المحاسبة الدقيقة

المحاسبة الدقيقة
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المرابطة الثالثة من مرابطات النفس اللوامة، تلك التي اُتفق على تسميتها [المحاسبة]، وفائدتها، وكيفيتها، والنصوص المقدسة الدالة عليها.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن المحاسبة ركن من أركان السير إلى الله، فلا يمكن للسالك أن يزكي نفسه، ولا أن يرتقي بها في معارج الكمال المهيئة لها ما لم يتعامل مع نفسه تعامل الشريك مع شريكه، يحاسبه على الدينار والدرهم، والقليل والكثير، حتى تستقيم لهما الشراكة، ولا يميل بها أحدهما حيث يميل به هواه.
وسر المحاسبة ـ أيها المريد الصادق ـ ينطلق من شعور السالك أنه ليس حرا في تصرفاته، وإنما هو عبد لربه الذي خلقه، ووفر له كل ما يحتاجه في هذا العالم، لا ليسكن له، أو يمارس فيه ما تشاء له نفسه أو مجتمعه، وإنما لينفذ فيه الوظائف التي كلف بها، وهي وظائف لا غرض لها سوى تزكيته، وتهذيبه، وتأهيله لعالم أكثر جمالا.
وبذلك فإن المحاسب لنفسه يشبه الأستاذ الذي يحاسب تلاميذه على دروسهم، ومراجعتهم لها، وحلهم للمسائل التي يطلبها منهم..
وهذا ليس مجرد مثال تقريبي، بل هو الحقيقة، فالإنسان في هذه الدنيا ليس سوى تلميذ في المدرسة الإلهية؛ فإن كان نجيبا احترم الوظائف التي كلف بها، وأجاب عن الأسئلة التي يسأل عنها، وندم على كل مسألة أخطأ في جوابها.. وإن كان بليدا كسولا مشاغبا، لم يكتف بالسخرية من الأسئلة، ولا بعدم الإجابة عنها، وإنما يضيف إلى ذلك ما يفعله المشاغبون من السخرية من الأستاذ والمدرسة والأسئلة.
والدنيا كذلك مثل السوق الذي يتاجر فيه المتاجرون بأصناف السلع، والتاجر الناجح هو الذي يحاسب نفسه على أنواع السلع التي يعرضها، والأسعار التي يبيعها بها، وطريقة تعامله مع الزبائن.. حتى لا يخسر تجارته التي تتوقف على كل ذلك.
إذا علمت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن للمحاسبة التي يذكرها الحكماء فرعان:
أولهما: عرض الأعمال اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية على المشارطة التي اشترطها السالك على نفسه، وهل أداها، أم قصر فيها؟
وثانيهما: التدقيق في كل عمل من الأعمال التي قام بها السالك، وهل هي موافقة للشريعة، أم مخالفة لها، وهل أريد بها وجه الله، أم أريد بها غيره.
المحاسبة والمشارطة:
أما الأولى، وهي المحاسبة المرتبطة بالمشارطة؛ فقد قال بعض الحكماء يذكرها: (اعلم أن العبد كما يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق؛ فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة، أو شهر، أو يوم، حرصا منهم على الدنيا، وخوفا من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته، ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلا أياما قلائل. فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد! ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة، والخذلان، وقلة التوفيق) ([1])
ثم شرح كيفية تعامل الشركاء مع بعضهم، وهو نفس ما يمكن أن يفعله المحاسب لنفسه معها، فقال: (ومعنى المحاسبة مع الشريك أن ينظر في رأس المال، وفي الربح والخسران، ليتبين له الزيادة من النقصان. فإن كان من فضل حاصل استوفاه وشكره وإن كان من خسران طالبه بضمانه وكلفه تداركه في المستقبل) ([2])
ثم بين كيفية تطبيق السالك ذلك على نفسه، فقال: (فكذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي. وموسم هذه التجارة جملة النهار، ومعاملة نفسه الأمارة بالسوء فيحاسبها على الفرائض أولا، فإن أداها على وجهها شكر اللّه تعالى عليه، ورغبها في مثلها، وإن فوّتها من أصلها طالبها بالقضاء، وإن أداها ناقصة كلفها الجبران بالنوافل، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقوبتها، وتعذيبها، ومعاتبتها ليستوفى منها ما يتدارك به ما فرط، كما يصنع التاجر بشريكه وكما أنه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط، فيحفظ مداخل الزيادة والنقصان حتى لا يغبن في شيء منها، فينبغي أن يتقى غبينة النفس ومكرها، فإنها خداعة ملبسة مكارة فليطالبها أولا بتصحيح الجواب عن جميع ما تكلم به طول نهاره، وليتكفل بنفسه من الحساب ما سيتولاه غيره في صعيد القيامة، وهكذا عن نظره، بل عن خواطره، وأفكاره، وقيامه، وقعوده، وأكله، وشربه، ونومه، حتى عن سكوته إنه لم سكت، وعن سكونه لم سكن. فإذا عرف مجموع الواجب على النفس، وصح عنده قدر أدى الواجب فيه، كان ذلك القدر محسوبا له، فيظهر له الباقي على نفسه، فليثبته عليها، وليكتبه على صحيفة قلبه كما يكتب الباقي الذي على شريكه على قلبه وفي جريدة حسابه ثم النفس غريم يمكن أن يستوفى منه الديون. أما بعضها فبالغرامة والضمان، وبعضها بردّ عينه، وبعضها بالعقوبة لها على ذلك. ولا يمكن شيء من ذلك إلا بعد تحقيق الحساب وتمييز الباقي من الحق الواجب عليه. فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالمطالبة والاستيفاء) ([3])
المحاسبة والتزكية:
أما المحاسبة الثانية، والمرتبطة بالتزكية، فإن السالك الجاد الحريص على سعادته الأبدية لا يكتفي بحساب نفسه على ما فعله في يومه أو في الفترات القريبة منه، بل عليه أن يحاسبها على كل ما سلف منها، بل (ينبغي أن يحاسب النفس على جميع العمر يوما يوما، وساعة ساعة، في جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة) ([4])
وقد روي في هذا عن بعض الصالحين أنه كان محاسبا لنفسه، (فحسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال: يا ويلتي، ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب! فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب! ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلا يقول: يا لك من ركضة إلى الفردوس الأعلى!)([5])
وقد علق بعض الحكماء على ذلك بقوله: (فهكذا ينبغي أن يحاسب نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة. ولو رمى العبد بكل معصية حجرا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي، والملكان يحفظان عليه ذلك، أحصاه اللّه ونسوه) ([6])
هذا ما ذكره الحكماء والربانيون ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لهم، وإياك أن تسمع لأولئك المشاغبين الذين يكذبون عليك، ويمنونك، ويتركونك لأهوائك، ثم يملأونك بعدها بأصناف الغرور.. فالله تعالى لم يخلقك لتعبث بك الأهواء، وإنما خلقك لتؤدي ما عليك من وظائف.
وقد قال بعضهم معبرا عن الفرق بين ما يقوله الحكماء المريدون لله، وبين المدعين، فقال: (المريد يدعوك إلى الصدق فى المعاملة، والمدعى يدعوك إلى الصد عن المحاسبة، لأن حال المريد الخوف، والحزن والحذر، وحال المدعى الأمن، والاغترار) ([7])
و قال: (لما أهملوا أمر اللّه عز وجل أسلموا إلى عباده، ولما تركوا المحاسبة لأنفسهم عموا عن عيوبهم، فكانت عقوبة الخذلان التعلق بالخلق دون اللّه عز وجل، وكانت عقوبة الترك للرعاية رجوعهم إلى الخب، والحيل، والتدابر، والتقاطع فيما بينهم، والتدابر، والتحاسد) ([8])
وقد روي من محاسبة الصالحين لأنفسهم أن بعضهم قال يوما لوالدته: يا والدتي، أقسم عليك هل تناولت شيئا من الحرام بسببي أيام كنت ترضعيني؛ فإني لا آمن أن يكون قد وصل إلى قلبي شيء من ذلك، وأنا لا أعلم، فيحجبني ذلك عن ربّي؟ فقالت له أمه: لا أذكر إلا أني دخلت يوما إلى بعض جيراننا وأنت في حجري، فأخذت قارورة دهنهم، فدهنت رأسك، ولم أعلمهم، ويوما آخر كحلتك بكحلهم ولم أستأذنهم، فقال الصالح: (إن اللّه تعالى يحاسب عباده على مثقال ذرة، ألا ترين إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، وهذا أعظم من ذرة، فأخشى أن يقطعني عن ربّي، ثم قام، وسأل عن القوم، وطلب ورثتهم، فاستحلّ منهم لنفسه ولأمه([9]).
لا تتعجب ـ أيها المريد الصادق ـ من هذه الحكاية، ولا من غيرها؛ فمن قرأ النصوص المقدسة، وتدبر فيها، وعاش معانيها، يحتاط لنفسه، ولا يتبع هواه، وكيف يتبعه، وهو يعلم أن موازين الآخرة، لن تترك ذرة من الأعمال دون أن تزنها، ودون أن يحاسب صاحبها عليها.
لذلك بادر الصالحون والعقلاء إلى محاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبوا.. ووضعوا كل حين بين أعينهم قوله تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقوله: { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 6 – 8]
فلهذا لم ينتظروا أن تنصب لهم تلك الموازين في الآخرة، بل نصبوها لأنفسهم في الدنيا؛ فحاسبوها على الصغير والكبير، وبادروا إلى التوبة عند كل خطأ مهما احتقره الناس، أو لم يبالوا به.
وكل ذلك حذرا من أن يصيبهم ما أصاب أولئك الذين وصفهم الله تعالى، فقال: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]
أو أولئك الذين نسوا أعمالهم، ولكن الله تعالى لم ينسها، قال تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6]
ولهذا؛ فإن الدليل الأكبر على مشروعية المحاسبة، بل وجوبها هو القرآن الكريم، فالله تعالى لم يخبرنا عما يحصل في الآخرة من أنواع الحساب الدقيق، لنتسلى بها، وإنما لنأخذ حذرنا، فنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وقد قال الإمام الصّادق: (إذا أراد احدكم أن لا يسأل ربّه شيئا إلا أعطاه فلييأس من النّاس كلهم ولا يكون له رجاء إلّا من عند اللّه، فاذا علم اللّه ذلك من قلبه لم يسأله شيئا إلا أعطاه فحاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فان للقيامة خمسين موقفا كل موقف مقام ألف سنة ثمّ تلا { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]) ([10])
وقال: (لو لم يكن للحساب مهولة إلا حياء العرض على اللّه تعالى وفضيحة هتك السّتر على المخفيات لحقّ للمرء أن لا يهبط من رؤوس الجبال، ولا يأوي إلى عمران، ولا يشرب ولا ينام إلا عن اضطرار متّصل بالتّلف، ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها وشدائدها قائمة في كلّ نفس ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة كأنه إلى عرصاتها مدعوّ وفي غمراتها مسؤول، قال اللّه تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]) ([11])
وقال الإمام الكاظم: (ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنة استزاد اللّه وإن عمل سيّئة استغفر اللّه منها وتاب إليه)([12])
و قال الإمام الباقر: (لا يغرّنك النّاس من نفسك فان الأمر يصل إليك دونهم ولا يقطع نهارك بكذا وكذا فان معك من يحفظ عليك عملك، فأحسن فاني لم أر شيئا أحسن دركا ولا أسرع طلبا من حسنة محدثة لذنب قديم)([13])
هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاسع لأن تحاسب نفسك قبل أن
تحاسَب، واسع لعرض أعمالك على موازين الشريعة الإلهية، قبل أن توضع في موازين
المحكمة الإلهية.. واسع لأن تسير على السراط المستقيم في الدنيا، قبل أن تكلف بالسير
عليه في الآخرة.. فهو في الدنيا أكثر سعة، وأما في الآخرة، فهو أحد من السيف، وأدق
من الشعرة.
([1] ) إحياء علوم الدين، 15/ 25
([2] ) إحياء علوم الدين، 15/ 25
([3] ) إحياء علوم الدين، 15/ 25
([4] ) إحياء علوم الدين، 15/ 25
([5] ) إحياء علوم الدين، 15/ 25
([6] ) إحياء علوم الدين، 15/ 25
([7] ) الأنوار في علم الأسرار ومقامات الأبرار (ص: 21)
([8] ) الانوار فى علم الاسرار ومقامات الابرار، ص: 133
([9] ) روضة الحبور (ص 58)
([10] ) الكافي: ج 8 ص 143
([11] ) مصباح الشريعة: ص 85
([12] ) الكافي: ص 2 ص 453
([13] ) الكافي: ج 2 ص 454