المثال الثالث

التفت القاضي إلى الهندي، وقال: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث.
قال الهندي: المثال الثالث يبين لك سيدي كيفية فهمه للنصوص، فهو دائما ينظر إليها نظرة تجسيمية، ويغلب التجسيم فيها على التنزيه إذا تنازعا..
ومن الأمثلة على ذلك أنه في مواضع كثيرة من كتبه وضع صفة لله اسمها الإصبع، وجعلها من مقتضيات العقيدة يقول في كتابه (بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية): (وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع)([1])
هل تعلم – سيدي – من أين استنبط أن الله عز وجل يضع السموات على إصبع، والأرضين على إصبع؟
قال القاضي: أجبني من أين استنبطه؟
قال الهندي: استنبطه من حديث ورد في صحيح البخاري سأقرأه عليك لترى هل حقا يدل على ما فهمه منه أم لا؟
ينص الحديث على أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (يا محمد إن الله يمسك السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67])([2])
فابن تيمية ومدرسته الذين افتتنوا بهذا الحديث، وبنوا عليه أصولهم الكثيرة، تصوروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضحك تصديقا لليهودي، فهل ترى ذلك سيدي؟
قال القاضي: لا.. لا أرى ذلك.. بل أرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضحك استخفافاً من هذا القول الذي تمجه الأسماع، ولا تخفى ركاكته وتهافته على أي عقل، فإذا كانت الأرضون على إصبع، فكيف تكون الجبال على إصبع غيره، ثم يكون الشجر على إصبع آخر، والماء على إصبع، وكل ذلك من الأرض([3])؟
قلت: بالإضافة إلى ذلك فالآية تصرح بأنهم لم يقدروا الله حق قدره بعد هذا الوصف، وأنه تعالى عما يشركون.. والآية فوق ذلك تخالف ظاهر خبر اليهودي، فأين طوي السموات بيمينه من جعلها على أحد الأصابع؟ وكذلك الأرض جميعها بما فيها من جبال وشجر وماء أين جعلُها على أصابع من قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر: 67]؟
قال القاضي: ما يقول المنزهة في هذه الآية؟
قال الهندي: لقد قال ابن عاشور في الآية الكريمة: (القبضة مستعارة للتناول استعارة تصريحية، والقبضة تدل على تمام التمكن من المقبوض، وأن المقبوض لا تصرف له ولا تحرك.. وهذا إيماء إلى تعطيل حركة الأرض وانقماع مظاهرها إذ تصبح في عالم الآخرة شيئا موجودا لا عمل له وذلك بزوال نظام الجاذبية وانقراض أسباب الحياة التي كانت تمد الموجودات الحية على سطح الأرض من حيوان ونبات.. واليمين: وصف لليد ولا يد هنا وإنما هي كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين)([4])
قال القاضي: هلا وضحت لي أكثر.
قال الهندي: ألسنا نقول في أحاديثنا: زمام الأمور بيدي.. وأن فلان يمسك بجميع القضايا.. ونحو ذلك؟
قال القاضي: بلى.. وخاصة نحن في القضاء نقوله كثيرا.
قال الهندي: فالآية جاءت بلسان عرب.. وهم يذكرون هذا كثيرا في كلامهم.. فقد قال شاعرهم مثلا:
ولما رأيت الشمس أشرق نورها تناولت منها حاجتي بيميني
قال القاضي: فهمت المعنى.. فعد بنا إلى ابن تيمية وحزبه ما فهموا من الحديث؟
قال الهندي: لقد افتتن ابن تيمية وسلفه وخلفه بذاك الحديث افتتانا عظيما حتى اعتبروه أصلا من أصول الدين.. ولذلك اعتبروه من الأحاديث الدالة على صفات الله عز وجل مع أن ظاهره إثبات الجوارح والأعضاء لله تعالى.
فهذا ابن تيمية يقول كلاما خطيرا ليس في التجسيم فقط، بل في كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستمع لأحاديث اليهود، ويصدقها، ثم يأتيهم بالآيات التي تدل على ما قالوا، لقد قال: (وكان اليهود إذا ذكروا بين يديه أحاديث في ذلك يقرأ من القرآن ما يصدقها كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن يهودياً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله يوم القيامة يمسك السموات على إصبع..)([5])
هل رأيت – سيدي القاضي – الخطورة التي يؤدي إليها هذا الكلام؟ إنه أكبر شبهة يستند إليها من يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ دينه من أهل الكتاب من قبلنا.
قال القاضي: فهل فهموا من الإصبع أنها الإصبع الحقيقة؟
قال الهندي: أجل سيدي.. بل اعتبروا هذا الفهم هو السنة، وأن ما عداه تعطيل وضلال وكفر.. فهذا أبو يعلى يقول – كعادته مع أمثال هذه النصوص-: (اعلم أنه غير ممتنع حملُ الخبر على ظاهره وأن الإصبع صفة ترجع إلى الذات وأنه تجوز الإشارة فيها بيده)([6]) ، بل إنه نقل روايتين عن الإمام أحمد الأولى أنه أشار بأصابعه وهو يحدث بهذا الحديث، وذلك تشبيه محض، والثانية أنه أنكر على من أشار بيده عند التحديث به وقال: قطعها الله ثم ترك مجلسه، وجمع القاضي بين الروايتين فقال: (وهذا محمول على أنه قصد التشبيه، والموضع الذي أجازه لم يقصد ذلك)([7])
وهذا محمد بن عبد الوهاب يقول معلقا على الحديث:(هذا الحديث فيه مسائل منها أن هذه العلوم وأمثالُها باقية عند اليهود لم يتأولوها)([8])
وقد علق عليه ابن عثيمين بقوله: (كأنه يقول إن اليهود خير من أولئك المحرفين لها لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولوها، وجاء قوم من هذه الأمة، فقالوا ليس لله أصابع، وأن المراد بها القدرة، فكأنه يقول اليهود خير منهم في هذا وأعرفُ بالله منهم)([9])
التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول؟
قلت: صدق سيدي.. وقد تأملت كلامهم في هذا، وهو لا يدل إلا على التجسيم المحض، وقد قرأت لبعض المتأخرين قوله: (ومن أثبت الأصابع لله فكيف ينفي عنه اليدَ والأصابعُ جزء من اليد)([10])
والعجب ليس في هذا فقط سيدي، وإنما في تعظيمهم لليهود، وذكرهم أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يجلس إليهم، ويستفيد منهم، وهو الذي ورد عنه
التحذير من سماعهم.. اسمع ما يقول ابن العثيمين سيدي لتدرك تصورهم لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وكأنه يشك فيما أنزل الله إليه حتى يأتي اليهود ويطمئنوه،
لقد قال مفسرا سبب ضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (سبب الضحك هو سروره
حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجد هذا الحبر في كتابه لأنه لا شك أنه إذا جاء ما
يصدق القرآن فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سوف يسر به، وإن كان الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله لكن تضافر البينات مما
يقوي الشيء) ([11])
([1]) بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (1/ 112)
([2]) رواه البخاري.
([3]) انظر: الفكر التجسيمي.
([4]) التحرير والتنوير (24/ 62).
([5]) درء التعارض 7/96
([6]) إبطال التأويلات 1/322.
([7]) إبطال التأويلات 1/323-324
([8]) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 392.
([9]) انظر القول المفيد على كتاب التوحيد 392.
([10]) انظر تعليق محمد الهراس على هامش التوحيد 89
([11]) القول المفيد على كتاب التوحيد لابن عثيمين 363.