الثلث)([3])
وقد أقره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فعله، ولو كان ذلك غير مشروع لنهاه.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأذكره لك مما قاله أو فعله الصالحون بخصوص هذه المرابطة.
المعاتبة والتزكية:
أما المعاتبة ـ أيها المريد الصادق ـ فيقصدون بها تلك المخاطبات التي يوجهها الصالحون لأنفسهم عتابا لها، وتصحيحا لمسارها، حتى تكف عن غيها، وتعود إلى رشدها.
وهي كثيرة جدا؛ فاهتم بمطالعتها، والاستفادة منها، وتعلم كيف تخاطب من خلالها نفسك، فهم لم يسجلوها في الدواوين، ولم يحفظها الرواة إلا لتكون سندا للسالكين والسائرين، يهذبون من خلالها سلوكهم، ويرتقون بها في المعارج والمراتب التي هيئت لها.
وقال آخر([4]): يا نفس، ما أعظم جهلك، تدّعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقا، أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار، وأنك صائرة إلى إحداهما على القرب، فما لك تفرحين، وتضحكين، وتشتغلين باللهو، وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم، وعساك اليوم تختطفين أو غدا! فأراك ترين الموت بعيدا ويراه اللّه قريبا. أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن البعيد ما ليس بآت؟
أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول، ومن غير مواعدة ومواطأة، وأنه لا يأتي في شيء دون شيء، بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، فإن لم يكن الموت فجأة فيكون المرض فجأة، ثم يفضي إلى الموت، فما لك لا نستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل قريب.
و إن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك، وأقل حياءك ويحك يا نفس، لو واجهك أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه، ومقتك له، فبأي جسارة تتعرضين لمقت اللّه، وغضبه، وشديد عقابه! أ فتظنين أنك تطيقين عذابه؟ هيهات هيهات، جربي نفسك، إن ألهاك البطر عن أليم عذابه فاحتبسى ساعة في الشمس، أو في بيت الحمام، أو قرّبي أصبعك من النار، ليتبين لك قدر طاقتك.
أم تغترين بكرم اللّه وفضله، واستغنائه عن طاعتك وعبادتك، فما لك لا تعوّلين على كرم اللّه تعالى في مهمات دنياك. فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه، ولا تكلينه إلى كرم اللّه تعالى! وإذا أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا ينقضي إلا بالدينار والدرهم، فما لك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل، فلم لا تعوّلين على كرم اللّه تعالى حتى يعثر بك على كنز، أو يسخّر عبدا من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب، أ فتحسبين أن اللّه كريم في الآخرة دون الدنيا، وقد عرفت أن سنة اللّه لا تبديل لها، وأن رب الآخرة والدنيا واحد وأن ليس للإنسان إلا ما سعى.
ويحك يا نفس، ما أعجب نفاقك ودعاويك الباطلة، فإنك تدّعين الإيمان بلسانك وأثر النفاق ظاهر عليك، ألم يقل لك سيدك ومولاك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقال في أمر الآخرة:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى } [النجم: 39] فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة، فكذبته بأفعالك. وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر، ووكل أمر الآخرة إلى سعيك، فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر ما هذا من علامات الإيمان. لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟
وقال آخر([5]): يا نفس.. احزمي أمرك، فما لك بضاعة إلا عمرك، فلا تفنيه في مآربك، ولذاتك ومطالبك، لأنه إذا فني رأس المال حصلت الخسارة، ووقع اليأس عن التجارة..
يا نفس.. هذا يوم جديد، وهو عليك شهيد، فاعملي فيه لله بطاعته، وإياك إياك من إضاعته، فإن كل نفس من الأنفاس، وحاسة من الحواس، جوهرة عظيمة، ليس لها من قيمة.
يا نفس.. إن كنت في معصية الله ممن يعلم اطلاعه، فلقد اجترأت على أمر عظيم الشناعة، لجعلك إياه أهون الناظرين، وأخف المطلعين، وإن كنت تظنين أنه لا يراك، فلقد كفرت بمولاك.
يا نفس.. أترين لو أن أحدا من جلسائك، واجهك بما تمقتينه، أو عاملك بما تكرهينه، لقلمت منه الأظفار، وأحللت به دار البوار فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وعذابه، وشدة نكاله وعقابه؟ وقربي إصبعك من الحميم، إن ألفاك البطر عن النظر في عقابه الأليم.
يا نفس.. ويحك بل ويلك من العذاب، كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب، أتظنين أنك إذا مت انفلت، وإذا حشرت رددت؟! هيهات هيهات، كل ما توعدين لآت.
يا نفس.. إنك تقدمين على ما قدمت، وتجازين على ما أسلفت، فلا تخدعنك دنيا دنية، عن مراتب جنات علية، فإن لكل حسنة ثوابا، ولكل سيئة عقابا، وإنه لا بد لك في قبرك من قرين، فإن كان صالحا فبه تستأنسين، وإن كان طالحا فمنه تستوحشين.
يا نفس.. ما هذه الحيرة والسبيل واضح، وما هذه الغفلة والمشير ناصح، إلى كم تجمعين ولا تقنعين، ولوارثك تودعين؟!
يا نفس.. أتفرحين بنعيم زائل، وسرور راحل؟! غفلت وأغفلت، وعلمت فأهملت، إلى كم مواظبتك على الذنوب، وأنت بعين علام الغيوب؟ فجمعك في هذه الدنيا إلى تفريق، وسعتك إلى ضيق، فما هذه الطمأنينة وأنت مزعجة، وما هذا الولوج وأنت مخرجة؟!
يا نفس.. لا جرم أنه تعالى تكفل في الدنيا بإصلاح أحوالك، فعلام كذبتيه بأفعالك؟ وأصبحت تتكالبين على طلب الدنيا تكالب المدهوش المستهتر، وأعرضت عن الآخرة إعراض المغرور المستحقر، ما هذا من علامات من يتبع السنة، أو يبتغي الجنة..
يا نفس.. أتحسبين أن تتركي سدى، ألم تكوني نطفة من مني يمنى، ثم كنت علقة فخلق فسوى، أليس ذلك بقادر [ على ] أن يحيي الموتى ؟!.
يا نفس.. لو أن طبيبا يهوديا، أو حكيما نصرانيا، أخبرك في ألذ أطعمتك بدائه، وعدم دوائه، ثم أمرك بالاحتماء، عن بعض الغذاء، لصبرت عنه وتركته، وجاهدت نفسك فيه.. أفكان قول القرآن المبين، والأنبياء والمرسلين، أقل تأثيرا من قول يهودي يخبر عن تخمين، أو نصراني ينبئ عن غير يقين؟!.. والعجب لمن يحتمي عن الطعام لأذيته، كيف لا يحتمي عن الذنب لأليم عقوبته؟!
يا نفس.. ومن العجب أنه لو أخبرك طفل: بأن عقربا في جيبك لرميت بثوبك، أو حية في إزارك لرميت بأطمارك.. أفكان قول الأنبياء والأبدال، أقل عندك من قول الأطفال؟! أم صار حر نار جهنم وزقومها، أحقر عندك من العقرب وسمومها؟! ولا جرم فلو انكشف للبهائم علانيتك وسريرتك، لضحكوا من غفلة سيرتك.
يا نفس.. من لا يطعم الدابة إلا في الحضيض لا يقدر على قطع العقبة؟! ومن لا يملك قيراطا من المال كيف يفك الرقبة؟! وكيف بك إذا أمرت بالصعود، على عقبة كؤود، وطرسك موفور من السيئات، وظهرك موقور من التبعات، وأنت مع ذلك عارية عطشانة، حافية غرثانة؟! فلا شك هنالك أن المستريح، أحسن حالا من الطليح، ولا جرم أن المبطئين، أقبح حالا من المسرعين، فاستعدي للآخرة، على قدر هول أرض الساهرة، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أوتي، ويبغي الزيادة فيما بقي، وينهى الناس ولا ينتهي.
يا نفس.. ما المانع لك من المبادرة إلى صالح الأعمال، وما الباعث لك على التسويف والاهمال، وهل سببه إلا عجزك عن مخالفة شهوتك، وضعفك عن مؤالفة أئمتك؟ وهب أن الجهد في آخر العمر نافع، وأنه مرق إلى أسعد المطالع، فلعل اليوم آخر عمرك، ونهاية دهرك.
يا نفس.. غالبي الشهوة قبل قوة طراوتها، فإنها إن قويت لم تقدري على مقاومتها، ومثل ذلك: أن الشهوة كالشجرة النابتة، والصخرة الثابتة، التي تعبد العبد بقلعها أو أمر بنزعها، فمن ترك قلعها وعجز عن نزعها، كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي الهمة، فأخرها بعد أمة إلى الضعف وابيضاض اللمة، مع العلم بأن طول المدة تزيد الشجرة قوة وثباتا، وتولي القالع ضعفا وشتاتا.
ما قولك في مريض غمره الأسقام، أشير عليه بترك الماء البارد ثلاثة أيام، ليصح ويتهنأ بشربه مدى الشهور والأعوام، فما مقتضى العقل في افتعال أمر الصبوة، وقضاء حق الشهوة، أيصبر الثلاثة أيام ليتنعم طول عمره؟ أم يقضي في الحال شهوة وطره؟!. وليت شعري أألم الصبر عن الشهوات، وكظم الغيظ عن العقوبات، أعظم شدة، وأطول مدة، أم ألم النار، وغضب الجبار؟!.
يا نفس.. من لا يطيق الصبر عن قضاء الوطر، كيف يصبر يوم العرض على حر سقر؟!.
يا نفس.. إياك إياك أن ترضي غير الله وتعرضي عنه، فإنه مانعك من الغير ولا يمنعك الغير منه، والعجب منك كيف تذنبين والشاهد عليك الملك الجبار؟! وتضحكين ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار؟!
وقال آخر([6]): يا نفس.. اسمعي مني خمسة تنبيهات مقابل ما تفوهتِ به، وأنتِ منغمسة في الجهل المركب، سادرة في نوم الغفلة على فراش الكسل..
يا نفسي الشقية!.. هل أن عمركِ أبدي؟.. وهل عندك عهد قطعي بالبقاء الى السنة المقبلة، بل الى الغد؟.. فالذي جعلك تملين وتسأمين من الطاعة هو توهمك الأبدية والخلود، فتظهرين الدلال، وكأنك بترفك مخلدة في هذه الدنيا.
يا نفسي الشرهة!.. إنك يوميا تأكلين الخبز، وتشربين الماء، وتتنفسين الهواء، أما يورث هذا التكرار مللا وضجرا؟.. كلا.. دون شك.. لأن تكرار الحاجة لا يجلب الملل بل يجدد اللذة، لهذا؛ فالطاعة التي تجلب الغذاء لقلبي، وماء الحياة لروحي، ونسيم الهواء للطيفة الربانية الكامنة في جسمي، لابد أنها لا تجعلك تملين ولا تسأمين أبدا.
يا نفسي الجزعة!.. إنك تضطربين اليوم من تذكر عناء العبادات التي قمت بها في الأيام الماضية، ومن صعوبات الصلاة وزحمة المصائب السابقة، ثم تتفكرين في واجبات العبادات في الأيام المقبلة وخدمات أداء الصلوات، وآلام المصائب، فتظهرين الجزع، وقلة الصبر ونفاده.. هل هذا أمر يصدر ممن له مسكة من عقل؟.
يا نفسي الطائشة!.. يا ترى هل أن أداء هذه العبودية دون نتيجة وجدوى؟! وهل أن أجرتها قليلة ضئيلة حتى تجعلك تسأمين منها؟. مع أن أحدنا يعمل إلى المساء ويكد دون فتور إن رغبه أحد في مال أو أرهبه.
إن الصلاة التي هي قوت لقلبك العاجز الفقير وسكينة له في هذا المضيف الموقت وهو الدنيا. وهي غذاء وضياء لمنزلك الذي لابد أنك صائرة اليه، وهو القبر. وهي عهد وبراءة في محكمتك التي لا شك أنك تحشرين اليها. وهي التي ستكون نورا وبراقا على الصراط المستقيم الذي لابد أنك سائرة عليه.. فصلاة هذه نتائجها هل هي بلا نتيجة وجدوى؟ أم أنها زهيدة الأجرة؟
يا نفسي المغرمة بالدنيا!.. هل أن فتورك في العبادة وتقصيرك في الصلاة ناشئان من كثرة مشاغلك الدنيوية؟ أم انك لا تجدين الفرصة لغلبة هموم العيش؟!
فيا عجبا هل أنت مخلوقة للدنيا فحسب، حتى تبذلي كل وقتك لها؟. تأملي!! إنك لا تبلغين أصغر عصفور من حيث القدرة على تدارك لوازم الحياة الدنيا رغم أنك أرقى من جميع الحيوانات فطرة..
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ نماذج عن معاتبات الصالحين لأنفسهم، ويمكنك أن تجد الكثير من أمثالها في الكتب المخصصة لها؛ فاستفد منها، وتعلم أن تخاطب نفسك، وتعاتبها، حتى تقنعها بالسير في طريق الله، وتبعد عنها كل تلك الوساوس التي يسربها لك شياطين الإنس والجن.
المعاقبة والتزكية:
أما المعاقبة ـ أيها المريد الصادق ـ فيقصدون بها ذلك التشدد الذي يمارسونه مع أنفسهم جراء مخالفتها لأحكام الشريعة، وقد عبر بعض الحكماء عن ضرورة هذه المعاقبة؛ فقال: (مهما حاسب الإنسان نفسه فلم تسلم عن مقارفة معصية وارتكاب تقصير في حق الله تعالى، فلا ينبغي أن يهملها.. لأنه إن أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي، وأنست بها نفسه، وعسر عليه بعد ذلك فطامها، وكان ذلك سبب هلاكها، بل ينبغي أن يعاقبها، فإذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع، وإذا نظر إلى غير محرم ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر، وكذلك يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن شهواته)([7])
ثم ذكر بعض الأمثلة عن العقوبات، ودورها في التزكية والترقية، فقال: (ومن لطائف العقوبات أن مريد الله إذا رأى شرها في نفسه للطعام ألزمها بالصوم وتقليل الطعام، ثم يكلفها أن تهيئ الأطعمة اللذيذة ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه فيتعود الصبر وينكسر شرهه.. ومثل ذلك إن رأى الغضب غالباً عليه ألزم نفسه الحلم والسكوت، بل سلط على نفسه من يصحبه ممن فيه سوء خلق، ويلزمها خدمته حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه)
ومن الأمثلة التي ضربها الحكماء على ذلك ما حكي عن بعضهم أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر، ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل.
وروي عن بعضهم قال: نذرت أني كلما اغتبت إنسانا أن أصوم يوما فأجهدني فكنت أغتاب وأصوم، فنويت أني كلما اغتبت إنسانا أن أتصدق بدرهم فمن حب الدراهم تركت الغيبة.
وروي عن بعضهم أنه دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده، ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك، حتى أدخله في المرة الرابعة، فسأله عن ذلك. فقال: (قد رضت نفسي على الذل عشرين سنة، حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد. ثم يدعى فيرمى له عظم فيعود، ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت)
وروى عن بعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب فأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج.
وعن بعضهم أنه مر بغرفة فقال: متى بنيت هذه ؟ ثم أقبل على نفسه فقال: تسألين عما لا يعنيك ! والله لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها.
وعن بعضهم أنه قال: أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها، فأردت أن أنام فلم أقدر، فجلست فلم أطق الجلوس، فخرجت فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بي قال: يا أبا القاسم إلى الساعة، فقلت: يا سيدي من غير موعد؟ قال: بلى سألت الله عز وجل أن يحرك إلى قلبك، فقلت: قد فعل فما حاجتك؟ قال: فمتى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها، فأقبل على نفسه فقال: اسمعي فقد أجبتك بهذا سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من الجنيد ها قد سمعتيه، ثم انصرف وما عرفته.
وقال رجل لبعض الصالحين: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: متى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام.
وروي عن آخر أنه كان يطوف فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي.
وروي عن آخر أنه كان قد علق سوطاً في مسجد بيته يخوّف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفاً حتى يكون الكلل منك لا مني.. فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه، ويقول: أنت أولى بالضرب من دابتي.
وكان يقول: أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستأثروا به دوننا.. كلا والله لنزاحمهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً.
ومما يقرب من هذا، ويدل عليه ما حدث به بعضهم عن الإمام الصادق، قال: خرجت مع أبي عبد الله وهو يحدث نفسه، ثم استقبل القبلة فسجد طويلا، ثم ألزق خده الايمن بالتراب طويلا، قال: ثم مسح وجهه ثم ركب، فقلت له: بابي أنت وأمي لقد صنعت شيئا ما رأيته قط، قال: يا إسحاق إني ذكرت نعمة من نعم الله عزوجل علي فأحببت أن أذلل نفسي، ثم قال: (يا إسحاق ما أنعم الله على عبده بنعمة فشكرها بسجدة يحمد الله فيها ففرغ منها حتى يؤمن له بالمزيد من الدارين) ([8])
ومثله ما روي عن الإمام الكاظم أنه بعد بعض الصلوات، خر لله ساجدا سجودا طويلا؛ فسمعه بعضهم يقول بصوت حزين في سجوده: (رب عصيتك بلساني ولو شئت وعزتك لأخرستني، وعصيتك ببصري ولو شئت وعزتك لكمهتني، وعصيتك بسمعي ولو شئت وعزتك لصممتني، وعصيتك بيدي ولو شئت وعزتك لكنعتني، وعصيتك برجلي ولو شئت وعزتك لجذمتني، وعصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها علي وليس هذا جزاؤك مني)، ثم أحصي له ألف مرة قوله: (العفو العفو)، ثم ألصق خده الأيمن بالأرض، وهو يقول بصوت حزين: (بؤت إليك بذنبي، عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب غيرك يامولاي) ثلاث مرات، ثم ألصق خده الأيسر بالأرض، وهو يقول: (ارحم من أساء واقترف واستكان واعترف) ثلاث مرات ثم رفع رأسه([9]).
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن كل هذه الممارسات الشديدة على النفس، لها تأثيرها التربوي الكبير، ذلك أن الذي تمتلئ نفسه بالكبر والعجب والغرور يستحيل عليه أن يفعل بنفسه هذا، ولهذا روي عن المسيح عليه السلام أنه قال لبني إسرائيل: أين ينبت الزرع؟ قالوا في التراب. فقال: بحق أقول لكم، لا تنبت الحكمة إلا في قلب مثل التراب.
ومما يروى في هذا أن رجلا من الوزراء وأصحاب الجاه، كان يصحب بعض الحكماء، ويعجب بكلماته، وذات يوم قال له: أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر، وأقوم الليل لا أنام، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئا، وأنا أصدق به وأحبه، فقال له الحكيم: ولو صمت ثلاثمائة سنة، وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة. قال ولم؟ قال لأنك محجوب بنفسك. قال فلهذا دواء؟ قال نعم. قال قل لي حتى أعمله. قال لا تقبله.. قال: فاذكره لي حتى أعمله. قال: اذهب الساعة إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك، وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة، وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزا، وأجمع الصبيان حولك، وقل كل من صفعنى صفعة أعطيته جوزة، وادخل السوق، وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك فقال الرجل: سبحان اللَّه، تقول لي مثل هذا؟ فقال: قولك سبحان اللَّه شرك، قال: وكيف؟ قال: لأنك عظمت نفسك فسبحتها وما سبحت ربك، فقال: هذا لا أفعله، ولكن دلني على غيره. فقال: ابتدئ بهذا قبل كل شي ء. فقال: لا أطيقه.. قال: قد قلت لك إنك لا تقبل.
لا أريد من هذا ـ أيها المريد الصادق ـ أن أذكر لك أن الذي فعله هذا الحكيم صحيحا، أو شرعيا؛ فهو ليس نبيا، ولا من أئمة الهدى الذين أمرنا باتباع سننهم، ولكن معنى ما فعله صحيح، ذلك أن الوزير مع ممارساته لكثير من الأعمال الصالحة إلا أن ارتقاء نفسه إلى الدرجات العليا يحتاج الكثير من التواضع، والبعد عن كل ما يملأ النفس عجبا وغرورا واستكبارا، ولهذا دله الحكيم على بعض ما يقمع تلك الأمراض التي تحول بينه وبين الترقي في مراتب الصالحين.
ولهذا كان بعض الشيوخ يربي مريديه بحسب أحوالهم مثلما يفعل الطبيب الذي لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد، قتل أكثرهم، (فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم، وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد، وفي حاله. وسنه، ومزاجه، وما تحتمله بنيته من الرياضة، ويبنى على ذلك رياضته.. فإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه، فيأمره أن يمارس ما يمارسه عامة الناس، فإن عزة النفس والرئاسة لا تنكسر إلا بالذل، فيكلفه المواظبة على ذلك مدة، حتى ينكسر كبره وعز نفسه. فإن الكبر من الأمراض المهلكة، وكذلك الرعونة.. وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب، ورأى قلبه مائلا إلى ذلك، فرحا به، ملتفتا إليه استخدمه في تعهد بيت الماء وتنظيفه، وكنس المواضع القذرة، وملازمة المطبخ ومواضع الدخان، حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة. فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها، ويطلبون المرقعات النظيفة، والسجادات الملونة، لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار. فلا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه، أو يعبد صنما. فمهما عبد غير اللّه تعالى. فقد حجب عن اللّه. ومن راعى في ثوبه شيئا سوى كونه حلالا وطاهرا مراعاة يلتفت إليها قلبه، فهو مشغول بنفسه) ([10])
وإياك بعد هذا فاحذر من أن تمارس من العقوبات على نفسك ما لا توافق عليه الشريعة؛ فليس كل ما ذكر في كتب التزكية موافق لها، فأنت تعرف أن الدخن الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسرب إلى كل العلوم، وحاول أن يفسدها.
ومن الأمثلة على ذلك ما يروون أن بعضهم نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع؛ فهذا مخالف للشريعة؛ فترك النوم ليلا فترة طويلة مضر بالصحة، وقد جعل الله تعالى لمن نام عن صلاة الليل الفرصة لقضائه نهارا، كما روي أنه قيل للإمام الصادق: (جُعلت فداك، ربّما فاتتني صلاة اللّيل الشهر والشهرين والثلاثة فأقضيها بالنهار، أيجوز ذلك ؟)، فقال: (قرّة عين لك والله ـ ثلاثاً ـ إنّ الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [الفرقان: 62]، فهو قضاء صلاة النهار باللّيل، وقضاء صلاة اللّيل بالنهار)([11])
وسئل عن رجل عليه من النوافل ما لا يدري كم هو لكثرته ؟.. فقال: (يصلي حتى لا يدري كم صلّى من كثرته، فيكون قد قضى بقدر ما عليه من ذلك)، فقيل له: فإنه لا يقدر على القضاء من شغله، قال: (إن شُغل في معيشةٍ لا بد منها، أو حاجةٍ لأخٍ مؤمن فلا شيء عليه، وإن كان شُغله لجمع الدنيا فتشاغل بها عن الصلاة فعليه القضاء، وإلا لقي الله وهو مستخفٌّ متهاون، مضيّع لسنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)، فقيل له: فإنه لا يقدر على القضاء، فهل يصلح له أن يتصدّق؟.. فسكت مليّا ثم قال: (نعم، فليتصدّق بقدر طوله، وأدنى ذلك مدّ لكل مسكين مكان كل صلاة)، فقيل له: وكم الصلاة التي يجب فيها مدّ لكل مسكين ؟.. قال: (لكل ركعتين من صلاة الليل والنهار)، قلت: لا يقدر، قال: (فمدّ إذاً لكل صلاة الليل، ومدّ لصلاة النهار، والصلاة أفضل)([12])
ومثل ذلك ما روي أن رجلاً من بني إسرائيل، وضع يده على ما لا يحل له؛ فوضعها في النار حتى شلت.. وأن آخر حول رجله لينزل إلى فعل محرم؛ ففكر وقال: ماذا أردت أن أصنع ؟ فلما أراد أن يعيد رجله، قال: هيهات رجل خرجت إلى معصية الله لا ترجع معي، فتركها حتى تقطعت بالمطر والرياح.. وأن آخر نظر إلى ما لا يحل له، فقلع عينيه.. وأن آخر احتاج إلى الغسل، وكان البرد شديدًا، فوجد في نفسه توقفًا عن الغسل، فآلى أن لا يغتسل إلا في مرقعته، وأن لا ينزعها ولا يعصرها..
وغيرها من الحكايات التي تمتلئ بها كتب المواعظ، فكل ذلك لا يجوز
لمخالفته الشريعة.. ولا يمكن لأحد أن يزكي نفسه أو يهذبها أو يرقيها بعيدا عن
أحكامها التي وضعها الله لعباده، وارتضاها لهم لعلمه بما يصلحهم.
([1]) رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس.
([2] ) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (5/ 9)
([3]) انظر: السيرة الحلبية: 2/674.
([4] ) إحياء علوم الدين، 15/45
([5] ) محاسبة النفس للشيخ تقى الدين إبراهيم بن علي العاملى الكفعمي، ص38.
([6]) هذه المحاسبة مقتبس من (الكلمة الحادية والعشرون) من (الكلمات) للنورسي بتصرف.
([7] ) إحياء علوم الدين، 15/ 26.
([8] ) مكارم الاخلاق ص 304.
([9] ) الكافي ج 3 ص 326.
([10] ) إحياء علوم الدين، 8/111، بتصرف.
([11])تفسير القمي ص467.
([12])المحاسن ص315.