الفكر والتأمل

الفكر والتأمل
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الفكر والتأمل، ودورهما في التزكية والترقية، وكيفية الرد على أولئك الذين يحتقرون العقل، ويتوهمون أنه يتناقض مع الدين، لأن الدين مبني على النقل، لا على العقل.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الدين السليم مبني على العقل السليم.. وبقدر سلامة العقل يسلم الدين.. وبقدر انحراف العقل ينحرف الدين.
والأمر في ذلك يشبه الأواني والطعام.. فالأواني إن كانت قذرة مملوءة بالأوساخ والسموم؛ فإن تأثيرها سينتقل إلى الطعام، حتى لو كان عسلا مصفى، ليتحول إلى عسل مملوء بالنجاسة وأصناف السموم.
لذلك كان صفاء العقل وسلامته هو الضامن لسلامة الدين، حتى لا يتحول إلى دين الأمزجة المنحرفة، والأهواء الفاسدة.
ومثل ذلك التزكية والترقية؛ فإنها لا يمكن أن تتم إلا بعد عودة العقل إلى محله الصحيح في التحكم في النفس، بعد أن يزيح عنها حكم القوى المتسلطة عليها، والتي تتحكم فيها الأهواء ومن يساندها من شياطين الإنس والجن.
وحتى تعي هذا ـ أيها المريد الصادق ـ سأذكر لك ما اتفق عليه الحكماء، ومن جميع الملل؛ فقد ذكروا أن الوجود الدنيوي للإنسان يتطلب وسائل خاصة يتمكن بها الإنسان من السكن على هذه الأرض، كما يتطلب رائد الفضاء لباس خاصا يتناسب مع جو القمر، أو أي جو يريد أن يتعامل معه.
واللباس الذي يتناسب مع هذه الأرض، هو هذا الجسد الترابي، وخصائصه هي نفس خصائص المكونات الحية الموجودة على هذه الأرض، فلذلك صار يفتقر إلى ما يحفظه، وما يدفع عنه الهلاك..
وهذا الحفظ والتعهد يتطلب أعضاء تجلب الغذاء وغيره، وأعضاء تدفع عن النفس الهلاك.
وكل هذه الأعضاء التي سُلح بها بدن الإنسان هي الوسائل الأساسية لتحقيق متطلبات الوجود من الغذاء والدفاع، بل ليس هناك جزء من جسد الإنسان لا يقوم بهذا الأمر.
ومع أن أكثر هذه الأعضاء يقوم بهذه الوظائف تلقائيا إلا أن أصل الغذاء والدفاع رُكب في الجهاز الإرادي للإنسان فتنة وابتلاء.
فرُكب في الإنسان جهاز الشهوة الدافع إلى الغذاء والحفاظ على النسل.. كما رُكب فيه جهاز الغضب الدافع إلى الحمية والحفاظ على الوجود.. وهذان الجهازان ينتظم تحتهما كل ما تتطلبه النفس من غرائز الوجود، وهما المستعملان لأعضاء البدن في تحقيق متطلبات هذه الغرائز.
لقد قال بعض الحكماء يشرح ضرورة هذه الغرائز:(فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن، وهو الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات؛ فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء. وظاهر، وهو اليد والرجل اللتين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها)([1])
والأمر إلى هذا المحل تتفق فيه النفس البشرية مع النفس الحيوانية، وليس هناك أي خصوصية للإنسان في هذه الجوانب، وليس هناك أي مجال للمدح أو الذم لما يتعلق بمتطلبات هذه الغرائز.
وإنما يبدأ التكليف، وينشأ المدح والذم من غريزة أخرى لها علاقة بهذه الغرائز من جهة، ولها علاقة بسر وجود الإنسان من جهة أخرى، فهي بين بين، وعلى أساس هذه الغريزة تتحدد علاقة الإنسان بنفسه.
وهذه الغريزة هي غريزة الإدراك المزودة بأدوات التعرف على العالم الذي نزلت روح الإنسان إليه، ذلك أن (المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه، فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن، وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق، وظاهر، وهو العين والأذن والأنف وغيرها)
وزود بالإضافة إلى هذه الحواس بوسائل التعامل مع المعلومات والمدركات، ويمكن إدراكها بسهوله (فإنّ الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ، ثم يتفكر فيما حفظه فيركب بعض ذلك إلى البعض، ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بـين المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ)
فهذه هي الغرائز التي يحفظ بها الإنسان وجوده على هذه الأرض ـ والتي ذكرها الحكماء بناء على دراستهم التحليلية للإنسان ـ وربما استفادوا في ذلك من غيرهم.. ولا حرج عليهم في ذلك.
والفرق بين الرؤية الإيمانية الأخلاقية والرؤية المادية الانحلالية لهذه الغرائز، هي أن الرؤية الثانية تعتبرها أصلا وهدفا وغاية، بينما الرؤية الإيمانية تراها مجرد وسائل لحفظ الوجود الإنساني على الأرض، أما الغاية فأكبر بكثير.
وقد ضرب بعض الحكماء مثالا عن حقيقة الإنسان ـ التي هي روحه وسر وجوده ـ وعلاقته ببدنه بملك في مدينته ومملكته، فالبدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها، والجوارح وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة كالمشير الناصح والوزير العاقل، والشهوة كالعبد يجلب الطعام إلى المدينة، والغضب والحمية كالحرس والشرطة.
أما العبد الجالب للطعام، والذي يمثل الشهوة، فهو كذاب ماكر مخادع، يتمثل بصورة الناصح، وهو في علاقة عداء تام مع الوزير الناصح حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة.
فإذا كان الوالي في مملكته مستغنياً في تدبـيراته بوزيره معرضاً عن إشارة هذا العبد الخبـيث، أدبه صاحب شرطته، وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبـيث وأتباعه وأنصاره، حتى يصير العبد مسوساً لا سائساً، ومأموراً مدبَراً لا أميراً مدبِراً.
وفي هذه الحالة يستقيم أمر البلد، وينتظم العدل بسببه.
وهكذا النفس متى استعانت بالعقل، وأدبت بحمية الغضب، وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبـيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها.
ولذلك، فإن الذين يدعون العقلاينة ويقولون للناس: (إن هذه هي غرائزكم.. فلا تكبتوها..) هم في الحقيقة يرمونهم كل مرة في هاوية من البهيمية يصعب عليهم الخروج منها، لأن النفس إذا تعودت شيئا أدمنت عليه.. فإذا أدمنت بان لها أنه الأصل.. ثم يأتي هؤلاء المحللون ليضموه إلى غرائز الإنسان.
ولذلك نرى المدمنين على المخدرات كيف يشق عليهم تركها.. ولو خيروا بين تلبية غريزة الطعام وغريزة الأفيون لاختاروا الأفيون.. فهل نترك لهؤلاء المحللين المجال ليفرضوا على الإنسان صاحب الفطرة الأصلية ما يقع فيه ضحايا الغرائز الشاذة؟
وهذا ما يبين دور العقل السليم في التزكية، ذلك أنه يجعل صاحبه صاحب إرادة.. لا يستسلم لغرائزه.. وإنما يهذبها لتستقيم مع الفطرة السليمة..
ولذلك اعتبر القرآن الكريم الغافلين عن أنفسهم ـ الذين توحد الأنا فيهم بالنفس، فلم يدركوا من وظائف وجودهم غير إرضاء الشهوات والغرائز ـ ناسين لأنفسهم وحقيقتهم، قال تعالى:﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَO (الحشر:19)
والفاسق هو الخارج عن حقيقته المستغرق في شهواته الغافل عن وظيفة وجوده، والآية تنبه إلى أن سر فسوقه هو نسيانه وغفلته عن الله، وفي ذلك إشارة إلى أن معرفة الله هي الأساس والمنطلق الذي ينطلق منه من يريد أن يترقى عن حجاب النفس.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أنه لا يمكن لأحد أن يزكي نفسه، وهو يعزل عقله.. ذلك أنه لا سير إلى الله، ولا إلى مقامات السالكين إليه من دون العقل.. بل إن السير في الحقيقة ليس سوى تعميق للعقل، وتوفير للمزيد من القابليات له.
ولهذا اعتبر الله تعالى التفكير ـ الذي هو الآلية التي يستخدمها العقل السليم ـ وظيفة من وظائف الصالحين، لا تختلف عن الذكر وسائر العبادات، فقد قال يمدح العارفين به من أولي الألباب، ويصف موقفهم من الكون: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران:191)
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (على العاقل أن يكون له ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه عزّ وجلّ، فيها وساعة يحاسب فيها ّ نفسه، وساعة يتفكر فيما صنع الله عز وجل إليه، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال)([2])
وقال: (فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ولا يُنال منزلة التفكّر إلا مَن قد خصه الله بنور المعرفة والتوحيد)([3])
وقال: (أغفل الناس من لم يتعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال)([4])
وقال: (أعطوا أعينكم حظّها من العبادة، قالوا: وما حظّها من العبادة يا رسول الله؟ قال: النظر في المصحف والتفكّر فيه والاعتبار عند عجائبه)([5]).
وقال الإمام علي: (نبّه بالتفكر قلبك، وجافِ عن الليل جنبك، واتق الله ربك)([6])
وقال: (ما أكثر العِبر، وأقلّ الاعتبار)([7])
وقال الإمام الصادق: (أفضل العبادة، إدمان التفكر في الله، وفي قدرته)([8])
وقال: (كان أكثر عبادة أبي ذر ـ رحمة الله عليه ـ التفكر والاعتبار)([9])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الفكر ـ كما يعرفه الحكماء ـ هو (إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة)
وكمثال على ذلك من مال إلى الدنيا وآثرها، وأراد أن يعرف أنّ الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة، ويقنع نفسه بذلك، فإن له طريقان([10]):
أحدهما: أن يسمع من غيره أن الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا، فيقلده ويصدّقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتماداً على مجّرد قوله، وهذا ما يسمى تقليداً، ولا يسمى معرفة.
الثاني: أن يعرف أنّ الأبقى أولى بالإيثار، ثم يعرف أنّ الآخرة أبقى. فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار، ولا يمكن تحقق المعرفة بأنّ الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين.
فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يسمى تفكراً واعتباراً وتذكراً ونظراً وتأملاً وتدبراً)([11])
وقد ذكر الحكماء وجه التغاير بين هذه المصطلحات، فذكروا أن (الاعتبار: ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة ثالثة، وإن لم يقع العبور ولم يمكن إلا الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم: التذكر، لا اسم: الاعتبار.. وأما النظر والتفكر؛ فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة، فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظراً، فكل متفكر فهو متذكر، وليس كل متذكر متفكراً.. وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحي عن القلب.. وفائدة التفكر: تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة. فهذا هو الفرق بـين التذكر والتفكر)([12])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأذكره لك من كيفية استعمال هذه الوسيلة العظيمة في التزكية والترقية.
الفكر والتزكية:
أما دور الفكر في التزكية ـ أيها المريد الصادق ـ فيتضح لك من خلال المراحل التي تتحول فيها الفكرة إلى حالة نفسية، ثم إلى سلوك عملي، وقد ذكر الحكماء لذلك خمس مراحل، هي:
1. التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب.
2. التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما.
3. حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها.
4. تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة.
5. خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتجدّد له من الحال.
وذلك يشبه من يضرب الحجر على الحديد؛ فيخرج منه نار يستضي ء بها الموضع، فتصير العين مبصرة بعد أن لم تكن مبصرة، وتنتهض الأعضاء للعمل، فكذلك زناد نور المعرفة هو الفكر، فيجمع بين المعرفتين كما يجمع بين الحجر والحديد، ويؤلف بينهما تأليفا مخصوصا كما يضرب الحجر على الحديد ضربا مخصوصا، فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحديد، ويتغير القلب بسبب هذا النور حتى يميل إلى ما لم يكن يميل إليه. كما يتغير البصر بنور النار فيرى ما لم يكن يراه، ثم تنتهض الأعضاء للعمل بمقتضى حال القلب، كما ينتهض العاجز عن العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره)([13])
وقد ذكر بعض الحكماء كيفية استخدام الفكر في التزكية؛ فذكر أن على السالك ـ ليجتنب المثالب التي تسيطر عليه، وتحول نفسه إلى نفس أمارة ـ التفكر في كل ما يفعله ثلاثة أنواع من التفكير([14]):
الأول: التفكر في أنه مكروه عند اللّه أم لا؛ فرب شي ء لا يظهر كونه مكروها، بل يدرك بدقيق النظر.
الثاني: التفكر في أنه إن كان مكروها في طريق الاحتراز عنه، وإن كان محبوبا في كيفية الدوام عليه.
الثالث: أن هذا المكروه هل هو متصف به في الحال، فيتركه، أو هو متعرض له في الاستقبال فيحترز عنه، أو قارفه فيما مضى من الأحوال فيحتاج إلى تداركه.
وبما أن الأفعال التي يمارسها الإنسان أو يتصف بها أربعة أنواع: الطاعات، والمعاصي، والصفات المهلكات، والصفات المنجيات؛ فإن على السالك أن يتفكر فيها جميعا.
ويبدأ ذلك بالمعاصي؛ فيفتش صبيحة كل يوم جميع أعضائه تفصيلا، ثم بدنه على الجملة، هل هو في الحال ملابس لمعصية بها فيتركها، أو لابسها بالأمس فيتداركها بالترك والندم، أو هو متعرض لها في نهاره فيستعد للاحتراز والتباعد عنها فينظر في اللسان، ويقول: إنه متعرض للغيبة، والكذب، وتزكية النفس، والاستهزاء بالغير، والمماراة، والممازحة، والخوض فيما لا يعنى، وغيرها من المكاره.. فيقرر في نفسه أنها مكروهة عند اللّه تعالى، ويتفكر في النصوص المقدسة الدالة على شدة العذاب فيها، ثم يتفكر في أحواله أنه كيف يتعرض لها من حيث لا يشعر، ثم يتفكر أنه كيف يحترز منه.
وهكذا يتعامل مع سائر الجوارح، والآفات المرتبطة بها، ويجتهد ليزكي نفسه منها عبر التفكير في عواقبها، حتى يطهر جوارحه جميعا من كل تلبس بالمعصية.
وهكذا يتعامل مع الطاعات، حيث ينظر أوّلا في الفرائض المكتوبة عليه أنه كيف يؤديها، وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير، أو كيف يجبر نقصانها بكثرة النوافل.
ثم يرجع إلى أعضائه عضوا عضوا فيتفكر في الأفعال التي تتعلق بها مما يحبه اللّه تعالى، فيقول مثلا: إن العين خلقت للنظر في ملكوت السموات والأرض عبرة، ولتستعمل في طاعة اللّه تعالى وتنظر في كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا قادر على أن أشغل العين بذلك، فلم لا أفعله؟
و كذلك يقول في سمعه: إنى قادر على استماع كلام ملهوف، أو استماع حكمة وعلم، أو استماع قراءة وذكر، فما لي أعطّله وقد أنعم اللّه عليّ به، وأودعنيه لأشكره، فما لي أكفر نعمة اللّه فيه بتضييعه أو تعطيله؟
و كذلك يتفكر في اللسان ويقول: إنى قادر على أن أتقرب إلى اللّه تعالى بالتعليم، والوعظ والتودد إلى قلوب أهل الصلاح، وبالسؤال عن أحوال الفقراء، وإدخال السرور على قلب
وهكذا يتعامل مع مثالب النفس الأمارة، وهي استيلاء الشهوة، والغضب، والبخل، والكبر، والعجب، والرياء والحسد، وسوء الظن، والغفلة، والغرور، وغيرها؛ فيتفقد من قلبه هذه الصفات، فإن ظن أن قلبه منزه عنها فيتفكر في كيفية امتحانه، والاستشهاد بالعلامات عليه، فإن النفس أبدا تعد بالخير من نفسها وتخلف. فإذا ادّعت التواضع والبراءة من الكبر فينبغي أن تجرب بحمل حزمة حطب في السوق، كما كان الأولون يجربون به أنفسهم. وإذا ادّعت الحلم تعرض لغضب يناله من غيره، ثم يجربها في كظم الغيط.
فإذا دلت العلامة على وجودها فكر في الأسباب التي تقبح تلك الصفات عنده، وتبين أن منشأها من الجهل والغفلة، كما لو رأى في نفسه عجبا بالعمل، فيتفكر ويقول: إنما عملي ببدني وجارحتى، وبقدرتي وإرادتى، وكل ذلك ليس منى ولا إليّ، وإنما هو من خلق اللّه وفضله عليّ، فهو الذي خلقني، وخلق جارحتى، وخلق قدرتى وإرادتى، وهو الذي حرك أعضائى بقدرته. وكذلك قدرتى وإرادتى، فكيف أعجب بعملي أو بنفسي، ولا أقوم لنفسي بنفسي فإذا أحس في نفسه بالكبر، قرر على نفسه ما فيه من الحماقة ويقول لها: لم ترين نفسك أكبر؟ والكبير من هو عند اللّه كبير.
وهكذا يتعامل مع منازل النفس المطمئنة ومكارمها؛ فليتفكر كل يوم في قلبه ما الذي يعوزه من هذه الصفات التي هي المقربة إلى اللّه تعالى، فإذا افتقر إلى شي ء منها فليعلم أنها أحوال لا يثمرها إلا علوم، وأن العلوم لا يثمرها إلا أفكار فإذا أراد أن يكتسب لنفسه أحوال التوبة والندم، فليفتش ذنوبه أولا، وليتفكر فيها، وليجمعها على نفسه، وليعظمها في قلبه، ثم لينظر في الوعيد والتشديد الذي ورد في الشرع فيها، وليتحقق عند نفسه أنه متعرض لمقت اللّه تعالى حتى ينبعث له حال الندم وإذا أراد أن يستثير من قلبه حال الشكر فلينظر في إحسان اللّه إليه، وأياديه عليه، وفي إرساله جميل ستره عليه على ما شرحنا بعضه في كتاب الشكر، فليطالع ذلك، وإذا أراد حال المحبة والشوق فليتفكر في جلال اللّه وجماله، وعظمته، وكبريائه، وذلك بالنظر في عجائب حكمته وبدائع صنعه..
وهكذا يمكنه عن طريق الفكر أن يملأ نفسه بالمكارم، ويجنبها كل ما تتلبس به من المثالب.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لهذه الوصية التي قالها إمام من أئمة الهدى، وهو الإمام موسى الكاظم، يخاطب فيها بعض تلاميذه، وهو هشام بن الحكم([15])، يبين له فيها دور العقل في التزكية، فمما أوصاه قوله له ([16]): (يا هشام.. لكل شيء دليل، ودليل العاقل التفكّر، ودليل التفكّر الصمت.. ولكلِّ شيء مطيّة، ومطية العاقل التواضع، وكفى بك جهلاً أن تركب ما نُهيت عنه.
يا هشام.. لو كان في يدك جوزة وقال الناس: في يدك لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزة، ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس: إنّها جوزة، ما ضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤة….
يا هشام.. ما من عبد إلا وملكٌ آخذ بناصيته، فلا يتواضع إلا رفعه الله ولا يتعاظم إلا وضعه الله.
يا هشام.. من سلط ثلاثا على ثلاث فكأنما أعان هواه على هدم عقله: من أظلم نور فكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم عقله، ومن هدم عقله أفسد عليه دينه ودنياه.
يا هشام..كيف يزكو عند الله عملك، وأنت قد شغلت عقلك عن أمر ربك، وأطعت هواك على غلبة عقلك.
يا هشام.. الصبر على الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله تبارك وتعالى اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب فيما عند ربه، وكان الله آنسه في الوحشة وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزه في غير عشيرة.
يا هشام.. نصب الخلق لطاعة الله ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة العالم بالعقل.
يا هشام.. قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود.
يا هشام.. إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم.
يا هشام.. إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يغنيك.
يا هشام.. إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض.
يا هشام.. إن العقلاء زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة ومطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته.
يا هشام.. من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرع إلى الله في مسألته بأن يكمل عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبدا.
يا هشام.. كان الإمام علي يقول: ما من شيء عبد الله به أفضل من العقل، وما تم عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى:الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، نصيبه من الدنيا القوت، ولا يشبع من العلم دهره، الذل أحب إليه مع الله من العز مع غيره، والتواضع أحب إليه من الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلهم خيرا منه وأنه شرهم في نفسه، وهو تمام الأمر….
يا هشام.. لا تمنحوا الجهال الحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.
يا هشام.. لا دين لمن لا مروة له، ولا مروة لمن لا عقل له، وإن أعظم الناس قدرا، الذي لا يرى الدنيا لنفسه خطرا، أما إن أبدانكم ليس لها ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها بغيرها.
يا هشام.. إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يتقدم على ما يخاف العجز عنه، وكان الإمام علي يوصي أصحابه يقول: (أوصيكم بالخشية من الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والاكتساب في الفقر والغنى، وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمن ظلمكم، وتعطوا على من حرمكم، وليكن نظركم عبرا، وصمتكم فكرا، وقولكم ذكرا، وطبيعتكم السخاء، فإنه لا يدخل الجنة بخيل، ولا يدخل النار سخي)
يا هشام.. رحم الله من استحيا من الله حق الحياء، فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعلم أن الجنة محفوفة بالمكاره والنار محفوفة بالشهوات.
يا هشام.. من كف نفسه من أعراض الناس أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن كف غضبه عن الناس كف الله عنه غضبه يوم القيامة.
يا هشام.. إن العاقل لا يكذب وإن كان فيه هواه….
يا هشام..أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله بعد المعرفة به: الصلاة، وبر الوالدين، وترك الحسد والعجب والفخر….
يا هشام.. إن كل الناس يبصر النجوم، ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة، ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.
يا هشام.. إن المسيح عليه السلام قال للحواريين:يا عبيد السوء.. يهولكم طول النخلة، وتذكرون شوكها ومؤونة مراقيها، وتنسون طيب ثمرها ومرافقها، كذلك تذكرون مؤونة عمل الآخرة، فيطول عليكم أمده، وتنسون ما تفضون إليه من نعيمها ونورها وثمرها.
يا عبيد السوء.. نقوا القمح وطيبوه وأدقوا طحنه تجدوا طعمه ويهنئكم أكله، كذلك فأخلصوا الإيمان وأكملوه تجدوا حلاوته وينفعكم غبه.
بحق أقول لكم: لو وجدتم سراجا يتوقد بالقطران في ليلة مظلمة، لاستضأتم به ولم يمنعكم منه ريح نتنه، كذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمة ممن وجدتموها معه، ولا يمنعكم منه سوء رغبته فيها.
يا عبيد الدنيا.. بحق أقول لكم: لا تدركون شرف الآخرة إلا بترك ما تحبون، فلا تنظروا بالتوبة غدا، فإن دون غد يوما وليلة، وقضاء الله فيهما يغدو ويروح.
بحق أقول لكم: إن من ليس عليه دين من الناس، أروح وأقل هما ممن عليه الدين، وإن أحسن القضاء، وكذلك من لم يعمل الخطيئة أروح هما ممن عمل الخطيئة، وإن أخلص التوبة وأناب، وإن صغار الذنوب ومحقراتها من مكائد إبليس، يحقرها لكم ويصغرها في أعينكم فتجتمع وتكثر فتحيط بكم.
بحق أقول لكم: إن الناس في الحكمة رجلان: فرجل أتقنها بقوله وصدقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله وضيعها بسوء فعله، فشتان بينهما، فطوبى للعلماء بالفعل.. وويل للعلماء بالقول..
ياعبيد السوء.. اتخذوا مساجد ربكم سجونا لأجسادكم وجباهكم، واجعلوا قلوبكم بيوتا للتقوى، ولا تجعلوا قلوبكم مأوى للشهوات، إن أجزعكم عند البلاء لأشدكم حبا للدنيا، وإن أصبركم على البلاء لأزهدكم في الدنيا.
يا عبيد السوء.. لا تكونوا شبيها بالحداء الخاطفة، ولا بالثعالب الخادعة، ولا بالذئاب الغادرة، ولا بالأسد العاتية، كما تفعل بالفراس، كذلك تفعلون بالناس، فريقا تخطفون، وفريقا تخدعون، وفريقا تغدرون بهم.
بحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحا وباطنه فاسدا، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة، لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم، ويبقى الغل في صدوركم.
يا عبيد الدنيا.. إنما مثلكم مثل السراج، يضيء للناس ويحرق نفسه.
يا بني إسرائيل.. زاحموا العلماء في مجالسهم ولو جثوا على الركب، فإن الله يحيي القلوب الميتة بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر….
يا هشام.. تعلم من العلم ما جهلت، وعلم الجاهل مما علمت، وعظم العالم لعلمه، ودع منازعته، وصغر الجاهل لجهله ولا تطرده، ولكن قربه وعلمه….
يا هشام.. قال الله جل وعز: وعزتي وجلالي وعظمتي وقدرتي وبهائي وعلوي في مكاني.. لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا جعلت الغنى في نفسه، وهمه في آخرته، وكففت عليه ضيعته، وضمنت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر.
يا هشام.. الغضب مفتاح الشر، وأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وإن خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحدا منهم إلا من كانت يدك عليه العليا فافعل….
إلى آخر وصيته العظيمة الممتلئة بالحكم؛ فاحرص على حفظها، والعمل بما فيها؛ فقد صدرت من تلميذ من تلاميذ النبوة، ووارث من ورثتها.. ولا يمكنك أن تسلك طريق الهداية، وأنت تخالف من جعلهم الله تعالى معالم وأنوارا لها.
الفكر والترقية:
أما دور الفكر في الترقية ـ أيها المريد الصادق ـ فقد سبق لي الحديث عنه في رسائل كثيرة لك.. ذلك أن كل أحاديثي عن الذكر وقراءة القرآن الكريم والصلاة الخاشعة وغيرها.. لا يمكن أن تتم بعيدا عن العقل والتدبر والتفكر والتذكر.
ذلك أن تلك الألفاظ والأفعال التي تقوم بها أثناء أدائك لتلك العبادات ليست سوى أواني لا تملؤها إلا المعاني التي يدل عليها التفكير فيما تقوله أو تفعله.
وقد شرح الإمام الصادق كيفية الفكر، ودوره في الترقية، وذلك في جوابه لمن سأله عن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة)، وكيفية التفكر، فقال: (يمر بالخربة أو بالدار، فيقول: أين ساكنوكِ ؟.. وأين بانوكِ ؟!..ما لك لا تتكلمين؟!.)([17])
وقال: (اعتبروا بما مضى من الدنيا، هل بقّى على أحد ؟.. أو هل فيها باقٍ من الشريف، والوضيع، والغني، والفقير، والولي، والعدو ؟.. فكذلك ما لم يأت منها بما مضى أشبه من الماء بالماء، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالموت واعظا، وبالعقل دليلا، وبالتقوى زادا، وبالعبادة شغلا، وبالله مؤنساً، وبالقرآن بياناً)([18])
وقيل للإمام الكاظم: (عظني وأوجز، فكتب إليه: (ما من شيء تراه عينك إلا وفيه موعظة)([19])
وقال الإمام الرضا: (ليس العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنما العبادة كثرة التفكر في أمر الله)([20])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الفكر المرتبط بالترقية، يشمل كل شيء؛ فكل ما في الكون دليل على الله، وقد قال بعض الحكماء يذكر ذلك: (اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعل الله وخلقه. وكل ذرة من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف ففيها عجائب وغرائب تظهر بها حكمة الله وقدرته، وجلاله وعظمته. وإحصاء ذلك غير ممكن، لأنه لو كان البحر مدادا لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره)
ثم ذكر مجامع ذلك، فقال: (الموجودات المخلوقة منقسمة إلى ما لا يعرف أصلها فلا يمكننا التفكر فيها، وكم من الموجودات التي لا نعلمها، كما قال الله تعالى: { وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، وقال: { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } [يس: 36]، وإلى ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصيلها، فيمكننا أن نتفكر في تفصيلها.. وهي منقسمة إلى ما أدركناه بحس البصر، وإلى ما لا ندركه بالبصر، أما الذي لا ندركه بالبصر فكالملائكة، والجن، والشياطين، والعرش، والكرسي، وغير ذلك، ومجال الفكر في هذه الأشياء مما يضيق ويغمض، فلنعدل إلى الأقرب إلى الأفهام وهي المدركات بحس البصر، وذلك هو السموات السبع، والأرض، وما بينهما. فالسماوات مشاهدة بكواكبها، وشمسها، وقمرها، وحركتها، ودورانها في طلوعها وغروبها.. والأرض مشاهدة بما فيها من جبالها، ومعادنها، وأنهارها، وبحارها، وحيوانها، ونباتها.. وما بين السماء والأرض وهو الجو مدرك بغيومها، وأمطارها، وثلوجها، ورعدها، وبرقها، صواعقها، وشهبها، وعواصف رياحها. فهذه هي الأجناس المشاهدة من السموات والأرض وما بينهما)
ثم ذكر وجه التفكير فيها، والترقي من خلاله؛ فقال: (وجميع ذلك مجال الفكر فلا تتحرك ذرة في السموات والأرض من جماد، ولا نبات، ولا حيوان، ولا فلك، ولا كوكب، إلا واللّه تعالى هو محركها، وفي حركتها حكمة، أو حكمتان، أو عشر، أو ألف حكمة، كل ذلك شاهد للَّه تعالى بالوحدانية، ودال على جلاله وكبريائه)
وهذا هو التفكير السليم ـ أيها المريد الصادق ـ وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم، بل دعا إليه، واعتبر أنه الوسيلة التي يستخدمها أولو الألباب للترقي في معارج العرفان، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 164)
وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (سبأ: 46) وقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} (الروم: 8)، وقال: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101)، وقال: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 5 – 7)، وقال: {أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} (الغاشية: 17 – 20)، وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37)، وقال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الألْبَابِ} (آل عمران: 7)
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله)([21])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أبصر قوما، فقال: (ما لكم؟) قالوا: نتفكر في الخالق. فقال لهم: (تفكروا في خلقه ولا تفكروا في الخالق، لا تقدرون قدره) ([22])
هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد
الصادق ـ فاسع لأن تعمل بما فيها من وصايا وحكم، واعلم أن زمام دينك بيد عقلك؛
فإياك أن تسلمه لأحد من الناس.. بل استعمله في كل شيء؛ فلا يمكن أن تهتدي إلى
الله، ولا أن تسير إليه، وأنت تعزل عقلك وتتجاهله.
([1]) الإحياء:3/5.
([2]) معاني الأخبار ص334، الخصال 2/104 .
([3])مصباح الشريعة ص20 .
([4])معاني الأخبار ص195 .
([5]) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر، و من طريقه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب العظمة كما في المغني.
([6])الكافي 2/54 .
([7])النهج 2/217 .
([8])الكافي 2/55 .
([9])الخصال 1/23 .
([10]) إحياء علوم الدين: 4/426.
([11]) إحياء علوم الدين: 4/426.
([12]) إحياء علوم الدين: 4/426.
([13]) إحياء علوم الدين: 4/427.
([14] ) إحياء علوم الدين، 15/ 67.
([15] ) قال عنه العلامة الحلي بعد ذكر مولده: (روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن، وكان ثقةً في الروايات، حسنَ التحقيقِ بهذا الأمرِ، ورويت مدائِحُ له جليلةٌ عن الإمامين الصادق والكاظم، وكان ممن فتقَ الكلامَ في الإمامَةِ، وهَذَّبَ المذهَبَ بالنظرِ، وكان حاذقًا بصناعَةِ الكلامِ، حاضِرَ الجوابِ) [ خلاصة الأقوال في معرفة الرجال، ص 288]
([16]) بحار الأنوار: 75/316 ، والتحف ص383 .
([17])الكافي 2/54 .
([18])مصباح الشريعة ص20 .
([19])أمالي الصدوق ص305 .
([20]) بحار الأنوار: 75/335 ، والتحف ص442 .
([21]) ابن أبي حاتم في تفسيره (12111)، والطبراني في المعجم الأوسط (6319)، وأبو الشيخ في العظمة (1/210).
([22] ) قوام السنة في الترغيب والترهيب (670)