المعاهدة الجازمة

المعاهدة الجازمة
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن المعاهدات والبيعات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وإمكانية استثمارها في التزكية والترقية، وكيفية ذلك.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن المعاهدات والبيعات وما يرتبط بها مسالك تربوية يمكن استخدامها في تهذيب النفس وترقيتها وإلزامها بما تكسل على عمله.
ذلك أن أكثر الوسائل التي وضعتها الشريعة للتزكية والترقية صنفها الفقهاء ضمن التطوعات والنوافل بناء على عجز أكثر الناس على أدائها.. ولذلك فإن النفس عند ملاحظتها لهذا يصيبها الكسل والوهن بخلاف المفروض عليها..
ولهذا كان أحسن الطرق لتحويل بعض تلك التطوعات واجبات القيام بمعاهدات مرتبطة بها، تلزم النفس بها، لأنها تحولت من كونها تطوعا إلى كونها فريضة، بسبب الالتزام بها.
ومن الأمثلة على ذلك إلزام النفس بورد قرآني كل يوم، ومثله من التهليلات والتكبيرات والتسبيحات وأنواع التطوع المرتبط بالصيام والصدقات وغيرها عبر القيام بمعاهدة تخصها، إما دائمة، أو مرتبطة بزمن معين.
فذلك مما يحمي السلوك من المزاجية والتقلب، ذلك أن الإنسان قد ينشط في فترة من الفترات، يقوم خلالها بكل أنواع البر، لكنه عند كسله يقعد عنها جميعا.. لكنه إذا ما ألزم نفسه يصبح مضطرا لفعلها، وإلى قضائها في حال التقصير.. وذلك كله مما يساهم في ردع نفسه الأمارة، وإمداد نفسه اللوامة بما يعينها على التحول إلى نفس مطمئنة.
ولذلك وصف الله تعالى الأبرار من عباده بالوفاء بالنذر، وهو ليس سوى شكل من أشكال المعاهدات، كما قال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 6، 7]
وذلك لا يقتصر على النوافل والتطوعات فقط، بل يتعداها إلى الفرائض والمحرمات، ذلك أن النفس الأمارة قد تقتحم حدود الله من حيث لا تشعر، فلذلك تحتاج إلى منبه ينبهها، ولذلك أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ البيعة في أمثال تلك المسائل، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِالله شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الممتحنة: 12]
فقد كانت تلك المحرمات التي ذكرتها الآية الكريمة متفشية في الجاهلية، لذلك طولب النساء بالبيعة ومعاهدة الله على اجتنابها.
ولم تكن أمثال تلك البيعة خاصة بالنساء، بل ورد في السنة المطهرة الكثير من أمثالها مما يتعلق بالرجال والنساء جميعا، ومن أمثلتها ما حدث به بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (بايعنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مثل ما بايع عليه النساء، من مات منا ولم يأت شيئا منهن ضمن له الجنة، ومن مات منا وقد أتى شيئا منهن وقد أقيم عليه الحد فهو كفارة، ومن مات منا وقد أتى شيئا منهن فستر عليه فعلى الله حسابه) ([1])
وعنه قال: قلت: يا رسول الله، اشترط علي فأنت أعلم بالشرط. قال: (أبايعك على أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتنصح لكل مسلم، وتبرأ من الشرك)([2])
وقال هذا الصحابي بعد ذلك، مخبرا عن تأثير البيعة عليه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدي هذه على الإسلام واشترط علي النصح لكل مسلم، فورب الكعبة، إني لكم ناصح أجمعين) ([3])
وحدث صحابي آخر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبايعه، فقلت: علام تبايعني يا رسول الله؟ فمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده قال: (تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتصلي الصلوات الخمس لوقتها، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله). قلت: يا رسول الله، كلا نطيق إلا اثنتين فلا أطيقهما: الزكاة، والله ما لي إلا عشر ذود هن رسل أهلي وحمولتهن. وأما الجهاد فإني رجل جبان، ويزعمون أنه من ولى فقد باء بغضب من الله، وأخاف إن حضر القتال أن أخشع بنفسي فأفر فأبوء بغضب من الله. فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده ثم حركها، ثم قال: (يا بشير، لا صدقة ولا جهاد فبم إذن تدخل الجنة؟) قلت: يا رسول الله، أبسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعته عليهن كلهن([4]).
وحدث آخر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: (ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟) فرددها ثلاث مرات. فقدمنا أيدينا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: يا رسول الله قد بايعناك فعلى أي شيء نبايعك؟ فقال: (على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وأن لا تسألوا الناس شيئا)([5])
وقد قال ذلك الصحابي مخبرا عن تأثير تلك البيعة في سلوك المبايعين: (فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فما يقول لأحد يناوله إياه)
ووصف صحابي آخر أثر تلك البيعة على بعض من بايعوا، فقال: (رأيته بمكة في أجمع ما يكون من الناس يسقط سوطه وهو راكب، فربما وقع على عاتق رجل، فيأخذه الرجل فيناوله، فما يأخذه حتى يكون هو ينزل فيأخذه) ([6])
وعن صحابي آخر قال: بايعني رسول الله خمسا، وأوثقني سبعا، وأشهد الله علي سبعا: أن لا أخاف في الله لومة لائم، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (هل لك إلى البيعة ولك الجنة؟) قلت: نعم، وبسطت يدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ وهو يشترط علي – أن لا أسأل الناس شيئا قلت: نعم. قال: (ولا سوطك إن سقط منك حتى تنزل فتأخذه.. وأوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن، ولا تقبضن أمانة)([7])
وغيرها من المعاهدات والبيعات التي وردت في السنة المطهرة، بل أشار إليها القرآن الكريم، وأخبر أن إلزام النفس بالعهود والوفاء بها من صفات أولي الألباب، فهم ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)﴾ (الرعد)
وهي من صفات ورثة الفردوس فهم ﴿الَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)﴾ (المؤمنون)
وهكذا أثنى الله تعالى على الأبرار الذين فهموا حقيقة البر ومارسوها، فقال:﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)﴾ (البقرة)
بل اعتبر من بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعاهده مبايعا لله ومعاهدا له، فقال:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾ (الفتح)
ومع الثناء على أهل الله الموفين بعهد الله وردت النصوص مخبرة بوجوب هذا الوفاء، وأنه لا يقل في وجوبه عن أي وفاء آخر، قال تعالى:﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)﴾ (البقرة)
وقال:﴿ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ الله أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)﴾ (الأنعام)
وقال:﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)﴾ (النحل)
وقد فهم الربانيون من الآيات الحاضة على وجوب الوفاء بالعقود أن أول العقود هو العقد الذي يجريه العبد مع ربه، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)﴾ (المائدة)
فالعقود التي يجب الوفاء بها لا تتوقف على عقود البيع والشراء، بل تعم جميع العقود التي يعقدها العبد مع ربه، عن ابن عباس قال: (العهود ما أحل الله وما حرم، وما فرض وما حد في القرآن كله، ولا تغدروا ولا تنكثوا)
ولهذا كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً لعمرو ابن حزم، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنّة، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتاباً وعهداً، وأمره فيه بأمره، فكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله ورسوله ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ..(1)﴾ (المائدة) عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)([8])
ومما يبين خطورة هذه المعاهدات ووجوب الوفاء بها تأكيد القرآن الكريم على أن الله تعالى سيسأل عباده عن هذه العهود، قال تعالى:﴿ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34)﴾(الاسراء)، وقال:﴿ وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا الله مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً (15)﴾ (الأحزاب)
ومثل ذلك ما أخبر به عن عاقبة ذلك الذي لم يف لله بعهده، كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 75 – 77]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أنه لا يشترط في المعاهدة أو البيعة الحضور الشخصي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجسده الشريف، ذلك أنه يمكنك أن تعاهد الله مباشرة، أو يمكنك أن تعاهد أي شخص تثق فيه وفي صلاحه وتقواه.. بل يمكن أن تتفق أنت وصديقك على عمل من أعمال الخير وتعاهدان الله عليه..
بل يمكنك إن شئت أن تعاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتبايعه مثلما كان يعاهده ويبايعه أصحابه؛ فجسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس هو المطلوب في البيعة، وإنما روحه وحقيقته، وهما حاضرتان لا تغيبان إلا على الغافلين.. بل أنت نفسك تخاطبه في كل صلاة وغيرها وتسلم عليه بصيغة المخاطب، وأنت تعلم أنه يسمعك ويرد عليك.
وهو لا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمع سلامك فقط، بل هو يسمع غيره أيضا.. فاجعل من ذلك الغير معاهدتك له على الاستقامة والصلاح.
وقد ألف بعض الحكماء كتابا في هذا سماه [لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية]، وقد قال في مقدمته: (اعلم يا أخي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان هو الشيخ الحقيقي لأمة الإجابة كلها، ساغ لنا أن نقول في تراجم عهود الكتاب كلها: أخذ علينا العهد العام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أعني معشر جميع الأمة المحمدية، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا خاطب الصحابة بأمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب انسحب حكم ذلك على جميع أمته إلى يوم القيامة، فهو الشيخ الحقيقي لنا)([9])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أنه قد ورد في النصوص المقدسة نوعان من المعاهدات، إحداهما ترتبط بالنفس، بتزكيتها وتربيتها وترقيتها، والثاني مرتبط بالأمة بالحفاظ على وحدتها وعزتها وقوتها.
معاهدة التزكية:
أما المعاهدة الأولى، وهي معاهدة التزكية؛ فهي ترتبط بإصلاح النفس وتهذيبها، ولذلك على المريد الصادق إذا رأى خللا في نفسه أن يسارع لعلاجه عبر معاهدة يجريها بينه وبين ربه، يعاهده فيها على ألا يكرر ذلك الخطأ.. وإن رأى تقصيرا في طاعة من الطاعات، راح يبايع الله تعالى على الالتزام بها.. وهكذا تصبح البيعة وسيلة لإلزام نفسه، مثلما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه في تربيته لهم.
ومن الأمثلة على ذلك ما حدث به بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أممت قوما فأخفّ بهم الصّلاة) ([10])
وعن صحابي آخر قال: رأيت رجلا يصدر النّاس عن رأيه، لا يقول شيئا إلّا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: أنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: (أنا رسول الله الّذي إذا أصابك ضرّ فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عام سنة([11]) فدعوته أنبتها لك وإذا كنت بأرض قفراء أو فلاة فضلّت راحلتك فدعوته ردّها عليك) قلت: اعهد إليّ، قال: (لا تسبّنّ أحدا) قال: فما سببت بعده حرّا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة، قال: (و لا تحقرنّ شيئا من المعروف، وأن تكلّم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك، إنّ ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف السّاق، فإن أبيت فإلى الكعبين، وإيّاك وإسبال الإزار، فإنّها من المخيلة، وإنّ الله لا يحبّ المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه، فإنّما وبال ذلك عليه) ([12])
وعن أمّ عطيّة قالت: أخذ علينا النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عند البيعة أن لا ننوح، فما وفت منّا امرأة غير خمس نسوة: أمّ سليم، وأمّ العلاء، وابنة أبي سبرة امرأة معاذ، وامرأتين، أو ابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ، وامرأة أخرى)([13])
وغيرها من الروايات التي سبق أن ذكرت لك بعضا منها، وقد قال الإمام الباقر في فضل ذلك: (أربع من كن فيه كمل إسلامه ومحصت عنه ذنوبه، ولقي ربه عزوجل وهو عنه راض: من وفى لله عزوجل بما يجعل على نفسه للناس، وصدق لسانه مر الناس، واستحيا من كل قبيح عند الله وعند الناس، وحسن خلقه مع أهله) ([14])
معاهدة النصرة:
أما المعاهدة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي معاهدة النصرة؛ وهي ترتبط بالجانب الاجتماعي في الدين، ذلك أن اختبارات الله تعالى لعباده نوعان: نوع يرتبط بالنفس وعلاقتها بربها.. ونوع يرتبط بالمجتمع وعلاقة النفس به.
ولا يمكن أن تتحقق التزكية، ولا الترقية من دون مراعاة كلا النوعين، والإجابة على كل الأسئلة المرتبطة بهما، والنجاح في كل الاختبارات التي قد يبتلي الله عباده فيهما.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يكتفي ببيعة أصحابه على تزكية أنفسهم، وإنما كان يضم إليها بيعتهم ومعاهدتهم على نصرة الدين.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك، وبين فضل من وفى بعهده مع الله، وصدق في بيعه وشرائه معه، فقال:﴿ إِنَّ الله اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة)
وأبلغ في الثناء على رجال من المؤمنين بقوله:﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ الله الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)﴾ (الأحزاب)
ومما ورد في سبب نزولها أنها نزلت في أنس بن النضر، فقد حدث بعض قرابته عنه قال: كان أنس عمي (أنس بن النضر)، لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر فشق عليه، وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غبت عنه، لئن أراني الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرين الله ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، فشهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أُحد، فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: (يا أبا عمرو أين، واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد)، قال: فقاتلهم حتى قتل، قال: فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية، فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، قال: فنزلت هذه الآية:﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب)، قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه)([15])
ومثله المقداد بن الأسود الذي قام مجيبا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يوم بدر عندما تردد بعض المترددين في نصرته صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا رسول الله امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله ما نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ﴾ [المائدة 24] ولكن اذهب أنت ربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، عن يمينك وشمالك، وبين يديك وخلفك، والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه)، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال له خيرا ودعا له([16]).
وذلك ليس محصورا ببدر أو أحد أو غيرها من المواطن التي نصر فيها الإسلام، بل إن المؤمن الصادق في إيمانه هو من يعاهد الله على نصرته في أي محل يحتاج إلى ذلك، وذلك هو النجاح الأعظم، والذي يثبت مدى صدق النفس مع ربها.
ومن الأمثلة التي عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تعيشها دائما، لتستن بأصحابها، وتفي بعهودك جميعا، أولئك الصادقين الذين عاهدوا الإمام الحسين على نصرته، وصدقوا في ذلك، إلى أن لقوا ربهم، وهو عنهم راض.
وقد فعلوا ذلك مع علمهم بالمصير الذي ينتظرهم، ومع أن الإمام الحسين سمح لهم بتركه، وبرأ ذمتهم من بيعته، لكنهم ظلوا أوفياء لها إلى أن تشرفوا باختلاط دمائهم مع دمه.
وقد روي أنه جمعهم قبل المعركة؛ فقال: (إني لا أعلم أصحابا أصح منكم ولا أعدل ولا أفضل أهل بيت، فجزاكم الله عني خيرا، فهذا الليل قد أقبل فقوموا واتخذوا جملا، وليأخذ كل رجل منكم بيد صاحبه أو رجل من إخوتي وتفرقوا في سواد هذا الليل وذروني وهؤلاء القوم، فإنهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم)([17])
حينها قام أخوه العباس وغيره من أقاربه ليعبروا عن ذلك الصدق والثبات الذي نتج عن ولائهم لأهل بيت النبوة، فقالوا: (لم نفعل ذلك ؟ لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبدا)، فقال لهم الإمام الحسين: (يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم بن عقيل فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم)، فقالوا: (سبحان الله.. ما نقول للناس؟ نقول: إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الاعمام، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا، لا والله ما نفعل ذلك، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك)([18])
ثم قام مسلم بن عوسجة، فقال: (أنحن نخلي عنك، بما نعتذر إلى الله في أداء حقك ؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، لا والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك، أما والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق ثم أحيا ثم أذرى، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا)([19])
وقام زهير بن القين، وقال: (والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت، حتى أقتل هكذا ألف مرة، وإن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك)([20])
وهكذا عبر الجميع عن وفائهم.. فاحفظ كلماتهم، لترددها في الوقت الذي يحتاج منك المستضعفون المظلومون إلى النصرة، لتقف معهم، لا على الحياد، ولا مع أهل الباطل.. فكلاهما في الشر سواء.
وإن شئت أن تكون أكثر صدقا، فردد كل يوم مع الصالحين المنتظرين للمهدي الذي اتفقت الأمة جميعا على كونه المخلص الموعود الذي يمحو الله به كل تحريف وقع في الدين، وعلى يديه يتم النصر الأكبر الذي وعد به الأنبياء عليهم السلام.. مثله بين عينيك، وقل: (اللهم إني أجدد له في صبيحة يومي هذا وما عشت من أيامي عهدا وعقدا وبيعة له في عنقي، لا أحول عنها ولا أزول أبدا، اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه والمسارعين إليه في قضاء حوائجه، والممتثلين لأوامره والمحامين عنه، والسابقين إلى إرادته والمستشهدين بين يديه)
و بذلك تهيء نفسك لنصرته، وللتحضير له، حتى إذا ما شرفك الله بأن تعيش زمانه، لم تكن من أعدائه، وإنما من أنصاره.. ولم تكن من الراغبين عنه، وإنما من الراغبين فيه.
وإن لم يشرفك الله بذلك؛ فقد جعلت من نفسك جنديا له.. وسيتقبل الله جنديتك، ويثيبك عليها بقدر صدقك وإخلاصك في بيعتك.
وأول مظاهر ذلك الإخلاص أن تتحرى الأقرب للحق من أهل زمانك؛ فتنصرهم
في مواجهة الباطل، ولا تقل على الحياد، ولا مع أهل الباطل ضدهم.. فالله تعالى يختبر
كل أهل زمان بما يثبت حقيقتهم، ويكشف عن سرائرهم.
([1] ) رواه الطبراني، حياة الصحابة (1/ 279)
([2] ) رواه النسائي
([3] ) رواه البخاري ومسلم.
([4] ) رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم، والحاكم، والبيهقي، وابن عساكر
([5] ) رواه مسلم والرياني، وابن جرير، وابن عساكر .
([6] ) أحمد، والنسائي وغيرهما
([7] ) رواه أحمد
([8]) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
([9]) لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية، ص7.
([10]) مسلم( 468).
([11]) عام سنة: أي عام جدب.
([12]) أبو داود( 4084) و قال الألباني: صحيح، و الترمذي( 2877)
([13]) البخاري- الفتح 3( 1306) و اللفظ له. و مسلم( 936).
([14] ) الخصال ج 1 ص 106.
([15]) رواه أحمد ورواه مسلم والترمذي والنسائي.
([16]) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (4/ 26)
([17])تاريخ الطبري 3: 315، الكامل في التاريخ 2: 559.
([18]) تاريخ الطبري 3: 315، وقعة الطف: 198..
([19]) الكامل في التاريخ 2: 559.
([20]) الكامل في التاريخ 2: 559.