المثال السابع

المثال السابع:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا، وأدركت خطورته.. فهات المثال السابع.

قال الهندي: المثال السابع – سيدي- هو دفاع ابن تيمية عن الرؤية الحسية لله، أي رؤيته رؤية حسية كرؤية أي جسم من الأجسام.. وذلك يقتضي التجسيم المحض.

قال القاضي: قبل أن تحدثني عن رأي ابن تيمية ومدرسته في المسألة.. حدثني عن موقف المنزهة من الرؤية.

قال الهندي: المنزهة – سيدي القاضي – متفقون على استحالة الرؤية الحسية لله، لأن الرؤية الحسية لا تكون إلا للأجسام، وتعالى الله أن يكون كذلك.. وهو ما ينص عليه صراحه قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]

قال القاضي: ولكن سمعت عن اختلافهم في ذلك.. وأن بعضهم يقول بإمكانية الرؤية.

قال الهندي: أجل– سيدي القاضي – ولكن الرؤية التي يقصدها هؤلاء تختلف تماما عن الرؤية التي يقصدها ابن تيمية.. بل إني بحثت في المسألة، فوجدت أن الخلاف فيها بين المنزهة لا يعدو أن يكون خلافا لفظيا.. لأن الرؤية القلبية أو العرفانية التي يقصدها المنزهة يتفق فيها الجميع.

وقد قال الغزالي – وهو من أئمة المنزهة – يوضح المراد بهذه الرؤية: (إنما أنكر الخصم الرؤية لأنه لم يفهم ما تريده بالرؤية ولم يحصل معناها على التحقيق، وظن أنا نريد بها حالة تساوي الحالة التي يدركها الرأي عند النظر إلى الأجسام والألوان وهيهات! فنحن نعترف باستحالة ذلك في حق الله سبحانه، ولكن ينبغي أن نحصل معنى هذا اللفظ في الموضع المتفق، ونسبكه ثم نحذف منه ما يستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، فإن نفي من معانيه معنى لم يستحل في حق الله سبحانه وتعالى وأمكن أن يسمى ذلك المعنى رؤية حقيقة، أثبتناه في حق الله سبحانه وقضينا بأنه مرئي حقيقة، وإن لم يكى إطلاق اسم الرؤية عليه إلا بالمجاز أطلقنا اللفظ عليه بإذن الشرع واعتقدنا المعنى كما دل عليه العقل)([1])

ثم بين أن المراد بالرؤية في أصلها أعم من أن تنحصر في العين أو أن تكون رؤية حسية، فقال: (وتحصيله، أن الرؤية تدل على معنى له محل وهو العين، وله متعلق وهو اللون والقدر والجسم وسائر المرئيات، فلننظر إلى حقيقة معناه ومحله، وإلى متعلقه ولنتأمل أن الركن من جملتها في إطلاق هذا الاسم ما هو، فنقول: أما المحل فليس بركن في صحة هذه التسمية، فإن الحالة التي ندركها بالعين من المرئي لو أدركناها بالقلب أو بالجبهة مثلاً لكنا نقول قد رأينا الشيء وأبصرناه وصدق كلامنا، فإن العين محل وآلة لا تراد لعينها بل لتحل فيه هذه الحالة، فحيث حلت الحالة تمت الحقيقة وصح الاسم.. ولنا أن نقول علمنا بقلبنا أو بدماغنا إن أدركنا الشيء بالقلب، أو بالدماغ إن أدركنا الشيء بالدماغ، وكذلك إن أبصرنا بالقلب أو بالجبهة أو بالعين.. وأما المتعلق بعينه فليس ركناً في إطلاق هذا الاسم وثبوت هذه الحقيقة. فإن الرؤية لو كانت رؤية لتعلقها بالسواد لما كان المتعلق بالبياض رؤية، ولو كان لتعلقها باللون لما كان المتعلق بالحركة رؤية، ولو كان لتعلقها بالعرض لما كان المتعلق بالجسم رؤية، فدل أن خصوص صفات المتعلق ليس ركناً لوجود هذه الحقيقة، وإطلاق هذا الاسم، بل الركن فيه من حيث أنه صفة متعلقة أن يكون لها متعلق موجود؛ أي موجود كان وأي ذات كان)([2])

وبعد أن بين بطلان انحصار الرؤية في الحس بين المتعلق الحقيقي للرؤية، فقال: (فإذاً الركن الذي الاسم مطلق عليه هو الأمر الثالث وهو حقيقة المعنى من غير التفات إلى محله ومتعلقه، فلنبحث عن الحقيقة ما هي، ولا حقيقة لها إلا أنها نوع إدراك هو كمال ومزيد كشف بالاضافة إلى التخيل، فإنا نرى الصديق مثلاً ثم نغمض العين فتكون صورة الصديق حاضرة في دماغنا على سبيل التخيل والتصور، ولكنا لو فتحنا البصر أدركنا تفرقته ولا ترجع تلك التفرقة إلى إدراك صورة أخرى مخالفة لما كانت في الخيال بل الصورة المبصرة مطابقة للمتخيلة من غير فرق وليس بينهما افتراق، إلا أن هذه الحالة الثانية كالاستكمال لحالة التخيل، وكالكشف لها، فتحدث فيها صورة الصديق عند فتح البصر حدوثاً أوضح وأتم وأكمل من الصورة الجارية في الخيال. والحادثة في البصر بعينها تطابق بيان الصورة الحادثة في الخيال، فإذاً التخيل نوع إدراك على رتبة، ووراءه رتبة أخرى هي أتم منه في الوضوح والكشف، بل هي كالتكميل له، فنسمي هذا الاستكمال بالاضافة إلى الخيال رؤية وإبصاراً)([3])

وبناء على هذا بين أن المراد برؤية الله تعالى عند المنزهة هي هذا النوع من الرؤية، قال: (وكذا من الأشياء ما نعلمه ولا نتخيله وهو ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وكل ما لا صورة له، أي لا لون له ولا قدر مثل القدرة والعلم والعشق والإبصار والخيال؛ فإن هذه أمور نعلمها ولا نتخيلها والعلم بها نوع إدراك فلننظر هل يحيل العقل أن يكون لهذا الادراك مزيد استكمال نسبته إليه نسبة الإبصار إلى التخيل؛ فإن كان ذلك ممكناً سمينا ذلك الكشف والاستكمال بالاضافة إلى العلم رؤية، كما سميناه بالاضافة إلى التخيل رؤية. ومعلوم أن تقدير هذا الاستكمال في الاستيضاح والاستكشاف غير محال في الموجودات المعلومة التي ليست متخيلة كالعلم والقدرة وغيرهما، وكذا في ذات الله سبحانه وصفاته، بل نكاد ندرك ضرورة من الطبع أنه يتقاضى طلب مزيد استيضاح في ذات الله وصفاته وفي ذوات هذه المعاني المعلومة كلها.. فنحن نقول إن ذلك غير محال فإنه لا محيل له بل العقل دليل على إمكانه بل على استدعاء الطبع له)([4])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول فيما ذكره؟

قلت: أرى سيدي القاضي أن تسأل الميلاني، فهو من الشيعة الإمامية، وهم من المعدودين عند المتكلمين في الفرق من المنكرين للرؤية.. فأهل مكة أدرى بشعابها.

طلب القاضي من الميلاني أن يقوم ويحدثه عن موقف الإمامية من الرؤية، ووجه الخلاف بينهم وبين غيرهم في ذلك، فقام، وقال: إن ما ذكره الغزالي هو نفسه ما ذكره علماؤنا وأئمتنا.. فهذا الصدوق يفسر الرؤية القلبية، فيقول: (ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار: العلم، وذلك أن الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات، فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه، ما يزول به الشكوك، وتعلم حقيقة قدرة الله عز وجل، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22]، فمعنى ما روى في الحديث أنه عز وجل يرى أي يعلم علما يقينيا كقوله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ [الفرقان: 45]، وقوله: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ ﴾ [البقرة: 258] وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل: 1]، وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين)([5])

ويقول العلامة الطباطبائي: (إنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية، وهي نوع شعور في الإنسان، يشعر بالشيء بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، وفي ضوء ذلك إن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل، بل يجد وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجره إلى الغفلة عنه اشتغاله بنفسه ومعاصيه التي اكتسبها، والذي يتجلى من كلامه سبحانه إن هذا العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة، فهناك مواطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية وهو سالك لطريق اللقاء فهو بعد في طريق هذا العلم لم يتم له حتى يلقى ربه، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]، فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه وسماه رؤية ولقاء، ولا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز، والقرآن أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عن الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل، فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشئ بنفسه حتى يكشف عنه في الإسلام، فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية)([6])

وهكذا نجد أن ما ورد عن أئمتنا في نفي الرؤية هو نفي الرؤية الحسية، أما الرؤية القلبية، فلا أحد منهم يخالف في إمكانها.

فنحن نروي أن ذعلب اليماني سأل أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أفأعبد ما لا أرى؟! قال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان)([7]

وأخرج الصدوق عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن ع: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربه عز وجل، فقال: رآه بقلبه، أما سمعت الله عز وجل يقول: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾ [النجم: 11]، أي لم يره بالبصر، ولكن رآه بالفؤاد.

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: الآن، وبعد أن استوعبنا الموضوع جيدا حدثنا عن موقف ابن تيمية.. وما وجه التهمة له في ذلك؟

قال الهندي: المتأمل في كلام ابن تيمية وتوسعه في الرؤية يدل على أن الله تعالى عنده يرى كما ترى الأجسام، بل يرى بصورته التي لا تختلف عن صورة الإنسان، وقد أورد في ذلك الآثار الكثيرة عن سلفه.. ولكن المشكلة لا تكمن هنا فقط، بل تكمن في موقفه ممن أنكر هذا النوع من الرؤية، فقد حكم عليهم بالكفر، مع أنهم يشكلون جميع المسلمين ما عدا المدرسة التي ينتمي إليها ابن تيمية.

وقد قال في رسالة له إلى أهل البحرين: (وإنما المهم الذي يجب على كل مسلم اعتقاده: أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة وبعد ما يدخلون الجنة على ما تواترت به الأحاديث.. والذي عليه جمهور السلف أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر؛ فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر)([8])

 ثم أحال إلى الكتب التي تذكر الرؤية بتفاصيل حسية كثيرة، فقال: (والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة قد دون العلماء فيها كتبا مثل: كتاب الرؤية للدارقطني ولأبي نعيم وللآجري؛ وذكرها المصنفون في السنة كابن بطة واللالكائي وابن شاهين وقبلهم عبد الله بن أحمد بن حنبل وحنبل بن إسحاق والخلال والطبراني وغيرهم) ([9])

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟

قلت: صدق الهندي سيدي، فكتب ابن تيمية مملوءة بالروايات التي تجعل الرؤية رؤية حسية، ومنها هذه الرواية المشحونة بالتجسيم ولوازمه: (وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم فيقولون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه؛ فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيعرفونه)([10])

لكن المشكلة – كما أرى سيدي- ليست في هذا، إنما في تكفير من ينكر هذا أو يوجهه التوجيه المناسب تعظيما وتنزيها لله.. فابن تيمية ومدرسته يشنون عليهم حربا شعواء.

وقد أفتى عبد العزيز بن باز من سأله عن جواز الاقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية في يوم القيامة، فقال: (من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لا يصلى خلفه، وهو كافر عند أهل السنة والجماعة)([11])، ونقل عن الطبري وغيره أنه قيل لمالك: إن قوما يزعمون أن الله لا يرى يوم القيامة، فقال مالك: السيف السيف.

وهكذا نجد أئمة السلفية في كل العصور يكفرون منكر الرؤية الحسية، وهم يذلك يكفرون الأمة جميعا ما عداهم.

فقد رووا عن أبي بكر المروزي: من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر، وقال: من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي، والجهمي كافر.

ورووا عن أحمد بن حنبل: الرؤية من كذب بها فهو زنديق، وقال: من زعم أن الله لا يرى فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على الله أمره، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.


([1])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 44).

([2])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 44)

([3])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 45)

([4])  الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي (ص: 45)

([5])  الصدوق، كتاب التوحيد: 120.

([6])  الطباطبائي، الميزان 8: 252 – 253.

([7])  كتاب التوحيد باب (5) باب نفي الرؤية وتأويل الآيات فيها ح 2.

([8])  مجموع الفتاوى (6/ 485).

([9])  مجموع الفتاوى (6/ 485).

([10])  مجموع الفتاوى (6/ 491).

([11])  الفتوى الصادرة في 8 / 0741 ه‍ المرقم 717 / 2.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *