المثال الرابع

المثال الرابع:

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا، وأدركت خطورته.. فهات المثال الرابع.

قال الهندي: المثال الرابع يبين لك سيدي كيف حول ابن تيمية الآيات التي تتحدث عن المشركين وضعف أصنامهم إلى آيات تقرر صفات الله سبحانه وتعالى، وهي آيات كثيرة، أكتفي لك بقوله تعالى: ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [الأعراف: 195]، فقد حولها ابن تيمية إلى آية تفيد التجسيم والتشبيه.

قال القاضي: كيف ذلك، والآية تتحدث عن الأصنام؟

قال الهندي: أجل.. ولكن ابن تيمية فهم منها أنها تشير إلى أوصاف الله تعالى، فقد قال تعليقا عليها: (وللناس في هذه الآية قولان: أحدهما: أنه وصفهم بهذه النقائص ليبين أن العابد أكمل من المعبود.. الثاني: أنه ذكر ذلك لأن المعبود يجب أن يكون موصوفا بنقيض هذه الصفات فإن قيل بالقول الأول أمكن أن يقال بمثله في آية العجل. فلا يكون فيه تعرض لصفات الإله؛ وإن قيل بالثاني: وجب أن يتصف الرب تعالى بما نفاه عن الأصنام.. ووجب أن يوصف الله عز وجل بما جاء به الكتاب والسنة من الأيدي وغيرها)([1])

قال القاضي: ما يعني بقوله هذا؟

قال الهندي: هو يعني أنه ما دامت الأصنام ليست لها أرجل تمشي بها، فالله لابد أن تكون له هذه الأرجل.. وما دامت ليست لها آذان تسمع بها.. فالله لابد أن تكون له آذان.. وهكذا.

قال القاضي: إن هذا تجسيم محض.

قال الهندي: لقد ورث ابن تيمية هذا من أسلافه ممن يسميهم أهل الحديث، فقد قال ابن خزيمة: (باب إثبات الرجل لله عز وجل وإن رغمت أنوف المعطلة الذين يكفرون بصفات خالقنا عز وجل التي أثبتها لنفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عز وجل يذكر ما يدعو بعض الكفار من دون الله: ﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [الأعراف: 195]، فأعلمنا ربنا جل وعلا أن من لا رجل له، ولا يد، ولا عين، ولا سمع فهو كالأنعام بل هو أضل ، فالمعطلة الجهمية: الذين هم شر من اليهود والنصارى والمجوس: كالأنعام بل أضل؛ فالمعطلة الجهمية عندهم كالأنعام بل هم أضل)([2])

أرأيت سيدي القاضي هذه التهم التي يكيلها للجهمية، واعتبارهم شر من اليهود والنصار والمجوس هي في الحقيقة موجهة لكل المنزهة من الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة والشيعة وغيرهم.. فكلهم يقولون بتنزيه الله عن تلك المقولات.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول؟

قلت: أجل.. وهنا بين يدي كتاب لابن القيم يقرر فيه نفس ما قرره شيخه، فهو يقول فيه: (وقال تعالى في آلهة المشركين المعطلين﴿ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [الأعراف: 195]،، فجعل سبحانه عدم البطش والمشي والسمع والبصر دليلاً على عدم إلهية من عدمت فيه هذه الصفات فالبطش والمشي من أنواع الأفعال والسمع والبصر من أنواع الصفات. وقد وصف نفسه سبحانه بضد صفة أربابهم وبضد ما وصفه به المعطلة والجهمية فوصف نفسه بالسمع والبصر والفعل باليدين والمجيء والإتيان وذلك ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصفات عليها منافياً لإلاهيتها)([3])

قال القاضي: على حسب ما ذكرتما فإن الصفات عندهم تعني الجوارح، لأن الله سبحانه وتعالى عاب هذه الأصنام بكونها ليست لها جوارح تستعملها.

قال الهندي: أجل سيدي، ومما يزيدك توضيحا في هذا أن ابن مندة الذي أوصى ابن تيمية بكتبه روى هذه الروية يرفعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يُقبل الجبار عز وجل فيثنى رجله على الجسر فيقول: وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظالم فينصف الخلق بعضهم من بعض..)([4])

فهل يُقبل في هذا الخبر أن تكون الرجل التي تقبل الثنيَ صفةً من الصفات، ليست جارحة ولا عضوا ([5]

قال القاضي: وعيت هذا، فما الذي فهمه المنزهة من الآية الكريمة؟

قال الهندي: لقد ذكر الرازي، وهو من أئمة المنزهة أن المقصود من الآية الكريمة هو بيان أن الانسانَ أفضلُ حالاً من الصنم، فقال: (لأن الإنسان له رجل ماشية ويد باطشة وعين باصرة وأذن سامعة والصنم رجله غير ماشية ويده غير باطشة وعينه غير مبصرة وأذنه غير سامعة فإذا كان كذلك كان الإنسان أفضل وأكمل حال من الصنم واشتغال الأفضل بعبادة الأخس الأدون جهل)([6])


([1])  مجموع الفتاوى (5/ 223).

([2])  التوحيد لابن خزيمة (1/ 202)

([3]) الصواعق المرسلة 3/915

([4]) الرد على الجهمية 1/19(5)

([5])  الفكر التجسيمي.

([6]) تفسير الرازي 15/97

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *