المجاهدة الكبرى

المجاهدة الكبرى
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن مجاهدة النفس، وكيفيتها، وعلاقتها بالتزكية والترقية، وكيفية الرد على أولئك الذين يستدلون بما ورد في النصوص المقدسة من حنيفية الدين وسماحته ورفع الحرج على بدعية المجاهدة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن مجاهدة النفس هي مدرسة من مدارس التزكية والترقية الكبرى؛ فتلك المراتب الرفيعة التي ينالها من هذبوا أنفسهم وأدبوها وملؤوها بأصناف المكارم لا يمكن أن ينالها الكسالى، ولا المقعدون، ولا أصحاب الهمم الدنية، بل هي مخصصة للذين جاهدوا أنفسهم في ذات الله، حتى لانت لهم، وأصبحت طوع أيديهم؛ لا تحركهم الشهوات، ولا تستفزهم الأهواء.
ولذلك أخبر الله تعالى أن هدايته الشاملة مخصصة للذين جاهدوا أنفسهم في سبيله، فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]
وأخبر عن جزاء من عارض هواه وجاهده، فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات: 40، 41]
وذلك لا يعارض ما ورد في النصوص المقدسة من رفع الحرج؛ كما قال تعالى: {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } [طه: 1، 2]، وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6]، ذلك أن لكليهما محله الخاص به.
فمن كان مهذب النفس، طيب الأخلاق، منقادا لأحكام الشريعة بظاهره وباطنه؛ فإنه لا يشعر بأي حرج في أي عمل يقوم به، ولا يحتاج لمجاهدة نفسه لذلك، بل إنه قد يتلذذ به، ويشعر بالسعادة أثناء أدائه.
أما من عداه، ممن لم تتهذب نفسه، ولم تتأدب؛ فإنه يحتاج إلى مجاهدتها إلى أن تستقيم حالها، وتتعود على السلوك الصحيح، وحينها ترتفع الكلفة، ويصبح ما كان شاقا أمرا يسيرا سهلا لا حرج فيه.
ولذلك جمع الله تعالى بين المجاهدة ورفع الحرج، فقال: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]
ذلك أن رفع الحرج، لا يعني اتباع الأهواء، أو ترك النفس وشهواتها ورعوناتها، وإنما يعني عدم مقاومة الفطرة الأصلية، أما ما استجد عليها، وأفسدها؛ فإنه لا يمكن أن يهتدي الإنسان، ولا أن يسير في درب الصالحين ما لم يقاوم ذلك، ويجاهده إلى أن يصبح طبيعة فيه.
وأنت ترى ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ في كل شيء.. فصاحب العضلات الضعيفة، يحتاج إلى رياضات شديدة حتى يقوي عضلاته.. والذي يريد أن يكسب مالا كثيرا يحتاج إلى جهود تتوافق مع همته.. والذي يريد أن يصير عالما أو باحثا يصل الليل بالنهار إلى أن يحقق ما تهفو إليه نفسه..
وهكذا الأمر بالنسبة للتزكية والترقية؛ فإنه لا يمكن أن ينالهما إلا من جاهد نفسه، ولم يتبع أهواءه، وإنما استعمل كل الطرق المشروعة حتى يتحقق بالمثل العليا، وحتى ترتقي نفسه إلى تلك المراتب الرفيعة التي وصل إليها أصحاب النفوس المطمئنة.
ولذلك ورد في الحديث التعبير عن جهاد النفس بكونه الجهاد الأكبر، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سريَّة، فلما رجعوا قال: (مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر)، قيل: يا رسول وما الجهاد الأكبر؟ قال: (جهاد النفس)، ثم قال: (أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه)([1])
وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)([2])، وهو يدل على أنه لا يمكن لأي إنسان أن يتحلى بالعفو والحلم ما لم يجاهد نفسه على ذلك.
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن لجهاد النفس مرتبتين:
أولاهما ترتبط بتزكية النفس من المثالب والرعونات والأخلاق السيئة التي تكتسبها من بيئتها أو محيطها أو أهوائها وشيطانها.
وثانيهما ترتبط بترقيتها وتحقيقها بالأخلاق العالية والروحانية السامية.
مجاهدة التزكية:
أما مجاهدة التزكية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مقاومة تلك التزيينات التي تنحرف بالنفس عن طبيعتها وفطرتها السليمة؛ وتصحيح مسارها الذي خلقها الله عليه، حتى تعود نقية إلى بارئة سليمة من كل الكدورات التي قد تلطخها.
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]
والمراد بالهوى هنا كل تلك الأوهام التي تتلبس بالنفس نتيجة لوساوس شياطين الإنس والجن، وما يصاحبها من رغبات داخلية، توفر القابلية لتلك الوساوس.
ولذلك؛ فإن محو مصدر تلك الأهواء، وتصحيح تلك الرغبات، يحتاج إلى مقاومة شديدة، وجهاد لا يقل عن الجهاد الذي يقاوم به الظالمون والمستكبرون.. بل إن الجهاد الثاني لا يمكن أن يتحقق ما لم يكن يصاحبه الجهاد الأول.
ولهذا، فإن القرآن الكريم ينسب كل الجرائم البشعة إلى النفس بسبب استسلام صاحبها لأهوائها، كما قال تعالى في قصة ابني آدم:﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)﴾ (المائدة)
وهكذا اعتبر الله تعالى البخل هزيمة للإنسان مع نفسه، فقال:﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)﴾ (التغابن)
واعتبر النفس هي التي تزين للإنسان وتدفعه للارتداد عن الدين وسوء التعامل مع قضاياه، كما حصل للسامريّ الذي أضل المؤمنين بتوجيههم لعبادة عجل صنعه من الحليّ، فقال:﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)﴾ (طه)
واعتبر أهواء النفس وراء ما يحصل من مخالفة للأنبياء ومن اعتداء عليهم، فقال: ﴿ فَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)﴾ (البقرة)
واعتبر ما فعله إخوة نبي الله يوسف عليه السلام من تلك الجريمة النكراء نتيجة لانحراف نفسي أصابهم، فقال على لسان أبيهم يعقوب عليه السلام:﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)﴾ (يوسف)
واعتبر الحسد حالة مرضية نفسية بين الأفراد أو الأمم والمجتمعات، فقال:﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)﴾ (البقرة)
واعتبر التكبر مرضا يعشعش في أرجاء النفس، فقال:﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)﴾ (الفرقان)
واعتبر الإعراض عن دين الله ورسالة الأنبياء إنما ينشأ من حالة انحراف نفسي يطلق عليه (سفاهة)، فقال:﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾ (البقرة)
وبناء على ذلك كله، فإن الله تعالى ـ كما ينصر من يجاهدون أعداءهم وظالميهم ـ ينصر من يجاهدون أنفسهم في سبيله لتهذيبها وتربيتها، وقد ورد في الحديث القدسي، يقول الله عزّ وجلّ: (وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوّي، لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتتّ أمره، ولبّست عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم أوته منها إلا ما قدّرت له، وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوّي، لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي، وكفلت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة)([3])
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات، واعلموا أنه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كُره، وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة، فرحم الله رجلا نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه، فإنّ هذه النفس أبعد شيء منزعا، وإنها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى.. واعلموا عباد الله.. أنّ المؤمن لا يمسي ولا يصبح إلا ونفسه ظنون عنده، فلا يزال زاريا عليها، ومستزيدا لها، فكونوا كالسابقين قبلكم، والماضين أمامكم، قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل، وطووها طي المنازل)([4])
وقال: (لمّا خلق الله الجنّة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثمّ جاء، فقال: أي ربّ، وعزّتك لا يسمع بها أحد إلّا دخلها، ثمّ حفّها بالمكاره، ثمّ قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثمّ جاء فقال: أي ربّ، وعزّتك، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد)، فلمّا خلق الله النّار قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثمّ جاء فقال: أي ربّ، وعزّتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفّها بالشّهوات، ثمّ قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثمّ جاء فقال: أي ربّ، وعزّتك، لقد خشيت ألّا يبقى أحد إلّا دخلها)([5])
وقال: (من أكل ما يشتهي، لم ينظر الله إليه حتى ينزع أو يترك)([6])
وقال: (طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود لم يره)([7])
وقال الإمام الصادق: (احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم فليس شئ أعدى للرجال من اتباع أهوائهم، وحصائد ألسنتهم) ([8])
ولهذا ـ مثلما تظهر الشجاعة في مواجهة الظالمين ـ تظهر أيضا في مواجهة أهواء النفس، وقد قال الإمام علي: (أشجع الناس من غلب هواه)([9])
وقال: (إنّ أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل، واتباع الهوى؛ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق..ألا وإنّ الدنيا قد تولّت مدبرة، والآخرة قد أقبلت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنّ اليوم عمل ولا حساب، والآخرة حساب ولا عمل)([10])
وقال: (من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته)([11])
وقد ذكر بعض الحكماء كيفية ممارسة هذا النوع من المجاهدة، فقال: (جاهد نفسك بأسياف الرّياضة. والرّياضة على أربعة أوجه: القوت من الطّعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام، وحمل الأذى من جميع الأنام، فيتولّد من قلّة الطّعام موت الشّهوات، ومن قلّة المنام صفو الإرادات، ومن قلّة الكلام السّلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى البلوغ إلى الغايات. وليس على العبد شيء أشدّ من الحلم عند الجفاء، والصّبر على الأذى، وإذا تحرّكت من النّفس إرادة الشّهوات والآثام، وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جرّدت سيوف قلّة الطّعام من غمد التّهجّد وقلّة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلّة الكلام، حتّى تنقطع عن الظّلم والانتقام، فتأمن من بوائقها من بين سائر الأنام، وتصفّيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها، فتصير عند ذلك نظيفة ونوريّة خفيفة روحانيّة، فتجول في ميدان الخيرات، وتسير في مسالك الطّاعات، كالفرس الفاره في الميدان وكالملك المتنزّه في البستان)([12])
وقال: (أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه، وشيطانه، ونفسه، فاحترس من الدّنيا بالزّهد فيها، ومن الشّيطان بمخالفته، ومن النّفس بترك الشّهوات)([13])
وهذا لا يعني أن هذه الطرق متناسبة مع الناس جميعا، بل تختلف النفوس فيها، بحسب المثالب التي تتصف بها، وقد ذكر ذلك بعض الحكماء، فقال: (طريق المجاهدة والرّياضة لكلّ إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله. والأصل فيه أن يترك كلّ واحد ما به فرحه من أسباب الدّنيا، فالّذي يفرح بالمال، أو بالجاه، أو بالقبول في الوعظ، أو بالعزّ في القضاء والولاية، أو بكثرة الأتباع في التّدريس والإفادة، فينبغي أن يترك أوّلا ما به فرحه، فإنّه إن منع عن شيء من ذلك وقيل له: ثوابك في الآخرة لم ينقص بالمنع، فكره ذلك وتألّم به فهو ممّن فرح بالحياة الدّنيا واطمأنّ بها، وذلك مهلك في حقّه. ثمّ إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل النّاس، ولينفرد بنفسه، وليراقب قلبه، حتّى لا يشتغل إلّا بذكر الله تعالى والفكر فيه. وليترصّد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس، حتّى يقمع مادتّه مهما ظهر، فإنّ لكلّ وسوسة سببا، ولا تزول إلّا بقطع ذلك السّبب والعلاقة. وليلازم ذلك بقيّة العمر فليس للجهاد آخر إلّا بالموت)([14])
وهو لا يعني بالانقطاع عن الناس أو العزلة عنهم، العزلة الدائمة؛ فذلك منهي عنه، وإنما أراد بها العزلة المؤقتة التي يحتاج السالك إليها كل حين لمراجعة نفسه وسلوكه، حتى لا يتسرب إليه من الطباع ما يخالف الفطرة السليمة.
مجاهدة الترقية:
أما مجاهدة الترقية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي بذل الجهد في ممارسة كل الوسائل التي أمرنا الله تعالى باستعمالها للتحقق بالأخلاق العالية، والروحانية السامية.. ذلك أن عاقبة تلك المجاهدات عظيمة جدا، وقد قال تعالى في فضل قيام الليل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6]
ويشير إليها ما رواه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فآتيه بوضوئه وبحاجته، فقال لي: اسألني، فقلت: إني أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: (فأعني على نفسك بكثرة السجود) ([15])
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نبه هذا الصحابي إلى أن تلك المرتبة الرفيعة التي طلب التحقق بها، لا يمكن أن ينالها بالدعاء، ولا بالشفاعة المجردة، وإنما تقتضي منه مجاهدات نفسية، تجعله يكثر من السجود وذكر الله.
ولهذا قرن الله تعالى بين قيام الليل، والمقام المحمود، فقال مخاطبا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء: 79]
وهو يشير إلى أن ترقي النفس من درجة دنيا إلى درجة عليا يحتاج إلى الكثير من المجاهدات، والتي يستعان على أدائها بالصبر، ولذلك قرن الله تعالى الصبر بالصلاة، وجعلها وسيلة للهداية الشاملة، كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن دور المجاهدة في الخروج من كل المراتب الدنية، والتحقق بكل المراتب السنية، فقال: (إنّ الشّيطان قعد لابن آدم بأطرقه، قعد في طريق الإسلام، فقال: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك؟ فعصاه وأسلم، وقعد له بطريق الهجرة، فقال: تهاجر وتذر أرضك وسماءك؟ وإنّما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطّول، فعصاه فهاجر، ثمّ قعد له بطريق الجهاد، فقال: تجاهد؟ فهو جهد النّفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟ فعصاه فجاهد، فمن فعل ذلك كان حقّا على الله أن يدخله الجنّة، وإن غرق كان حقّا على الله أن يدخله الجنّة، أو وقصته دابّته كان حقّا على الله أن يدخله الجنّة)([16])
وهكذا نرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصف الكثير من أعمال الخير لمن يريدون الترقي، ففي الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنّة ويباعدني من النّار، فقال: صلى الله عليه وآله وسلم: (لقد سألتني عن عظيم، وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت)، ثمّ قال: (أ لا أدلّك على أبواب الخير: (الصّوم جنّة، والصّدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النّار، وصلاة الرّجل من جوف اللّيل شعار الصّالحين)، ثمّ تلا قوله تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 16، 17]، ثمّ قال: (ألا أخبرك برأس الأمر كلّه وعموده وذروة سنامه؟) قال: بلى يا رسول الله، قال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصّلاة، وذروة سنامه الجهاد)، ثمّ قال: (أ لا أخبرك بملاك ذلك كلّه؟)، قال: بلى، يا نبيّ الله، فأخذ بلسانه، قال: (كفّ عليك هذا)([17])
وهكذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العملية، فقد روي أنه صلّى حتّى تشققت قدماه، فقيل له: يا رسول الله، أتصنع هذا، وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال: (أفلا أكون عبدا شكورا)([18])
فجاهد نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ بكثرة الذكر والدعاء والمناجاة، وكل أعمال الخير، وجاهدها في حضور قلبك مع الله، وسترى كيف ينقلك الله تعالى، وبمقدار صدقك من دركات الغواية إلى درجات الهداية، وكيف يمن عليك بعد ذلك بإزالة كل أنواع التعب والمشقة التي تشعر بها أثناء مجاهدتك، ليبدلك بدلها حلاوة تجدها في قلبك.
وقد روي عن الكثير من الصالحين من التصريحات ما يدل على ذلك، فقد قيل لبعض المداومين على قيام الليل، والحريصين عليه([19]): كيف أنت واللّيل؟ قال: (ما رأيته قطّ يريني وجهه ثمّ ينصرف وما تأمّلته بعد)
وقال آخر: (أنا واللّيل فرسا رهان مرّة يسبقني إلى الفجر ومرّة يقطعني عن الفكر)
وقال آخر: (ساعة أنا فيها بين حالين أفرح بظلمته إذا جاء وأغتمّ بفجره إذا طلع ما تمّ فرحي به قطّ)
وقال آخر: (منذ أربعين سنة ما أحزنني شي ء سوى طلوع الفجر)
وقال آخر: (إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربّي وإذا طلعت حزنت لدخول الناس عليّ)
وقال آخر: (أهل اللّيل في ليلهم ألذّ من أهل اللّهو في لهوهم، ولو لا اللّيل ما أحببت البقاء في الدّنيا)
وقال آخر: (لو عوّض اللّه تعالى أهل اللّيل من ثواب أعمالهم ما يجدونه من اللّذّة لكان ذلك أكثر من أعمالهم)
وقال آخر: (ليس في الدّنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنّة إلّا ما يجده أهل التملّق في قلوبهم باللّيل من حلاوة المناجاة)
وقال آخر: (لذّة المناجاة ليس من الدّنيا، إنّما هو من الجنّة أظهرها اللّه لأوليائه لا يجدها سواهم)
وقال آخر: (ما بقي من لذّات الدّنيا إلّا ثلاث: قيام اللّيل، ولقاء الإخوان والصلاة في جماعة)
وقال آخر يصف فضل الله على هذا النوع من المجاهدين لأنفسهم: (إنّ اللّه ينظر بالأسحار إلى قلوب المتيقّظين فيملؤها نورا فترد الفوائد على قلوبهم فتستنير، ثمّ ينتشر من قلوبهم العوافي إلى قلوب الغافلين)
وهذا كله فضل من الله تعالى
على عباده الصادقين معه، إذ أنه لا يكتفي بمكافأتهم في الآخرة، وإنما يكافئهم في
الدنيا، فضلا منه وكرما، وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه: (إنّ لي
عبادا من عبادي يحبّوني واحبّهم، ويشتاقون إليّ وأشتاق إليهم، ويذكروني وأذكرهم،
وينظرون إليّ وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عنهم مقتّك)، قال: يا
ربّ وما علامتهم؟ قال: (يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه ويحنّون إلى
غروب الشمس كما يحنّ الطير إلى أوكارها، فإذا جنّهم اللّيل واختلط الظلام وخلا كلّ
حبيب بحبيبه نصبوا لي أقدامهم، وافترشوا لي وجوههم، وناجوني بكلامي وتملّقوني
بإنعامي، فبين صارخ وباكي، وبين متأوّه وشاك، بعيني ما يتحمّلون من أجلي وبسمعي ما
يشتكون من حبّي، أوّل ما أعطيهم أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عنّي كما أخبر
عنهم، والثانية لو كانت السماوات السبع والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللتها
لهم، والثالثة أقبل بوجهي عليهم أ فترى من أقبلت بوجهي عليه أ يعلم أحد ما أريد أن
أعطيه؟)([20])
([1]) معاني الاخبار 160، أمالي الصدوق 279.
([2]) رواه البخاري.
([3]) بحار الأنوار: 67/79، وعدة الداعي .
([4]) نهج البلاغة، رقم 174 .
([5]) أبو داود(4744) والترمذي(2563) وأصله في الصحيحين، انظر صحيح مسلم رقم(2822، 2823)
([6]) بحار الأنوار: 67/78، والتحميص .
([7]) بحار الأنوار: 67/74، والخصال 1/5 .
([8] ) الكافي ج 2 ص 335.
([9])معاني الأخبار ص195 .
([10])أمالي الطوسي 1/117 .
([11]) نهج البلاغة، رقم 449 .
([12]) الكلام ليحي بن معاذ الرازي، إحياء علوم الدين(3/ 66)
([13]) إحياء علوم الدين(3/ 71)
([14]) إحياء علوم الدين(3/ 67- 69)
([15] ) رواه مسلم (2/ 52) (489)، وأبو داود رقم (1320)، و النسائي 2/ 227.
([16]) النسائي(6/ 21- 22)
([17]) الترمذي(2616)
([18]) البخاري [فتح الباري]، 8(4837) ومسلم(2820)
([19]) انظر هذه الروايات في المحجة البيضاء فى تهذيب الاحياء، ج 2، ص: 398.
([20]) إحياء علوم الدين (1/ 358)