المشارطة الحازمة

المشارطة الحازمة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المشارطة التي اتفق علماء التزكية على اعتبارها مرابطة من مرابطات النفس اللوامة التي نص عليها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، وكيفيتها، واتفاق ما أوردوه عنها مع النصوص المقدسة.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الحكماء ـ بحسب استلهامهم من النصوص المقدسة، وتجاربهم في السلوك العملي ـ ذكروا أنواعا من المرابطات للنفس اللوامة، تعينها على السير التخلقي والتحققي، وهي تبدأ بالمشارطة، التي يشرط فيها السالك على نفسه الشروط التي تعينه على السير؛ فيوظف عليها الوظائف المختلفة المرتبطة بالتزكية والترقية، ويلزمها على ذلك بأنواع المعاهدات الجازمة اللازمة.

ثم يقوم بعد ذلك بمراقبة سلوكها، ليضيف إليها كل حين مشارطات جديدة، ترتبط بحاجاتها المختلفة، مع مراقبة مدى التزامها بتلك المشارطات.

ثم يحاسبها على مدى تنفيذها لما عاهدت الله تعالى عليه، ومن خلال المحاسبة قد يعفو عنها، وقد يضيف لها من التكاليف الجديدة ما يهذبها ويربيها.

فإذا وجد أثناء محاسبته لها تقصيرا فيما اشترطه عليها عاقبها بعقوبة تتناسب مع ما اقترفته، فإن أكل لقمة شبهة عاقبها بالجوع، وهكذا كل طرف من أطراف بدنه يمنعه من شهوته حتى يتهذب، ويبتعد عن الحرام.

وهكذا يظل يجاهدها في ذات الله، وبحسب الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن تستقيم له، وتصبح طوع يديه، من غير أن يكف عن متابعتها ومراقبتها خشية أن يأتيه الشيطان من أي جهة.

أما الدليل على ذلك من النصوص المقدسة؛ فيشير إليها ما ورد من الأحاديث في الدعوة إلى الواجبات المرتبطة بكل يوم، وكأنها تدعو المؤمنين إلى شرطها على أنفسهم، وإلزامهم بها، كما يلزمونها بالصلوات اليومية.

ومن تلك الأحاديث قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (على كلّ نفس في كلّ يوم طلعت فيه الشّمس صدقة منه على نفسه)، قيل: يا رسول الله، من أين نتصدّق وليس لنا أموال؟ فقال: (إنّ من أبواب الصّدقة التكبير، وسبحان الله والحمد لله واستغفر الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتعزل الشّوكة عن طريق النّاس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتسمع الأصمّ والأبكم حتّى يفقه، وتدلّ المستدلّ على حاجته قد علمت مكانها، وتسعى بشدّة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدّة ذراعيك مع الضّعيف. كلّ ذلك من أبواب الصّدقة منك على نفسك) ([1])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (كلّ سلامى من النّاس عليه صدقة، كلّ يوم تطلع فيه الشّمس.. تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرّجل في دابّته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطّيّبة صدقة، وكلّ خطوة تمشيها إلى الصّلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطّريق صدقة) ([2])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (على كلّ مسلم صدقة)، فقالوا: يا نبيّ الله فمن لم يجد؟. قال: (يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدّق)، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: (يعين ذا الحاجة الملهوف)، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: (فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشّرّ فإنّها له صدقة) ([3])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (في الإنسان ستون وثلاثمائة مفصل، فعليه أن يتصدق عن كل مفصل منها صدقة)، قالوا: ومن يطيق ذلك؟ قال: (النخاعة تراها في المسجد فتدفنها، والشيء تنحيه عن الطريق فإن لم تقدر فركعتا الضحى تجزى عنك) ([4])

وغيرها من الأحاديث التي تبين ما على المؤمن فعله كل يوم، ليزكي نفسه، ويرقيها، ويسير بها نحو الكمال المتاح لها.

بالإضافة إلى ذلك ما ورد من النصوص المقدسة التي تشبه عمل الخلق في الدنيا بالتجارة مع الله تعالى، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الصف: 10، 11]

ومن هذه الآية راح الصالحون يشبهون المرابطات المرتبطة بالتزكية بما يقوم به التجار، كما عبر عن ذلك بعضهم، فقال: (اعلم أن مطلب المتعاملين في التجارات، المشتركين في البضائع عند المحاسبة سلامة الربح، وكما أن التاجر يستعين بشريكه؛ فيسلم إليه المال حتى يتجر ثم يحاسبه، فكذلك العقل هو التاجر في طريق الآخرة، وإنما مطلبه وربحه تزكية النفس، لأن بذلك فلاحها.. وإنما فلاحها بالأعمال الصالحة. والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة، إذ يستعملها ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله) ([5])

وبناء على هذا التشبيه راح يذكر المرابطات المرتبطة بالنفس وتزكيتها، فقال: (كما أن الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح، فيحتاج إلى أن يشارطه أولا، ويراقبه ثانيا، ويحاسبه ثالثا، ويعاقبه أو يعاتبه رابعا، فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولا، فيوظف عليها الوظائف، ويشرط عليها الشروط، ويرشدها إلى طرق الفلاح ويجزم عليها الأمر بسلوك تلك الطرق، ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة، فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال، كالعبد الخائن إذا خلاله الجوّ وانفرد بالمال ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها، فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى، وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء، فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيرا من تدقيقه في أرباح الدنيا) ([6])

وبناء على هذا شرح كيفية إجراء المشارطة، فذكر أن المشارطة هي أن (يشارط النفس ويأخذ منها العهد والميثاق في كل يوم وليلة مرة ألا يرتكب المعاصي، ولا يصدر منها شيء يوجب سخط الله. ولا يقصر في شيء من الطاعات الواجبة، ولا يترك ما تيسر له من الخيرات والنوافل. والأولى أن يكون ذلك بعد الفراغ عن فريضة الصبح وتعقيباتها، فيخاطب النفس ويقول لها: يا نفس! مالى بضاعة سوى. العمر، ومهما فني فنى رأس المال. ووقع اليأس عن التجارة، و طلب الربح، وهذا اليوم الجديد، وقد أمهلني الله فيه بعظيم لطفه، ولو توفانى لكنت أتمنى أن يرجعنى إلى الدنيا يوما واحدا لأعمل صالحا، فاحسبي أنك توفيت ثم رددت، فإياك أن تضيعي هذا اليوم، فان كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها، يمكن أن يشترى بها كنزا من الكنوز لا يتناهى نعيمها أبد الآباد) ([7])

ثم يورد علها من المواعظ ما يلينها له، كأن يذكر لها ما ورد في الخبر من (أن كل عبد خلقت له بإزاء كل يوم وليلة من عمره أربع وعشرون خزانة مصفوفة فإذا مات تفتح له هذه الخزائن، ويشاهد كل واحد منها ويدخلها، فإذا فتحت له خزانة خلقت بإزاء الساعة التي أطاع الله فيها، يراها مملوة نورا من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيناله من الفرح والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسائل عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار، وإذا فتحت له خزانة خلقت بإزاء الساعة التي عصى الله فيها، يراها سوداء مظلمة يفوح نتنها ويتغشى ظلامها، فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لينغص عليهم نعيمها، فإذا فتحت له خزانة بإزاء الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشي ء من مباحات الدنيا، لم يشاهد فيها ما يسره ولا ما يسوؤه، وهكذا يعرض عليه بعدد ساعات عمره الخزائن، وعند ذلك يتحسر العبد على اهماله وتقصيره، ويناله من الغبن ما لا يمكن وصفه)

ثم يخاطبها بعد ذلك قائلا: (اجتهدى اليوم في أن تعمرى خزائنك، ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك ولا تركني إلى الكسل والبطالة فيفوتك من درجات العليين ما يدركه غيرك فتدركك الحسرة والغبن يوم القيامة إن دخلت الجنة، إذ ألم الغبن والحسرة وانحطاط الدرجة مع وجود ما فوقها من الدرجات الغير المتناهية التي نال اليها أبناء نوعك مما لا يطاق)

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المشارطة تكون في كلا الركنين من أركان السلوك التحققي والتخلقي.. أو التزكية والترقية.. كما اتفق على ذلك كل الحكماء، وبناء على طلبك سأشرح لك مجامع ما ذكروه.

المشارطة والتزكية:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن المشارطة تختلف باختلاف السالكين، والمراتب التي بلغوها، والآفات التي يتعرضون لها.. ولذلك يحتاج من يريد التزكية إلى تشخيص حال نفسه، والمثالب التي يمكن أن تكون متصفة بها، ليعمل على مجاهدتها، ويضع لها البرنامج اليومي الخاص بذلك.

وبناء على كون المثالب الباطنية تبرز عبر الجوارح الظاهرة؛ فإن على المريد الصادق أن يتفقد هذه الجوارح يوميا، ويلزمها بما تقتضيه الأخلاق الطيبة، إلى أن يتمكن من إصلاح باطنه عبر إصلاح ظاهره، بالإضافة لما ذكرته لك في رسائلي السابقة حول مثالب النفس الأمارة.

يقول بعض الحكماء ـ شارحا كيفية إجراء المشارطة المرتبطة بالتزكية ـ: (ثم يستأنف لها وصية في اعضائه السبعة: أعنى العين، والأذن، واللسان، والفرج، والبطن، واليد، والرجل، ويسلمها إليها، لأنها رعايا خادمة لها في التجارة، ولا يتم اعمال هذه التجارة إلا بها، فيوصيها بحفظ هذه الأعضاء عن المعاصي التي تصدر عنها، وبإعمال كل منها فيما خلق لأجله، ثم يوصيها بالاشتغال بوظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة، بالنوافل والخيرات التي تقدر عليها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم) ([8])

وقد اتفق الحكماء على أن الثقل والشدة تبدأ في أول الأمر، لكن النفس بعد ذلك تتعود، وقد لا يصبح صاحبها محتاجا للمشارطة، لكنه يظل محتاجا للمراقبة والمحاسبة، حتى تصبح تلك الملكات الطيبة راسخة فيها مطمئنة إليها.

ويظل محتاجا كذلك لإضافة المزيد من المشارطات لأن (كل من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا: من ولاية، أو تجارة، أو تدريس أو أمثال ذلك، لا يخلو كل يوم منه من مهم جديد، وواقعة حادثة لها حكم جديد، ولله فيها حق، فعليه أن يجدد الاشتراط على نفسه بالاستقامة عليها والانقياد للحق في مجاريها، وينبغي أن يوصيها بالتدبر في عاقبة كل أمر يرتكبه في هذا اليوم والليلة) ([9])

وقد روي في هذا أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يارسول الله أوصني، فقال له: (فهل أنت مستوص إن أوصيتك؟) قال ذلك ثلاثا في كلها يقول الرجل: نعم يارسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإني أوصيك إذا أنت هممت بأمر فتدبر عاقبته، فان يك رشدا فامضه، وإن يك غيا فانته عنه) ([10]

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما أهلك الناس العجلة، ولوأن الناس تثبتوا لم يهلك أحد) ([11])

وقال الإمام علي: (اللجاجة تسلب الرأي، والطمأنينة قبل الحزم ضد الحزم، والتدبير قبل العمل يؤمنك الندم، ومن تحرى القصد خفت عليه المؤن، ومن كابد الأمور عطب، ولولا التجارب عميت المذاهب، وفي التجارب علم مستأنف، وفي التواني والعجز انتجت الهلكة) ([12])

المشارطة والترقية:

ولا تكتف بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فالسير إلى الله ـ كما يحتاج إلى الأعمال التي تهذب النفس وتزكيها ـ يحتاج كذلك إلى الأعمال التي تنمي فيها الملكات الطيبة، وترقيها من خلالها إلى المراتب الرفيعة، والتي لا يمكن التحقق بها من دون السير إلى الله بوظائف العبودية التي وردت بها الشريعة.

وبما أن تلك الوظائف كثيرة، منها ما يرتبط بالأيام، ومنها ما يرتبط بالمناسبات المختلفة، ولا يمكن لكل الناس القيام بها جميعا؛ فقد ذكر الحكماء أن على كل مريد أن يأخذ منها ما يتناسب معه، ومع حاله.

يقول بعضهم في ذلك: (اعلم أن المريد لحرث الآخرة، السالك لطريقها، لا يخلو عن ستة أحوال، فإنه إما عابد، واما عالم، واما متعلم، واما وال، واما محترف، واما موحد مستغرق بالواحد الصمد عن غيره) ([13])

وبناء على هذا التقسيم الذي يمكن أن يشمل جميع أصناف الناس، ذكر الحكماء المشارطات المرتبطة بالعبّاد، وهم كل متفرغ للعبادة، ليس له شغل سواها؛ فهو ليس عالما ولا طالب علم، ولا موظفا، ولا مسؤولا، ولا مكلفا بأي علم غير العبادة، وهو ما ينطبق عليه قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7، 8]

وربما يشمل هذا القسم أولئك المتقاعدين الذين بلغوا سنا معينة، أزيحت عنهم بها كل التكاليف والوظائف التي كانت تمنعهم من التفرغ للعبادة والذكر، كما يشمل غيرهم ممن يفرغون أنفسهم أحيانا لذلك، بناء على دورات روحية يجرونها لأنفسهم.

فهذا الصنف: (المتجرد للعبادة الذي لا شغل له غيرها أصلا، ولو ترك العبادة لجلس بطالا، فترتيب أوراده بأن يستغرق أكثر أوقاته، إما في الصلاة، أو في القراءة، أو في التسبيحات، فقد كان في الصالحين من ورده في اليوم اثنا عشر ألف تسبيحة، وكان فيهم من ورده ثلاثون ألفا، وكان فيهم من ورده ثلاثمائة ركعة إلى ستمائة، وإلى ألف ركعة، وأقل ما نقل في أورادهم من الصلاه مائة ركعة في اليوم والليلة، وكان بعضهم أكثر ورده القرآن، وكان يختم الواحد منهم في اليوم مرة وروى مرتين عن بعضهم، وكان بعضهم يقضى اليوم أو الليلة في التفكر في آية واحدة يرددها، وكان بعضهم مقيما بمكة، فكان يطوف في كل يوم سبعين أسبوعا، وفي كل ليلة سبعين أسبوعا، وكان مع ذلك يختم القرآن في اليوم والليلة مرتين، فحسب ذلك فكان عشرة فراسخ، ويكون مع كل أسبوع ركعتان فهو مائتان وثمانون ركعة وختمتان وعشرة فراسخ) ([14])

وقد ذكر الحكماء أن على المتفرغ للعبادة أن ينظر فيما يناسبه من تلك الأوراد جميعا، ليلتزم به، ولذلك فإن (الأفضل يختلف باختلاف حال الشخص، ومقصود الأوراد تزكية القلب، وتطهيره، وتحليته بذكر الله تعالى، وإيناسه به، فلينظر المريد إلى قلبه فما يراه أشد تأثيرا فيه فليواظب عليه، فإذا أحس بملالة منه فلينتقل إلى غيره، ولذلك نرى الأصوب لاكثر الخلق توزيع هذه الخيرات المختلفة على الأوقات، والانتقال فيها من نوع إلى نوع، لأن الملال هو الغالب على الطبع، وأحوال الشخص الواحد في ذلك أيضا تختلف، ولكن إذا فهم فقه الأوراد وسرها فليتبع المعنى، فإن سمع تسبيحة مثلا وأحس لها بوقع في قلبه فليواظب على تكرارها ما دام يجد لها وقعا)

أما المتفرغ للعلم والتدريس والكتابة ونحوها، فقد ذكر الحكماء أن (ترتيبه الأوراد يخالف ترتيب العابد، فإنه يحتاج إلى المطالعة للكتب، وإلى التصنيف والإفادة، ويحتاج إلى مدة لها لا محالة، فإن أمكنه استغراق الأوقات فيه فهو أفضل ما يشتغل بعد المكتوبات ورواتبها، ويدل على ذلك ما ورد في فضيلة التعليم والتعلم، وكيف لا يكون كذلك وفي العلم المواظبة على ذكر الله تعالى، وتأمل ما قال الله تعالى وقال رسوله وفيه منفعة الخلق وهدايتهم إلى طريق الآخرة، ورب مسألة واحدة يتعلمها المتعلم فيصلح بها عبادة عمره، ولو لم يتعلمها لكان سعيه ضائعا)

إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحذر أن تحتقر وظائف العالم مقارنة بالعابد؛ فالعبادة التي لا يصحبها العلم قد تصبح مسخرة للشيطان، وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن عبادته؟ وأنا أعبدالله منذ كذا وكذا فقال: كيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي، فقال له العالم: فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل، وإن المدل لا يصعد من عمله شئ) ([15]

ومما يروى في أخبار بني إسرائيل أن أن (رجلا منهم يقال له: خليع بني إسرائيل لكثرة فساده، مر برجل يقال له: عابد بني إسرائيل، وكانت على رأس العابد غمامة تظله لمامر الخليع به فقال الخليع في نفسه: أنا خليع بني إسرائيل كيف أجلس بجنبه، وقال العابد: هو خليع بني إسرائيل كيف يجلس إلي، فأنف منه وقال له: قم عني فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان: مرهما فليستأنفا العمل، فقدغفرت للخليع وأحبطت عمل العابد) ([16])

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصيته للإمام علي: (يا علي نوم العالم أفضل من عبادة العابد الجاهل.. يا علي ركعتان يصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد) ([17])

لكن ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يعني كل علم، ولا كل العلماء، وإنما يعني أولئك العلماء الصادقين المخلصين الذين لم تجتذبهم الأهواء، ولا ثقل الدنيا، وأما غيرهم، فأنت تعلم ما ورد في حقهم في النصوص المقدسة، ولذلك على من يريد من هؤلاء التزكية أن يبدأ بتلك الأخلاق التي يغرسها الشيطان في نفوس العلماء، ليستأصلها من نفسه، قبل أن تتحكم فيها، ثم لا يستطيع الخروج منها.

وقد ذكر بعض الحكماء البرنامج اليومي لأمثال هؤلاء ـ بناء على العصر والظروف التي كانوا يعيشونها، فقال: (الأولى بالعالم أن يقسم أوقاته أيضا فان استغراق الأوقات في ترتيب العلم لا يحتمله الطبع، فينبغي أن يخصص ما بعد الصبح إلى طلوع الشمس بالأذكار والأوراد، وبعد الطلوع إلى ضحوة النهار في الافادة والتعليم، ان كان عنده من يستفيد علما لأجل الآخرة وان لم يكن فيصرفه إلى الفكر ويتفكر فيما يشكل عليه من علوم الدين، فإن صفاء القلب بعد الفراغ من الذكر وقبل الاشتغال بهموم الدنيا يعين على التفطن للمشكلات، ومن ضحوة النهار إلى العصر للتصنيف والمطالعة، لا يتركها إلا في وقت أكل وطهارة ومكتوبة وقيلولة خفيفة إن طال النهار، ومن العصر إلى الاصفرار يشتغل بسماع ما يقرأ بين يديه من تفسير أو حديث أو علم نافع، ومن الاصفرار إلى الغروب يشتغل بالذكر والاستغفار والتسبيح، فيكون ورده الأول قبل طلوع الشمس في عمل اللسان، وورده الثاني في عمل القلب بالفكر إلى الضحوة، ورده الثالث إلى العصر في عمل العين واليد بالمطالعة والكتابة، وورده الرابع بعد العصر في عمل السمع ليروح فيه العين واليد فان المطالعة والكتابة بعد العصر ربما أضرا بالعين، وعند الاصفرار يعود إلى ذكر اللسان، فلا يخلو جزء من النهار عن عمل له بالجوارح مع حضور القلب في الجميع) ([18])

وأما المتفرغ لطلب العلم، فقد ذكر الحكماء أن أفضل عمل له هو طلب العلم؛ ذلك أن (الاشتغال بالتعلم أفضل من الاشتغال بالاذكار والنوافل؛ فحكمه حكم العالم في ترتيب الأوراد، ولكن يشتغل بالاستفادة حيث يشتغل العالم بالإفادة وبالتعليق والنسخ حيث يشتغل العالم بالتصنيف)

وأما المحترف (الذي يحتاج إلى الكسب لعياله فليس له أن يضيع العيال ويستغرق الأوقات في العبادات، بل ورده في وقت الصناعة حضور السوق، والاشتغال بالكسب، ولكن ينبغي أن لا ينسى ذكر الله تعالى في صناعته، بل يواظب على التسبيحات والاذكار وقراءة القرءان، فان ذلك يمكن أن يجمع إلى العمل، وانما لا يتيسر مع العمل الصلاة الا أن يكون ناظورا فإنه لا يعجز عن إقامة أوراد الصلاة معه، ثم مهما فرغ من كفايته ينبغي أن يعود إلى ترتيب الأوراد، وإن دوام على الكسب وتصدق بما فضل عن حاجته فهو أفضل من سائر الأوراد، لأن العبادات المتعدية فائدتها أنفع من اللازمة، والصدقة والكسب على هذه النية عبادة له في نفسه تقربه إلى الله تعالى، ثم يحصل به فائدة للغير وتنجذب إليه بركات دعوات المسلمين ويتضاعف به الأجر) ([19])

وأما المسؤول (مثل الامام والقاضي والمتولي لينظر في أمور المسلمين، فقيامه بحاجات المسلمين وأغراضهم على وفق الشرع وقصد الإخلاص أفضل من الأوراد المذكورة، فحقه أن يشتغل بحقوق الناس نهارا ويقتصر على المكتوبة، ويقيم الأوراد المذكورة بالليل، كما كان بعضهم يفعله، إذ قال: مالى وللنوم، فلو نمت بالنهار ضيعت المسلمين، ولو نمت بالليل ضيعت نفسي، ذلك أنه يقدم على العبادات البدنية أمران، أحدهما العلم، والآخر الرفق بالمسلمين، لأن كل واحد من العلم وفعل المعروف عمل في نفسه، وعبادة تفضل سائر العبادات، يتعدى فائدته وانتشار جدواه، فكانا مقدمين عليه)([20])

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن كل ما ذكره الحكماء مرتبط بالسالكين الذين لم يبلغ بهم سلوكهم درجة النفس المطمئنة، أما من بلغت نفسه لتلك الدرجة، ووصل إلى حد الاستغراق في الذكر والمعرفة، فإنه (لا يفتقر إلى تنويع الأوراد واختلافها بل ورده بعد المكتوبات واحد، وهو حضور القلب مع الله تعالى في كل حال) ([21])

وأمثال هؤلاء (لا يخطر بقلوبهم أمر، ولا يقرع سمعهم قارع، ولا يلوح لأبصارهم لائح، إلا كان لهم فيه عبرة وفكر ومزيد، فلا محرك لهم ولا مسكن إلا الله تعالى، فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سببا لازديادهم، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة.. وهذه منتهى درجات الصديقين، ولا وصول إليها إلا بعد ترتيب الأوراد والمواظبة عليها دهرا طويلا، فلا ينبغي أن يغتر المريد بما سمعه من ذلك فيدعيه لنفسه، ويفتر عن وظائف عبادته فذاك علامته أن لا يهجس في قلبه وسواس، ولا يخطر في قلبه معصية، ولا تزعجه هواجم الأهوال، ولا تستفزه عظائم الاشغال) ([22])

هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تمتثل هذه التجارب العملية التي ذكرها الحكماء، واتفقوا عليها، واعلم أنك لا يمكنك أن تصل المراتب الرفيعة في سلم التخلق والتحقق ما لم تلزم نفسك بها، وتشرطها عليها.

ولا تكن حرفيا في ذلك؛ فهم قد ذكروا ما يتناسب مع عصورهم وظروفهم وأحوالهم وبيئاتهم، فانظر أنت في ظروفك وبيئتك وما تطلبه منك الشريعة واعمل بمقتضاه؛ فأنا ما ذكرت لك كلماتهم ووصاياهم لتأخذ بها كما تأخذ بكلمات ربك المقدسة، وإنما ذكرتها لك لتستفيد منها، وتبني عليها ما تراه متناسبا مع حالك.


([1] )  أحمد (5/ 168، 169)

([2] )  البخاري- الفتح 6 (2989). ومسلم (1009)

([3] )  البخاري- الفتح 3 (1445) واللفظ له، مسلم (1008)

([4] )  أحمد (5/354، رقم 23048)، وأبو داود (4/361، رقم 5242)، وابن خزيمة (2/229، رقم 1226)

([5] )  إحياء علوم الدين، 15/6.

([6] )  إحياء علوم الدين، 15/ 7 .

([7] )  جامع السعادات، ج 3، ص: 94.

([8] )  جامع السعادات، ج 3، ص: 96.

([9] )  جامع السعادات، ج 3، ص: 96.

([10] )  قرب الاسناد ص 32.

([11] )  المحاسن: 215.

([12] )  بحار الأنوار (71/ 342)

([13] )  إحياء علوم الدين، 4/35.

([14] )  إحياء علوم الدين، 4/35، بتصرف.

([15] )  الكافي ج 2 ص 313.

([16] )  بحار الأنوار (73/ 198)

([17] )  بحار الأنوار (77/ 57)

([18] )  إحياء علوم الدين، 4/36.

([19] )  إحياء علوم الدين، 4/36.

([20] )  إحياء علوم الدين، 4/37.

([21] )  إحياء علوم الدين، 4/39.

([22] )  إحياء علوم الدين، 4/40.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *