الحج المبرور

الحج المبرور

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحج وما يرتبط به من العمرة والزيارة، والمقاصد المرتبطة بها، وعلاقتها بالتزكية والترقية، وكيفية تحقق ذلك.

وذكرت لي بأسف تلك التشويهات التي يعود بها بعض الحجاج حين يكتفي من حجه بمئات الصور عن نفسه، وهو يطوف، أو يلبي، أو يستلم الحجر الأسود، أو يرفع يديه بالدعاء، متوهما أنه بذلك ضمن جنان الله الواسعة، وأنه عاد إلى فطرته الأصلية نقيا من كل الذنوب، ممتلئا بكل المكارم، مع أن واقع الحال لا يدل على ذلك.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الحج من أعظم المدارس التربوية، التي فرضها الله تعالى على كل الأمم، لما فيه من مقاصد نفسية واجتماعية لا يمكن أن تتحقق من دونه.

وهو مع ذلك ـ مثل سائر المدارس ـ عرضة لتلاعب الشيطان والأهواء، لتحويله من مدرسة تربوية وإصلاحية للنفس والمجتمع إلى أغراض أخرى تخالف الشريعة، وتعمل على عكس مقاصدها.

ولهذا ورد في النصوص المقدسة التفريق بين كلا النوعين من الحج.. الحج الشرعي الذي يهذب النفس ويزكيها، والحج الذي لا يزيدها إلا ضلالا وانحرافا، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (الحجّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة، فقيل له: يا رسول الله ما برّ الحجّ؟ قال: طيب الكلام وإطعام الطعام)([1]

فهذا الحديث يشير إلى أن الحج الشرعي الصحيح هو الحج المرتبط بالبر والتقوى، والذي من مظاهره ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الكرم والكلام الطيب.

ولهذا قرن الله تعالى الأمر بالحج بالنهي عما يضاده؛ فقال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]

ولذلك؛ فإن على من يريد الصدق في حجه، والاستفادة منه أن يعرف مقاصده التي شرع من أجلها، وقد عبر عن بعضها الإمام الصادق لمن سأله ساخرا: (إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، مَن فكّر في هذا أو قدّر، علم أنّ هذا فعلٌ أسّسه غير حكيم ولا ذي نظر)

فقال له الإمام الصادق: (هذا بيتٌ استعبد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته، وقد جعله محل الأنبياء وقبلة للمصلّين له، فهو شعبةٌ من رضوانه، وطريقٌ تؤدي إلى غفرانه، منصوبٌ على استواء الكمال، ومجتمع العظمة والجلال، وأحقّ من أطيع فيما أمر وانتهى عمّا نهى عنه وزجر الله المنشيء للأرواح والصور)([2])

وقال لمن سأله عن العلة التي من أجلها كلف الله العباد الحج والطواف بالبيت: (إن الله عزوجل خلق الخلق لا لعلة إلا أنه شاء ففعل فخلقهم إلى وقت مؤجل، وأمرهم ونهاهم مايكون من أمر الطاعة في الدين ومصلحتهم من أمر دنياهم فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمال، ولتعرف آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعرف أخباره، ويذكر ولا ينسى، ولو كان كل قوم إنما يتكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقط الجلب والارباح، وعميت الاخبار ولم يقفوا على ذلك فذلك علة الحج) ([3])

ومثله قال الإمام الرضا: (علّة الحجّ الوفادة إلى الله عزّ وجلّ، وطلب الزيادة، والخروج من كلّ ما اقترف، وليكون تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل، وما فيه من استخراج الأموال، وتعب الأبدان، وحظرها عن الشهوات واللذات، والتقرّب في العبادة إلى الله عزّ وجلّ، والخضوع والاستكانة والذلّ، شاخصاً في الحرّ والبرد والأمن والخوف، ثابتاً في ذلك دائماً، وما في ذلك لجميع الخلق من المنافع والرغبة والرهبة إلى الله عزّ وجلّ، ومنه ترك قساوة القلب، وخساسة الأنفس، ونسيان الذكر، وانقطاع الرجاء والأمل، وتجديد الحقوق، وحظر الأنفس عن الفساد، ومنفعة مَن في المشرق والمغرب، ومَن في البر والبحر، وممن يحجّ وممن لا يحجّ من تاجرٍ وجالبٍ وبايعٍ ومشترٍ وكاتبٍ ومسكينٍ، وقضاء حوائج أهل الأطراف، والمواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، كذلك ليشهدوا منافع لهم)([4])

إذا عرفت هذه المقاصد العظيمة للحج، والتي نصت عليها النصوص المقدسة، وفصلها أئمة الهدى؛ فاعلم أن الحج المبرور لا يكون كذلك إلا بتوفر شرطين:

أولهما: تزكيته وتطهيره من كل ما يسيء إليه، أو يضاد مقاصده.

وثانيها: الاستفادة من شعائره ومعانيها في ترقية النفس والعروج بها إلى محال الكمال المهيئة لها.

الحج والتزكية:

أول ما عليك معرفته ـ أيها المريد الصادق ـ بخصوص الحج أنه مدرسة خاصة بمن تسمح له ظروفه بذلك، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، أما من لم يستطع، فقد هيأ الله تعالى ـ بكرمه ولطفه ـ له من المدارس التربوية الأخرى ما يعوض ما فقده من هذه المدرسة.

ولهذا لا تلتفت لتلك المبالغات الكثيرة التي يقع فيها من لم يعرف مقاصد الدين، بتوهمه أن الإكثار من الحج والعمرة مقصود لذاته، وأنه أشرف الأعمال، ولو أدى ذلك إلى التقصير في جوانب أخرى من الدين، ومن أهمها الجوانب الاجتماعية؛ فلا يصح أن يكرر المؤمن الحج والعمرة، ويصرف فيهما الأموال الكثيرة، ويترك الفقراء والمساكين، أو الجهات التي هي أولى بنفقته.

ومما يروى في ذلك أن بعضهم عاد من الحج؛ فلقيه الإمام الصادق، فقال: (أتدري ما للحاجّ من الثواب؟.. إنّ العبد إذا طاف بهذا البيت أسبوعاً، وصلّى ركعتيه، وسعى بين الصفا والمروة، كتب الله له ستة آلاف حسنة، وحطّ عنه ستة آلاف سيئة، ورفع له ستة آلاف درجة، وقضى له ستة آلاف حاجة)، فقال الرجل: جُعلت فداك.. إنّ هذا لكثير)، فقال له الإمام الصادق: (أفلا أخبرك بما هو أكثر من ذلك؟.. لَقضاءُ حاجة امرئ مؤمنٍ أفضل من حجّة وحجّة وحجّة، حتى عدّ عشر حجج) ([5])

ومما يروى في ذلك أيضا أن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث الحافي، فقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء، فقال له كم أعددت للنفقة؟ فقال: ألفي درهم، قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدا أو اشتياقا إلى البيت، أو ابتغاء مرضاة الله تعالى؟ قال: ابتغاء مرضاة الله، قال: إن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك، وتنفق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى، أتفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: (اذهب فأعطها عشرة أنفس: مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك لتعطيها واحدا فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم، وإغاثة الملهوف، وكشف الضر، وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام، قم فأخرجها كما أمرتك)([6])

ثم التفت بشر للرجل، فوجده ملامحه تدل على أنه غير مقتنع بما قال؛ فقال له: (قل لنا ما في قلبك)؛ فقال: (يا أبا نصر، سفري أقوى في قلبي)، فتبسم بشر، ثم قال له ـ مفسرا سر تلك الأشواق الكاذبة ـ: (المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات، اقتضت النفس أن تقضي به وطرا؛ فأظهرت الأعمال الصالحات، وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين) ([7])

ومثل ذلك ما يروى عن بعض الصالحين أنه خرج إلى الحج؛ فاجتاز بعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على المزبلة، وسار أصحابه أمامه، وتخلف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة، وأخذت ذلك الطائر الميت، فاستحيت أولا، ثم قالت: (أنا وأمي هنا وليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وكان لنا والد ذو مال عظيم فأخذ ماله، وقتل لسبب من الأسباب، ولم يبق عندنا شيء نتبلغ به أو نقتات)، وعندما سمع ابن المبارك بذلك دمعت عيناه، وأمر برد الأحمال والمؤونة للحج، وقال لوكيله: (كم معك من النفقة)، قال: ألف دينار، فقال له: (ابق لنا عشرين دينارا تكفينا لإيابنا، وأعط الباقي إلى هذه المرأة المصابة، فوالله لقد أفجعتني بمصيبتها، وأن هذا أفضل عند الله من حجنا)، ثم قفل راجعا ولم يحج ([8]).

ويدل لهذا كله ما روي عن ابن عباس أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأَتاه رجلٌ، فسلم عليه، ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان! أراك مكتئباً حزيناً. قال: نعم يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفلان عليَّ حقُّ وَلاءٍ، وحرمةِ صاحبِ هذا القبرِ ما أَقدر عليه، قال ابن عباس: أَفلا أَكلمه فيك؟ فقال: إنْ أحببتَ. قال: فانتعلَ ابنُ عباسٍ، ثم خرجَ من المسجدِ، فقال له الرجل: أنسِيتَ ما كنت فيه؟ قال: (لا، ولكني سمعتُ صاحبَ هذا القبر صلى الله عليه وآله وسلم والعهدُ به قريبٌ -فدمعت عيناه- وهو يقول: (من مشى في حاجة أُخيه وبلغَ فيها؛ كان خيراً له من اعتكاف عشرِ سنين، ومن اعتكفَ يوماً ابتغاءَ وجه الله تعالى؛ جعل الله بينه وبينَ النار ثلاث خنادق كل خندق، أَبعد مما بين الخافقين)([9])

هذا أول ما على الحاج معرفته ـ أيها المريد الصادق ـ حتى لا يقع في عبادة نفسه وهواه؛ فيصرف الأموال التي هي أموال الله في غير محلها الصحيح..

ولهذا فإن أمثال هؤلاء الذين يضعون أموالهم في محالها الصحيحة سيعوضهم الله من الأجر والثواب والتزكية والترقية ما يسد ذلك الذي تركوه من أجله، ومما يروى في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (من صلى الغداة في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة)([10])

أما غيرهم، ممن وصفت لي بعض حالهم، فقد أشار إليهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان آخر الزّمان خرج الناس للحجّ أربعة أصناف سلاطينهم للنزهة، وأغنياؤهم للتجارة، وفقراؤهم للمسألة، وقرّاؤهم للسمعة) ([11])

ووصفهم عبد الله بن مسعود فقال: (في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر، ويبسط لهم في الزرق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه)([12])

وهذا لا يعني ـ أيها المريد الصادق ـ أن يترك المؤمن الحج الذي وجب عليه، والذي هو في استطاعته؛ والذي يتحقق بحجة واحدة في العمر؛ فذلك شأن آخر، ولكن مع ذلك يحتاج إلى أن ينظر في كل ما يرتبط بحجه، واستطاعته، وآثارها على نفسه وأهله.. فالله تعالى لم يكلف الحاج بأن يفرط في كل الحقوق الواجبة عليه من أجل زيارة بيته.

ولهذا، فإن أول واجب في الحج مراعاة النفقة، وكونها من حلال؛ فلا يمكن أن يزكي الحج شخصا أداه بمال حرام، كما قال الشاعر:

إذا حججت بمال أصله سحت… فما حججت ولكن حجت العير

وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمل جهازه على راحتله، وقال: (هذه حجة لارياء فيها ولا سمعة)، ثم قال: (من تجهز وفي جهازه علم حرام لم يقبل الله منه الحج) ([13])

وقال: (إذا خرج الخارج حاجا بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز، ونادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحجك مبرور غير مأزور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور) ([14])

وقال الإمام الباقر: (من أصاب مالا من أربع لم يقبل منه في أربع: من أصاب مالا من غلول أورياء أو خيانة أو سرقة لم يقبل منه في زكاة ولا في صدقة ولا في حج ولا في عمرة) ([15])

وقال: (لايقبل الله عزوجل حجا ولا عمرة من مال حرام) ([16])

ومما يدخل في ذلك إعانة الظلمة بالحج والعمرة، وقد أفتى بعض العلماء في الصادّين عن المسجد الحرام من أمراء مكّة والأعراب المترصّدين في الطرق، والذين كانوا ينتشرون في زمانه، بأنّ (تسليم المال إليهم إعانة على الظلم، وتيسير لأسبابه عليهم، وهو كالإعانة بالنفس؛ فليتلطّف في حيلة الخلاص فإن لم يقدر فإنّ ترك التنفّل بالحجّ والرجوع عن الطريق أفضل من إعانة الظلمة فإنّ هذه بدعة أحدثت، وفي الانقياد لها ما يجعلها سنّة مطّردة وفيه ذلّ وصغار على المسلمين ببذل جزية، ولا معنى لقول القائل: إنّ ذلك يؤخذ منّي وأنا مضطرّ فإنّه لو قعد في البيت أو رجع من الطريق لم يؤخذ بل ربما يظهر أسباب الترفّه فيكثر مطالبته ولو كان في زيّ الفقراء لم يطالب فهو الّذي ساق نفسه إلى حالة الاضطرار) ([17])

فإذا ذهب الحاج إلى مناسك الحج؛ فإن عليه للحفاظ على أثر تلك المناسك العظيمة على نفسه ألا يضيع أي لحظة في غير ذكر الله، وفي غير ما هو فيه، وإلا فإنه إن وقع في الرفث والجدل والفسوق، كان حجه وبالا عليه، وقد قال الإمام الباقر في ذلك: (ما يعبأ بمَن يؤمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: (ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وحلمٌ يملك به غضبه، وحسن الصحابة لمَن صحبه)([18])

وقال الإمام الصادق ـ يصف كيفية ذلك ـ: (إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك لله من قبل عزمك من كلّ شاغلٍ وحجاب كلّ حاجبٍ، وفوّض أمورك كلّها إلى خالقك، وتوكّل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، وودّع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوّتك وشبابك ومالك، مخافةَ أن يصير ذلك عدوّاً ووبالاً، واستعدّ استعداد مَن لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراعِ أوقات فرائض الله وسنن نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء، وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثمّ اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع، وأحرم عن كلّ شيءٍ يمنعك من ذكر الله، ويحجبك عن طاعته، ولبّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عزّ وجلّ في دعوتك، متمسّكاً بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش، كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت، وهرول هرباً من هواك، وتبرّياً من جميع حولك وقوّتك، واخرج عن غفلتك وزلاّتك بخروجك إلى منى، ولا تتمنّ ما لا يحلّ لك ولا تستحقّه، واعترف بالخطايا بعرفات، وجدّد عهدك عند الله بوحدانيّته، وتقرّب إلى الله واتّقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل، واذبح حنجرة الهواء والطمع عند الذبيحة، وارمِ الشهوات، والخساسة، والدناءة، والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات، واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم، وزر البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه، واستلم الحجر رضاءً بقسمته وخضوعاً لعزّته، وودّع ما سواه بطواف الوداع، واصف روحك وسرّك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك على الصفان وكن ذا مروّة من الله نقيّاً أوصافك عند المروة، واستقم على شرط حجّتك، ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربّك، وأوجبت له إلى يوم القيامة، واعلم بأنّ الله تعالى لم يفترض الحجّ، ولم يخصّه من جميع الطاعات بالإضافة إلى نفسه ولا شرع نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم سنّة في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه، إلاّ للاستعداد والإشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفصّل بيان السابقة من الدخول في الجنّة أهلها ودخول النار أهلها بمشاهدة مناسك الحجّ من أوّلها إلى آخرها لأولي الألباب وأولي النهّى)([19])

الحج والترقية:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الحج الذي يزكي نفسك ويطهرها، هو نفسه الذي يرقيها، وينمي فيها كل المكارم؛ فلا يمكن أن تزاح مثلبة من مثالب النفس الأمارة إلا وتستبدل بمكرمة من مكارم النفس المطمئنة.

ولتتحقق بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ عليك أن تتعامل مع أركان الحج وسننه ومستحباته بنفس الخشوع الذي تتعامل به مع الصلاة؛ فلا تكتفي بأداء ما كلفت به بظاهرك وجوارحك، بل تشرك معك باطنك وقلبك وكل لطائفك.

وأول ذلك أن تفهم مقاصد الحج، حتى لا تكتفي بالطقوس والرسوم، وتغفل عن المقاصد التي شرع لأجلها، وقد روي أن الإمام الصادق سئل عن علل الطواف وغيره من شعائر الحج؛ فقال: (لأنّ الكعبة بيت الله الحرام وحجابه والمشعر بابه، فلمّا أن قصده الزائرون وقفهم بالباب حتى أذن لهم بالدخول، ثم وقّفهم بالحجاب الثاني وهو مزدلفة، فلمّا نظر إلى طول تضرّعهم أمرهم بتقريب قربانهم، فلمّا قربوا قربانهم، وقضوا تفثهم، وتطهروا من الذنوب التي كانت لهم حجاباً دونه، أمرهم بالزيارة على طهارة)، فسئل عن سر كراهة الصيام في أيام التشريق، فقال: (لأنّ القوم زوّارُ الله وهم في ضيافته، ولا ينبغي للضيف أن يصوم عند مَن زاره وأضافه)، فسئل: (فالرجل يتعلق بأستار الكعبة ما يعني بذلك ؟)، قال: (مَثَل ذلك مَثَل الرجل يكون بينه وبين الرجل جناية، فيتعلق بثوبه يستخذي له رجاء أن يهب له جرمه)([20])

وروي عن الإمام علي أنه ذكر سر الابتلاء بكون الحج إلى تلك المناطق الصعبة دون غيرها، فقال: (كلّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل، أَلاَ ترون أنّ الله سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات الله عليه إلى الآخرين من هذا العالم بأحجارٍ لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذي جعله الله للناس قياماً، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقلّ نتائق (أي مرتفعات) الدنيا مدراً، وأضيق بطون الأودية قطراً، بين جبالٍ خشنةٍ، ورمالٍ دمثةٍ (أي لينة)، وعيون وشلة (أي قليلة الماء)، وقرى منقطعة، لا يزكو بها خفٌّ (للجمال) ولا حافرٌ (للخيل والحمار) ولا ظلفٌ (للبقر والغنم)، ثمّ أمر سبحانه آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، وغاية لملقى رحالهم، تهوي إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار سحيقة، ومهاوي فجاج عميقة، وجزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا، يهلّون لله حوله، ويرملون (أي يهرولون) على أقدامهم، شعثاً غبراً له، قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم، وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم، ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً، وتمحيصاً بليغاً، جعله الله تعالى سبباً لرحمته، ووصلة إلى جنته، ولو أراد الله سبحانه أن يضع بيته الحرام، ومشاعره العظام بين جناتٍ وأنهارٍ، وسهلٍ وقرار جمّ الأشجار، داني الثمار، ملتفّ البنى، متّصل القرى، بين برة سمراء، وروضةٍ خضراء، وأرياف محدقة، وعراصٍ مغدقة، وزروعٍ ناضرة، وطرقٍ عامرة، لكان قد صغّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء.. ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبّدهم بألوان المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللا لعفوه)([21])

وبعد هذا عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تؤدي مناسك الحج بقلبك وروحك كما تؤديها بجوارحك، فلكل شعيرة مشاعرها الخاصة بها، والتي إن فهمت مقاصدها وأسرارها، ترقيت في معارج العرفان، ولم تبق مسجونا للحركات التي لا تعرف لها أي معنى.

وسأسوق لك هنا بعض ما ذكره الحكماء من مشاعر حول كل شعيرة من شعائر الحج، وهو لا يعني أنها المشاعر الوحيدة التي لا ينبغي أن تستشعر غيرها، بل يمكنك أن تستشعر غيرها بحسب مرتبتك من السلوك إلى الله تعالى.

وأول ذلك الإحرام والتلبية بالميقات؛ فتذكر عنده (نداء الخلق بنفخ الصور، وحشرهم من القبور، وازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لنداء الله، ومنقسمين إلى مقرّبين وممقوتين، ومقبولين ومردودين ومردّدين في أوّل الأمر بين الخوف والرجاء تردّد الحاجّ في الميقات حيث لا يدرون أ يتيسّر لهم إتمام الحجّ وقبوله أم لا) ([22])

وعند وقوع البصر على البيت تصور (كأنّك مشاهد لربّ البيت لشدّة تعظيمك، وارج أن يرزقك لقاءه كما رزقك لقاء البيت، واشكر الله على تبليغه إيّاك هذه الرّتبة وإلحاقه إيّاك بزمرة الوافدين إليه، واذكر عند ذلك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنّة آملين لدخولها كافّة، ثمّ انقسامهم إلى مأذونين في الدّخول ومصروفين انقسام الحاجّ إلى مقبولين ومردودين ولا تغفل عن تذكّر أمور الآخرة في شي‏ء ممّا تراه، فإنّ كلّ أحوال الحاجّ دليل على أحوال الآخرة) ([23])

وتذكر عند الطواف بالبيت‏ أنه (صلاة وأحضر قلبك فيه من التعظيم والخوف والرّجاء والمحبّة ما تقوم به في الصلاة، واعلم أنّك في الطواف متشبّه بالملائكة المقرّبين الحافّين حول العرش الطائفين حوله، ولا تظنّنّ أنّ المقصود طواف جسمك بالبيت، بل المقصود طواف قلبك بذكر ربّ البيت حتّى لا يبتدئ الذّكر إلّا به، ولا يختم إلّا به كما يبتدئ الطائف الطواف من البيت ويختم بالبيت، واعلم أنّ الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبيّة وأنّ البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة الّتي لا تشاهد بالبصر وهو في عالم الملكوت كما أنّ البدن مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الّذي لا يشاهد بالبصر وهو في عالم الغيب وأنّ عالم الملك والشهادة مدرجة إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح له الباب) ([24])

وتذكر عند التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم‏ (طلب القرب حبّا وشوقا للبيت ولربّ البيت، وتبرّكا بالمماسّة، ورجاء للتحصّن عن النار في كلّ جزء لاقى البيت، وليكن نيّتك في التعلّق بالستر الإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان كالمذنب المتعلّق بثياب من أذنب إليه، المتضرّع إليه في عفوه عنه، المظهر له أنّه لا ملجأ له منه إلّا إليه، ولا مفزع له إلّا عفوه وكرمه، وأنّه لا يفارق ذيله إلّا بالعفو وبذل الأمن في المستقبل) ([25])

وتذكر عند السعي بين الصفا والمروة (تردّد العبد بفناء دار الملك جائيا وذاهبا مرّة بعد أخرى إظهارا للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة كالّذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الّذي يقضي به الملك في حقّه من قبول أو ردّ، فلا يزال يتردّد على فناء الدّار مرّة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى، وليتذكّر عند تردّده بين الصفا والمروة تردّده بين كفّتي الميزان في عرصات القيامة وليمثّل الصفا بكفّة الحسنات والمروة بكفّة السيئات وليتذكّر تردّده بين الكفّتين ناظرا إلى الرجحان والنقصان مردّدا بين العذاب والغفران) ([26])

وتذكر عند الوقوف بعرفة (ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللّغات، واتّباع الفرق أئمّتهم في التردّدات على المشاعر اقتفاء لهم وسيرا بسيرتهم عرصات القيامة واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمّة واقتفاء كلّ امّة نبيّها وطمعهم في شفاعتهم وتحيّرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الردّ والقبول، وإذا تذكّرت ذلك فألزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين وحقّق رجاءك بالإجابة فالموقف شريف والرّحمة إنّما تصل من حضرة الجلال إلى كافّة الخلق بواسطة القلوب العزيزة من أوتاد الأرض ولا ينفكّ الموقف عن طبقة من الأبدال والأوتاد وطبقات من‏ الصالحين وأرباب القلوب، فإذا اجتمعت هممهم وتجردّت للضّراعة والابتهال قلوبهم وارتفعت إلى الله أيديهم، وامتدّت إليه أعناقهم، وشخصت نحو السماء أبصارهم، مجتمعين بهمّة واحدة على طلب الرّحمة، فلا تظنّنّ أنّه يخيّب أملهم، ويضيّع سعيهم، ويدّخر عنهم رحمه تعمرهم) ([27])

وتذكر عند الوقوف بالمشعر (أنّه قد أقبل عليك مولاك بعد أن كان مدبرا عنك طاردا لك عن بابه، فأذن لك في دخول حرمه فإنّ المشعر من جملة الحرم وعرفة خارجة عنه فقد أشرفت على أبواب الرحمة وهبّت عليك نسمات الرأفة وكسيت خلع القبول بالإذن في دخول حرم الملك) ([28])

وتذكر عند رمي الجمار (الانقياد للأمر إظهارا للرقّ والعبوديّة وانتهاضا لمجرّد الامتثال من غير حظّ للعقل والنفس ثمّ اقصد به التشبّه بإبراهيم عليه السّلام حيث عرض له إبليس عليه اللّعنة في هذا الموضع ليدخل على حجّه شبهة أو فتنة بمعصية فأمره الله أن يرميه بالحجارة طردا له وقطعا لأصله، فإن خطر لك أنّ الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه وأمّا أنا فليس يعرض لي الشيطان فاعلم أنّ هذا الخاطر من الشيطان فإنّه الّذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي ويخيّل إليك أنّه فعل لا فائدة فيه وأنّه يضاهي اللّعب فلم تشتغل به فاطرده عن نفسك بالجدّ والتشمّر في الرمي فيه ترغم أنف الشيطان، واعلم أنّك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره إذ لا يحصل إرغام أنفه إلّا بامتثالك أمر الله تعظيما له بمجرّد الأمر من غير حظّ النفس والعقل فيه) ([29])

وتذكر عند ذبح الهدى‏ (أنّه تقرّب إلى الله بحكم الامتثال، وأكمل الهدي‏ وأجزاءه وارج أن يعتق بكلّ جزء منها جزءا منك من النار، فهكذا ورد الوعد، فكلّما كان الهدي أكثر وأجزاؤه أوفر كان فداؤك من النّار أعمّ) ([30])

وتذكر عند زيارة المدينة المنورة (أنّها البلدة الّتي اختارها الله عزّ وجلّ لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم وجعل إليها هجرته وأنّها داره الّتي فيها شرّع فرائض ربّه وسننه وجاهد عدوّه وظهر بها دينه إلى أن توفّاه الله، ثمّ جعل تربته فيها ثمّ مثّل في نفسك مواقع أقدام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند تردّداته فيها وأنّه ما من موضع قدم تطؤه إلّا وهي موقع قدمه العزيز فلا تضع قدمك عليه إلّا على سكينة ووجل وتذكّر مشيه وتخطّيه في سككها وتصوّر خشوعه وسكينته في المشي وما استودع الله قلبه من عظيم معرفته ورفعه ذكره حتّى قرنه بذكر نفسه وإحباط عمل من هتك حرمته ولو برفع صوته فوق صوته، ثمّ تذكّر ما منّ الله به على الّذين أدركوا صحبته وسعدوا بمشاهدته واستماع كلامه وأعظم تأسّفك على ما فاتك من صحبته وصحبة أصحابه ثمّ اذكر أنّه قد فاتتك رؤيته في الدنيا وأنّك من رؤيته في الآخرة على خطر وأنّك ربما لا تراه إلّا بحسرة وقد حيل بينك وبين قبوله إيّاك لسوء عملك.. فإن تركت حرمة شريعته ولو في دقيقة من الدقائق فلا تأمن أن يحال بينك وبينه بعد ولك عن محجّته، وليعظم مع ذلك رجاؤك أن لا يحول الله بينك وبينه بعد أن رزقك الإيمان وأشخصك من وطنك لأجل زيارته من غير تجارة، ولا حظّ في دنيا بل لمحض محبّتك له وتشوّقك إلى أن تنظر إلى آثاره وإلى حائط قبره إذ سمحت نفسك بالسفر لمجرّد ذلك لما فاتتك رؤيته فما أجدرك بأن ينظر الله إليك بعين الرحمة، فإذا بلغت المسجد فاذكر أنّ فرائض الله تعالى أوّل ما أقيمت في تلك العرصة وأنّها جمعت أفضل خلق الله حيّا وميّتا فليعظم أملك في الله عزّ وجلّ أن يرحمك بدخولك إيّاه، فادخله خاشعا معظّما، وما أجدر هذا المكان بأن يستدعي الخشوع من قلب كلّ مؤمن) ([31])

وتذكر عند زيارة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم‏ أن (تزوره ميّتا كما تزوره حيّا، فلا تقرب من قبره إلّا كما كنت تقرب من شخصه الكريم لو كان حيّا واعلم أنّه عالم بحضورك وقيامك وزيارتك وأنّه يبلغه سلامك وصلواتك فمثّل صورته الكريمة في خيالك موضوعا على اللّحد بإزائك وأحضر عظيم رتبته في قلبك فقد روي عنه عليه السّلام (أنّ الله تعالى وكلّ بقبره ملكا يبلّغه سلام من سلّم عليه من أمّته) ([32]) هذا في حقّ من لم يحضر قبره فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقا إلى لقائه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاتته مشاهدة غرّته الكريمة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلّى عليّ مرّة صلّى الله عليه عشرا)([33]) فهذا جزاؤه في الصلاة عليه بلسانه فكيف بالحضور لزيارته ببدنه، ثمّ ائت المنبر وتوهّم صعود النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المنبر ومثّل في قلبك طلعته البهيّة قائما على المنبر وقد أحدق به المهاجرون والأنصار وهو يحثّهم على طاعة الله بخطبته، وسل الله أن لا يفرّق في القيامة بينك وبينه) ([34])

هذا جوابي على سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على الاستفادة من هذه المدرسة العظيمة من مدارس التزكية والترقية، بالشروط التي اشترطتها الشريعة، لا بالأهواء التي وضعتها الأعراف.

واعلم أن الله تعالى لم يشرعها ليزكي نفوس المؤمنين فقط، وإنما شرعها ليزكي المجتمعات المؤمنة، ويعيدها إلى وحدتها وخيريتها التي ارتضاها الله لها، ولذلك فإن من أهم مقاصد الحج تحقيق الوحدة الإسلامية، ومواجهة الأعداء المتربصين من الداخل والخارج، وقد قال بعض الحكماء يذكر ذلك: (إن من أهم أبعاد فلسفة الحج هو بعده السياسي. الذي تسعى لتغييبه والقضاء عليه جميع الأيدي المجرمة، التي استطاعت للأسف وسائل دعايتها أن تؤثر في المسلمين بحيث بات ينظر أكثر المسلمين إلى الحج على أنه مجرد مراسم عبادية جافّة وفارغة لا تُعنى بقضايا المسلمين. في حين أن الحج ومنذ ولادته، لايقل بعده السياسي أهمية عن بعده العبادي، فالبعد السياسي، بالاضافة إلى سياسيته، هو عبادة بحد ذاته)([35])

ثم بين كيفية تنفيذ هذا البعد على أرض الواقع؛ فيقول: (على المسلمين الوافدين من مختلف البلدان لأداء فريضة الحج خصوصا رجال الدين المحترمين أن يستغلوا فرصة التقائهم هناك، لمناقشة قضايا المسلمين وأوضاعهم. أوضاعهم مع حكوماتهم، وأوضاع حكوماتهم مع القوى الشيطانية الكبرى. أوضاع رجال الدين في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وتعاطيهم مع فلسفة الحج، وفي النهاية أوضاع الشعوب المسلمة بعضها مع بعض. إنها مسائل يجب التطرق إليها ومناقشتها. فالحج لهكذا أمور. ونوعاٌ من التدارس السنوي لمشاكلهم وقضاياهم والسعي لوضع حلولٍ لها ومعالجتها) ([36])

ويرد على الذين ينهون عن الحديث عن السياسة في الحج، ويعتبرون خدما للسلاطين وللاستكبار العالمي؛ فيقول: (وأمّا بالنسبة إلى ما يقوله معممو البلاط ووعاظ السلاطين في المنطقة وغيرها، من أنه يجب عدم تسييس الحج، فإنهم يدينون بذلك رسول الله، ويدينون خلفاء الإسلام وأئمة الهدى. إنهم يجهلون بأن الحج والسفر إلى الحج إنما كان لهكذا أمور. لأجل قيام الناس، ليدرك المسلمون ويعوا مشاكل المسلمين، لترسيخ التفاهم والمودة والإخوة بين المسلمين) ([37])

وهو يعتبر أن أضرار هذا النوع من العلماء أكبر وأخطر من الضرر الذي قام به الاستكبار العالمي، يقول: (المؤسف أن تجد من بين رجال الدين المسلمين من يدينون التدخل في هكذا أمور لا سيما معممي البلاط، الذين أضروا بالإسلام أكثر مما أضرت به أمريكا، لأن هؤلاء يطعنون الإسلام من الخلف ويعزلونه باسم الإسلام وبظاهرٍ إسلامي. إما أمريكا فلا تستطيع ذلك ولهذا تفرض على أمثال هؤلاء فعل ذلك)

ثم يبين أن (الحج الحقيقي والمقبول هو الحج الحي، الحج الصارخ بوجه الظلم والظالمين، الحج الذي يدين جرائم السوفيت وجرائم أمريكا وكل المستكبرين ويتبرأ منهم وممن يواليهم، أمّا أن نذهب إلى الحج ونقوم بأداء مناسكه دون أن نهتم بأمور المسلمين بل على العكس أن نتستر على الجرائم التي تُرتكب ولا نسمح لأحدٍ بالتكلم عما يرتكب بحق المسلمين من جرائم على أيدي القوى الكبرى والحكومات العميلة لها، فإن هذا ليس بحج، أنه صورة بلا معنى)([38])

ومن أهم القضايا التي يبنغي التركيز عليها الدعوة للوحدة بين المسلمين، يقول: (إن الحج الذي يريده الله تبارك وتعالى والإسلام منا، هو أن نؤدي المناسك ونسعى لإيقاظ وتوعية المسلمين الآخرين بالأخطار والتحديات التي تهدد الإسلام والمسلمين، وأن ندعوهم إلى‏ الوحدة والتوحد، ونفهّمهم لماذا ينبغي لأكثر من مليار مسلم أن يبقوا خاضعين لضغوطات القوى الكبرى التي لا تتجاوز عدة مئات من الملايين. إن كل هذه المصائب يعود منشأها إلى حرف المسلمين عن مسار الإسلام الصحيح، لدرجة لا يجرؤ معها علماء المسلمين في جلساتهم أن يدينوا ما يرتكب بحق المسلمين)([39])

ويذكر المشاعر المرتبطة بهذه المعاني عند أداء المناسك؛ فيقول: (مما يجب أن يلتفت اليه الحجاج المحترمون أن مكة المكرمة والمشاهد المشرفة مرآة لأحداث نهضة الأنبياء والإسلام ورسالة النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؛ فتعتبر كل نقطة من هذه الأرض محلًا لنزول وإجلال الأنبياء العظام وجبرائيل الأمين ومذكرة بمشاق ومحن النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم التي تحملها في سبيل الإسلام والبشرية)([40])

ويذكر البعد العملي المتولد من تلك المشاعر الإيمانية العميقة؛ فيقول: (والحضور في هذه الأمكنة المقدسة وأخذ الظروف القاسية للبعثة النبوية بعين الاعتبار يرشدنا إلى ‏عظم المسؤولية التي تقع على عواتقنا للمحافظة على ‏منجزات هذه النهضة والرسالة الالهية؛ فكم أبدى ‏النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى من مثابرة وصمود في تلك الظروف لإرساء دعائم الدين القويم وإمحاق الباطل، ولم ترعبهم تهم وطعن وإهانات (أبي لهب) و(أبي جهل) و(أبي سفيان) وأمثالهم، وواصلوا طريقهم ولم يستسلموا في أحلك الظروف ووطأة الحصار الاقتصادي الشديد في شعب أبي طالب، وشمروا عن سواعد الجد لإبلاغ الرسالة الالهية بعد تحمل الصعاب في مسار دعوة الحق، وأداموا طريق الهداية والرشد بحضورهم في الحروب المتتالية وغير المتكافئة والكفاح إزاء آلاف المؤامرات حيث امتلأت صخور وصحاري وجبال وأزقة وأسواق مكة والمدينة بالشغب والغوغاء، فلو نطقت وكشفت النقاب عن سرّ تحقق قوله تعالى: Pفَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَO [هود: 112] لوقف زائروا بيت الله الحرام على مقدار عناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهدايتنا وبلوغ المسلمين الجنة، ولأدركوا العب‏ء الملقى على ‏كاهل أتباعه) ([41])

هذه ـ أيها المريد الصادق ـ أبعاد الحج المبرور ومقاصده والمشاعر المرتبطة به، وهو ـ بهذه الصفات ـ لا يؤدي دوره في إصلاح نفوس المؤمنين كأفراد فقط، وإنما يصلح المجتمع، ويعيد الأمة إلى جادة صوابها.. ولا يمكن للمؤمن أن تستقيم نفسه على السراط المستقيم، وهو لا ينشغل بحال أمته، ولا بإصلاحها، ولا بحفظ وحدتها، ووصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها.


([1])  مسلم ج 4 ص 107 الحاكم ج 1 ص 483. أحمد ج 3 ص 325 و 334.

([2])أمالي الصدوق ص616 .

([3] )  علل الشرائع ص 405.

([4]) علل الشرائع، ص404.

([5] )  أمالي الصدوق ص493

([6])  إحياء علوم الدين  (3/ 409).

([7])  إحياء علوم الدين  (3/ 409).

([8])  البداية والنهاية (10/ 191)

([9])  رواه الطبراني في الأوسط، والبيهقي ، والحاكم، الترغيب والترهيب للمنذري (2/ 99).

([10])  رواه الترمذي (586)

([11] )  الخطيب في تاريخه، وأبو عثمان الصابوني في كتاب المائتين.

([12])  إحياء علوم الدين (3/ 409).

([13] )  المحاسن ص 88.

([14] )  رواه الطبراني في الأوسط.

([15] )  أمالى الصدوق: 265.

([16] )  أمالى الصدوق: 265.

([17] )  قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد (2/ 194)

([18]) الخصال 1/97 .

([19])مصباح الشريعة ص16 .

([20])  علل الشرائع، ص443 .

([21]) نهج البلاغة، ص170 .

([22]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏2، ص201.

([23]) المرجع السابق، ج‏2، ص201.

([24]) المرجع السابق، ج‏2، ص202.

([25]) المرجع السابق، ج‏2، ص202.

([26]) المرجع السابق، ج‏2، ص203.

([27]) المرجع السابق، ج‏2، ص: 204.

([28]) المرجع السابق، ج‏2، ص: 204.

([29]) المرجع السابق، ج‏2، ص: 204.

([30]) المرجع السابق، ج‏2، ص: 205.

([31]) المرجع السابق، ج‏2، ص: 206.

([32]) النسائي ج 3 ص 43.

([33]) النسائي ج 3 ص 50.

([34]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏2، ص: 206.

([35]) صحيفة الإمام، 18/50.

([36]) المرجع السابق، 18/51.

([37]) المرجع السابق، 18/51.

([38]) المرجع السابق، 18/52.

([39]) المرجع السابق، 18/52.

([40]) المرجع السابق، 20/279.

([41]) المرجع السابق، 20/279.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *