صوم المتقين

صوم المتقين

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الصيام، وسر علاقته بالتقوى التي نص عليها قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وهل كل صيام يمكنه أن يكون كذلك، أم أن هناك شروطا لابد من توفيرها لتحقيق ذلك؟

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الصيام من المدارس التربوية والروحية الكبرى التي أخبر الله تعالى أنه شرعها في جميع الملل، لضرورتها، وأهميتها التربوية.

ذلك أن التواصل مع الله عبر الأذكار والأدعية والصلوات وغيرها، قد لا يكون كافيا في تطهير النفس، وخاصة عند تمردها على صاحبها، لذلك كان الصوم معينا لتلك المدارس في أداء أدوارها التهذيبية والتربوية.

ولهذا جعل الله تعالى الصيام من أنواع التأديب المرتبطة ببعض المخالفات الشرعية التي تتعنت فيها النفس على صاحبها، وتستولي عليه، وتغلبه، كما في حالة ارتكابه لجريمة القتل الخطأ، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92]

وجعله تأديبا للذي لم يهذب لسانه، فراح ينطق بما يخالفه الشرع والطبع، فقال: { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3، 4]

وهكذا ذلك الذي راح ينتهك حرمة شهر رمضان؛ فيفطر فيه، كما نصت على ذلك الكثير من الأحاديث المتفق عليها بين الأمة جميعا.

ففي هذه القضايا جميعا شرط الله تعالى في الصيام أن يكون متتابعا، ولشهرين كاملين، لأن في ذلك تأثيره على النفس بالتخفيف من تسلطها وقهرها لصاحبها.

وسر ذلك يعود إلى أن الشهوات التي يمنع منها الصيام هي المغذي الذي يغذي الأهواء، ويجعل للنفس سلطانا على صاحبها؛ فإذا ما قهرها، وحرمها من تلك الشهوات مدة من الزمن، كان لذلك تأثيره الكبير في الإصلاح؛ خاصة إذا ما ضم إليه ما سبق أن ذكرته لك من معان تدعو إلى الاتصال بالله كالذكر والدعاء والصلاة وقراءة القرآن الكريم وغيرها.

ولهذا ورد في الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى ما يدل على دور الصيام في وقاية النفس من أهوائها، وإبعاد الشيطان عنها، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان فرحةٌ عند فطوره، وفرحةٌ عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك) ([1])

وقد قال بعض الحكماء في تفسير سر نسبة الصوم لله: (إنّما كان الصوم لله ومشرّفا بالنسبة إليه، وإن كانت العبادات كلّها له كما شرّف البيت بالنسبة إليه والأرض كلّها له لمعنيين: أحدهما أنّ الصوم كفّ وترك وهو في نفسه سرّ ليس فيه عمل يشاهد؛ فجميع الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى، والصوم لا يعلمه إلّا الله تعالى؛ فإنّه عمل في الباطن بالصبر المجرّد.. والثاني أنّه قهر لعدوّ الله؛ فإنّ وسيلة الشيطان لعنه الله الشهوات، وإنّما يقوي الشهوات بالأكل والشرب ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدّم فضيّقوا مجاريه بالجوع)‏([2]))؛ فلمّا كان الصوم على الخصوص قمعا للشيطان وسدّا لمسالكه وتضييقا لمجاريه استحقّ التخصيص بالنسبة إلى الله؛ ففي قمع عدوّ الله نصرة لله ونصرة الله للعبد موقوفة على النصرة له.. فالبداية بالجهد من العبد والجزاء بالهداية من الله.. وإنّما التغيير بكسر الشهوات، فهي مرتع الشياطين ومرعاهم فما دامت مخصبة لم ينقطع تردّدهم وما داموا يتردّدون فلا ينكشف للعبد جلال الله وكان محجوبا عن لقائه) ([3])

وما ذكره هذا الحكيم هو الذي أشارت إليه النصوص المقدسة الكثيرة، فالله تعالى أخبر أنه ينصر من ينصره، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، وهذا يدل على أن من يجاهد نفسه بالصوم فرضا أو نافلة، يقوم بنصرة الله، ومحاربة شيطانه؛ فلذلك يستحق نصر الله له.

ومثل ذلك ما ورد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ فالصائم الذي جاهد نفسه في ذات الله ينال ذلك الفضل الإلهي الذي هو الهداية، والتي تشمل التزكية والترقية.

ومثل ذلك ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال: (لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء) ([4])، وهذا يدل على أن الذي يجاهد شيطانه بالصوم يقوم في الحقيقة برفع تلك الحجب التي تحول بينه وبين الملكوت.

ولذلك كله أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بعد الشيطان عن الصائم الصادق في صومه؛ فقال: (ألا أخبركم بشي‏ء إن فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (الصوم يسوّد وجهه، والصّدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والموازرة على العمل الصالح تقطع دابره، والاستغفار يقطع وتينه، ولكلّ شي‏ء زكاة وزكاة الأبدان الصيام) ([5])

وقال: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين) ([6])

وقال: (إذا كان أول ليلة من رمضان غلقت أبواب النار، فلم يفتح منها بابٌ، وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها بابٌ، وينادي مناد: يا باغي الخير هلم وأقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله فيه عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة حتى ينقضي رمضان)([7]

وهذا كله ـ أيها المريد الصادق ـ خاص بالصائمين الصادقين في صومهم؛ فهم الذين تصفد شياطينهم، وتغلق أبواب جهنم عنهم.. أما المرائون، أو الذين يصومون بناء على الأعراف والتقاليد، أو طلبا للصحة والعافية، دون أن تكون لهم نية الصوم لله؛ فإنهم لا تنطبق عليهم تلك الأحاديث، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([8]

وهؤلاء الصادقون في صومهم، المحافظون عليه، هم المستحقون لذلك الجزاء العظيم الذي وهبه الله لهم، والذي لا يتعلق فقط بتطهير نفوسهم وترقيتها، وإنما يتعلق بمصيرهم الأبدي، وسعادتهم الدائمة.

ومن ذلك الجزاء ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (الصائم في عبادة الله، وإن كان نائماً على فراشه، ما لم يغتب مسلماً)([9])، وبقوله: (ما من صائمٍ يحضر قوماً يطعمون إلا سبّحت أعضاؤه، وكانت صلاة الملائكة عليه، وكانت صلاتهم له استغفاراً)([10])

ومنها استجابة الله تعالى لدعائه، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ الله تعالى وكلّ ملائكة بالدّعاء للصائمين، وقال: أخبرني جبريل عن ربّه تعالى ذكره أنّه قال: ما أمرت ملائكتي بالدّعاء لأحد من خلقي إلّا استجبت لهم فيه)‏([11])

وقال: (ثلاثة لا تُرَدّ دَعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم) ([12])

وقال: (إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد) ([13])

بل إن القرآن الكريم أشار إلى ذلك، فقد قال الله تعالى ـ في ضمن آيات الصوم ـ: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]

ومنها ابتعاده عن جهنم بسبب صفاء نفسه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام يوما في سبيل الله باعد الله منه جهنم مسيرة مائة عام)([14])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام يوما فى سبيل الله فريضة باعد الله منه جهنم كما بين السماوات والأرضين، ومن صام يوما تطوعا باعد الله منه جهنم مسيرة ما بين السماء)([15])

ومنها اقترابه من الجنة، وتخصيص باب خاص بالصائمين فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (في الجنة بابٌ يدعى الريان، يدعى له الصائمون، فمن كان من الصائمين دخله، ومن دخله لم يظمأ أبدا)([16])

ومنها مغفرة ذنوب الصائم، وهو ما يدل على دور الصوم في محو آثار الذنوب من النفس، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)([17]

وقال الإمام الصادق: (من صام يوماً في الحرّ فأصاب ظمأ، وكل الله به ألف ملك يمسحون وجهه ويبشّرونه، حتى إذا أفطر قال الله عزّ وجلّ: (ما أطيب ريحك وروحك !..يا ملائكتي، اشهدوا أني قد غفرت له)([18])

وفوق ذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك السرور والسعادة العاجلة التي يجدها الصائم، والتي تساهم في إزالة الكآبة والكرب عنه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (، للصّائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربّه فرح بصومه) ([19]

ومما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً قوله: (يا علي !..ثلاث فرحاتٍ للمؤمن في الدنيا: (لقى الاخوان، والإفطار من الصيام، والتهجّد من آخر الليل)([20])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وعزمت أن تدخل هذه المدرسة التربوية العظيمة؛ فادخل إليها بظاهرك وباطنك، وجوارحك وحقيقتك.. فلا يمكن أن ينال فضل الله إلا من دخل في الصوم كافة، كما يدخل في السلم كافة.. وبذلك يمكن للصيام أن يؤدي وظيفتيه: وظيفة التزكية، ووظيفة الترقية.

الصوم والتزكية:

بما أن الله تعالى جعل الظاهر وسيلة لإصلاح الباطن؛ فابدأ ـ أيها المريد الصادق ـ بمراعاته؛ فإن صدقت في إصلاحه، والاستفادة من الصوم في ذلك، ييسر الله تعالى عليك إصلاح باطنك، بل قد يتولاه عنك.

وإلى هذا النوع من الصوم الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصوم جنةٌ ما لم يخرقها)، قيل: بم يخرقها؟، قال: (بكذب أو غيبة)([21])

وقال: (إذا صمت فليصم سمعك وبصرك وجلدك ـ وعدد أشياء غير ذلك ـ ثم قال: فلا يكون يوم صومك مثل يوم فطرك) ([22])

وقال الإمام علي في بعض خطبه: (الصيام اجتناب المحارم كما يمتنع الرجل من الطعام والشراب.. وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء، حبذا نوم الاكياس وإفطارهم) ([23])

وقال الإمام الصادق: (إذا أصبحت صائما فليصم سمعك وبصرك من الحرام، وجارحتك وجميع أعضائك من القبيح، ودع عنك الهذي وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصيام، والزم ما استطعت من الصمت والسكوت إلا عن ذكر الله، ولاتجعل يوم صومك كيوم فطرك، وإياك والمباشرة والقبل والقهقهة بالضحك، فإن الله مقت ذلك) ([24])

وقال: (إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إنما للصوم شرط يحتاج أن يحفظ حتى يتم الصوم، وهو صمت الداخل أما تسمع ما قالت مريم بنت عمران: { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } [مريم: 26] يعني صمتا؛ فاذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولاتماروا وتكذبوا، ولاتباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغاضبوا، ولاتسابوا، ولا تشاتموا، ولا تفاتروا، ولاتجادلوا، ولا تظلموا، ولاتسافهوا، ولا تضاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة.. والزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق، ومجانبة أهل الشر، واجتنبوا قول الزور والكذب والفري والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة.. وكونوا مشرفين على الآخرة منتظرين لأيامكم، منتظرين لما وعدكم الله متزودين للقاء الله، وعليكم السكينة والوقار والخشوع والخضوع وذل العبيد الخيف من مولاه خيرين خائفين راجين مرعوبين مرهوبين راغبين راهبين قد طهرت القلب من العيوب وتقدست سرائركم من الخبث، ونظفت الجسم من القاذورات، وتبرأت إلى الله من عداه، وواليت الله في صومك بالصمت من جميع الجهات، مما قد نهاك الله عنه في السر والعلانية، وخشيت الله حق خشيته في سرك وعلانيتك، ووهبت نفسك لله في أيام صومك وفرغت قلبك له، ونصبت نفسك له فيما أمرك ودعاك إليه.. فاذا فعلت ذلك كله فأنت صائم لله بحقيقة صومه، صانع له لما أمرك وكلما نقصت منها شيئا فيما بينت لك، فقد نقص من صومك بمقدار ذلك) ([25])

ومما يروى في كتب الأنبياء حول الصيام وآدابه ما جاء في صحف إدريس عليه السلام، فقد روي أنه كتب فيها: (إذا دخلتم في الصيام فطهروا نفوسكم من كل دنس ونجس، وصوموا لله بقلوب خالصة صافيه منزهة عن الأفكار السيئة والهواجس المنكرة، فإن الله سيحبس القلوب اللطخة والنيات المدخولة، ومع صيام أفواهكم من المأكل فلتصم جوارحكم من المآثم فإن الله لا يرضى منكم أن تصوموا من المطاعم فقط، لكن من المناكير كلها، والفواحش بأسرها) ([26])

وكل هذه النصوص وغيرها تشير إلى أنه لا يمكن أن يكون الصوم صحيحا، وهو يقتصر على ما ذهب إليه جماهير الفقهاء من اقتصاره على الأكل والشرب والشهوات المعروفة المحدودة، وأن الصائم مهما ارتكب فيه من الجرائم، لا يضر ذلك بصومه.

وكل ذلك بسبب التفاتهم إلى الصحة الظاهرية السطحية، لا إلى قبول الله للأعمال، والتي وردت النصوص المقدسة الكثيرة تبين عدم قبول أعمال من يقصر في صومه بارتكاب تلك المحرمات.

وقد شبه بعض الحكماء من يفعل ذلك، فقال: (من فهم معنى الصوم وسرّه علم أنّ مثل من كفّ عن الأكل وأفطر بمقارفة الآثام كمن مسح كلّ عضو من أعضائه في الوضوء، وأتى بجميع الآداب والسنن والأذكار، فقد وفق في الفضائل إلّا أنّه ترك المهمّ وهو الغسل، فصلاته مردودة عليه لجهله، ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاءه الواجب غسلها ومسح الواجب مسحه واقتصر على الفرائض، فصلاته صحيحة متقبّلة لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل، ومثل من جمع بينهما كمن جمع بين الأصل والفضل في الوضوء وهو الكمال) [27]

ولهذا أخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الصوم أمانة، فقال: (إنّما الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته) ([28])

وعندما تلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وضع يده على سمعه وبصره، فقال: (السمع أمانة والبصر أمانة) ([29])

ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تعرض لأي موقف يدعوه لانتهاك محارم الله بأن يتذكر صومه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أصبح أحدكم يوما صائما فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائمٌ إني صائمٌ) ([30])

بل صرح بأن من لم يترك الزور الذي يشمل كل المحرمات لا معنى لصيامه، فقال: (من لم يدع قول الزور والجهل والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه) ([31])، وقول الزور يشمل كل قول محرم كالكذب والغيبة والنميمة والسب والشتم وغيرها.

ولذلك ورد في النصوص المقدسة ما يشير إلى أنواع المحرمات، وتأثيرها في الصوم، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (خمس يفطرن الصائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة)([32])

وقد ورد في الحديث ما يؤكد ذلك، فقد روي أن امرأتين صامتا، وأن رجلاً قال: يا رسول الله: إن ههنا امرأتين قد صامتا، وإنهما قد كادتا أن تموتا من العطش. فأعرض عنه، ثم عاد، فقال: يا نبي الله! إنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، فقال: ادعهما. فجاءتا. فجيء بقدح أو عُسٍّ؛ فقال لإحداهما: قيئي. فقاءت قيحاً أو دماً وصديداً ولحماً، حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى: قيئي. فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره، حتى ملأت القدح. ثم قال: (إن هاتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى؛ فجعلتا يأكلان لحوم الناس) ([33])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من اغتاب مسلما بطل صومه، ونقض وضوؤه؛ فإن مات وهو كذلك مات وهو مستحلّ لما حرّم الله)‏([34])

وليس ذلك فقط ما يحفظ للصوم حرمته، ويجعله مدرسة للتقوى، بل إن على الصائم حين إفطاره ألا يقع فيما نهى الله تعالى عنه من الإسراف في الأكل والشرب، كما قال تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف: 31]

وقد ذكر بعض الحكماء ذلك، فقال متعجبا: (كيف يستفاد من الصوم قهر عدوّ الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره، وربما يزيد في ألوان الطعام حتّى استمرّت العادات بأن يدّخر جميع الأطعمة لرمضان فيأكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدّة أشهر، ومعلوم أنّ مقصود الصوم الخوي وكسر الهوى ليقوي النفس على التقوى، وإذا دفعت المعدة ضحوة النهار إلى العشاء حتّى هاجت شهوتها وقويت رغبتها، ثمّ أطعمت من اللّذات وأشبعت زادت لذّتها، وتضاعفت قوّتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها، فروح الصوم وسرّه تضعيف القوى الّتي هي وسائل الشيطان في القود إلى الشرور ولن يحصل ذلك إلّا بالتقليل، وهو أن يأكل أكلة الّتي كان يأكلها كلّ ليلة لو لم يصم، وأمّا إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلا فلم ينتفع بصومه، بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتّى يحسّ بالجوع والعطش، ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كلّ ليلة قدرا من الضعف حتّى يخفّ عليه تهجّده وأوراده، فعسى الشيطان لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء، وليلة القدر عبارة عن اللّيلة الّتي ينكشف فيها شي‏ء من الملكوت.. ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب، ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب حتّى يخلو همّته عن غير الله تعالى وذلك هو الأمر كلّه، ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام) ([35])

الصوم والترقية:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الصوم الذي يزكي النفس ويطهرها، هو نفسه الذي يمكنه أن يرقيها في معارج المعرفة والتواصل مع الله.. ذلك أنه كلما طهرت النفس، كلما كانت أكثر استعدادا لتلقي هبات الهداية الإلهية.

ويشير إلى هذا الدور ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق أنه قال: (إذا صمت فانو بصومك كفّ النفس عن الشهوات، وقطع الهمّة عن خطوات الشيطان، وأنزل نفسك منزلة المرضى لا تشتهي طعاما وشرابا متوقّعا في كلّ لحظة شفاءك من مرض الذّنوب، وطهّر باطنك من كلّ كدر وغفلة وظلمة يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله تعالى.. فالصوم يميت موادّ النفس وشهوة الطبع، وفيه صفاء القلب وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء وزيادة التضرّع والخشوع والبكاء وحبل الالتجاء إلى الله وسبب انكسار الهمّة وتخفيف الحساب وتضعيف الحسنات) ([36])

وقال بعض الحكماء معبرا عن هذه الوظيفة ـ معتبرا القائمين به من خاصة الخاصة ـ: (و أمّا صوم خصوص الخصوص؛ فصوم القلب عن الهمم الدّنيّة والأفكار الدّنيويّة وكفّه عمّا سوى الله بالكلّية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله واليوم الآخر، وبالفكر في الدّنيا إلّا دنيا تراد للدّين فإنّ ذلك زاد الآخرة وليس من الدّنيا)

وبعد كل هذه الآداب ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن تغتر بعملك، وتتوهم أنه قبل منك، بل استغفر ربك، وابق بعد الإفطار معلّقا مضطربا بين الخوف والرجاء، إذ لست تدري أيقبل صومك، فتكون من المقرّبين، أو يردّ عليك، فتكون من الممقوتين.

وقد روي أن الإمام الحسن مرّ بقوم يوم العيد وهم يضحكون فقال: (إنّ الله عزّ وجلّ جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلّف أقوام فخابوا، فالعجب كلّ العجب للضاحك اللاعب في اليوم الّذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه المبطلون، أما والله لو قد كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسي‏ء عن إساءته) ([37])

هذا جوابي على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تدخل هذه المدرسة بفرائضها وسننها، لتؤدي دورها في نفسك تربية وتزكية وترقية، واعلم أن الله تعالى كما يحفظ بها روحك ونفسك، يحفط بها جسدك وحياتك؛ فالله لم يكلفك بهذا التكليف تعذيبا لجسدك، وإنما صحة له، وعافية لحياتك، حتى لا تتسلط عليها جنود الأهواء، ولا تستحوذ عليها الشياطين.

فاحرص على كل ما ورد في الشريعة من الأيام المباركة التي ورد الحث على صيامها، لتنال الأجور العظيمة، وتطهر من الآثام التي تحول بينك وبين الملكوت.


([1]) البخاري (7492)، مسلم (1151) 164.

([2])  البخاري ج 3 ص 62 و أحمد ج 3 ص 156.

([3] )  إحياء علوم الدين (1/ 232)

([4] )  رواه أحمد .

([5] )  الكافي 4: 62.

([6]) البخاري (1898)، مسلم (1079) 2.

([7]) الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، والدارمي (1775)

([8])  رواه البخاري ومسلم.

([9])ثواب الأعمال ص46، أمالي الصدوق ص329 .

([10]) أمالي الصدوق ص305 .

([11])  المحاسن: 72.

([12] )  رواه الترمذي وابن حبان

([13] )  رواه ابن ماجه .

([14]) النسائي 4/175.

([15]) الطبراني 17/119 – 120.

([16]) البخاري (1896)، ومسلم (1152).

([17]) البخاري (38)، مسلم (760).

([18]) ثواب الأعمال ص48، أمالي الصدوق ص349 .

([19] )  البخاري- الفتح 4 (1904)، ومسلم (1151)

([20]) الخصال 1/62 .

([21]) النسائي 4/167– 168، والطبراني في الأوسط، 5/13 (4536)

([22] )  بحار الأنوار (96/ 292)

([23] )  نهج البلاغة، رقم 145  

([24] )  بحار الأنوار (96/ 292)

([25] )  بحار الأنوار (96/ 293)

([26] )  بحار الأنوار (96/ 293)

([27] )  المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج‏2، ص: 137.

([28] )  الخرائطي في مكارم الأخلاق .

([29] )  ابن أبي حاتم والحاكم وابن حبان وأبو داود .

([30] )  رواه البخاري (1894) ومسلم (1151)

([31] )  رواه البخاري (1903) (6075)

([32])  قال العراقي: الحديث أخرجه الازدى في الضعفاء من رواية جابان.

([33] )  رواه ابن أبي شيبة في مسنده (2/177) وأحمد (5/431

([34])  رواه في عقاب الاعمال.

([35] )  إحياء علوم الدين (1/ 235)

([36] )  مصباح الشريعة، ص135.

([37])  الاقبال: 275.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *