الصلاة الخاشعة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الصلاة الخاشعة، ومراتبها، وكيفية التحقق بها، والأسباب المعينة على ذلك.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الصلاة الخاشعة هي مدرسة التزكية والترقية الكبرى، وهي معراج المؤمن، والنجاح في تأديتها، والتدرب الصحيح على أركانها وشروطها ومستحباتها، يجعلها تؤدي دورها في الإصلاح والتهذيب، لينتقل صاحبها من أصحاب النفوس اللوامة إلى أصحاب النفوس المطمئنة.
وبذلك؛ فإن الصلاة إن كانت خاوية من كل المعاني، لا صلة لها بالروح، ولا علاقة لها بالتزكية، لأنها مجرد حركات جسدية، يؤديها صاحبها لرفع العتاب عنه إما من نفسه أو غيره، أما حقيقة الأمر؛ فهو أنه من التاركين للصلاة، وإن كان في الظاهر من الحريصين عليها.
وقد قال بعضهم مشيرا إلى ذلك: (إنّ العبد يسجد السجدة وعنده أنّه تقرّب بها إلى الله تعالى ولو قسمت ذنوبه في سجدته على أهل مدينته هلكوا، قيل: وكيف ذاك؟ قال: يكون ساجدا عند الله وقلبه مصغ إلى هوى ومشاهد لباطل قد استولى عليه)
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له نصفها، ولا ثلثها ولا ربعها ولا خمسها ولا سدسها ولا عشرها)، وكان يقول: (إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها) ([1])
وروي عن الإمام الصادق أنه قال: (و الله إنّه ليأتي على الرجل خمسون سنة ما قبل الله منه صلاة واحدة، فأيّ شيء أشدّ من هذا، والله إنّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلّي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إنّ الله لا يقبل إلّا الحسن فكيف يقبل ما استخفّ به)([2]))
وفي الأثر أن داود عليه السلام قال في مناجاته: (إلهى من يسكن بيتك وممن تتقبل الصلاة؟) فأوحى اللَّه إليه: (يا داود إنما يسكن بيتي وأقبل الصلاة منه من تواضع لعظمتي، وقطع نهاره بذكرى، وكف نفسه عن الشهوات من أجلى، يطعم الجائع، ويؤوي الغريب، ويرحم المصاب، فذلك الذي يضيء نوره في السموات كالشمس، إن دعاني لبّيته، وإن سألنى أعطيته، أجعل له في الجهل حلما، وفي الغفلة ذكرا، وفي الظلمة نورا، وانما مثله في الناس كالفردوس في أعلى الجنان لا تيبس أنهارها ولا تتغير ثمارها)
والقرآن الكريم يشير إلى ذلك بصراحة؛ فقد قال الله تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وهو يدل على أن الغرض من الصلاة تحقيق ذكر الله، والغفلة تضاد الذكر، فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة، والله تعالى يقول: {وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ } [الأعراف: 205]
ومثل ذلك قوله تعالى في تحريم صلاة السكران حتى يعقل: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، والذي يمكن انطباقه على الغافل أو المنشغل بأي شاغل.
ولهذا اتفق الحكماء على وجوب الخشوع، وأنه لولاه لن يكون للصلاة أي تأثير في صاحبها، لا في نهيه عن الفحشاء والمنكر، ولا في تقريبه من ربه.
وقد قال بعضهم يبين الفرق بين الصلاة وغيرها من الشعائر التي قد لا يشترط فيها الخشوع: (والتحقيق فيه أنّ المصلّي مناج ربّه كما ورد الخبر به والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتّة، وبيانه أن الزكاة إن غفل الإنسان عنها مثلا فهي في نفسها مخالفة للشهوة، شديدة على النفس، وكذا الصوم قاهر للقوى، كاسر لسطوة الهوى الّذي هو آلة الشيطان عدوّ الله، فلا يبعد أن يحصل منهما مقصود مع الغفلة، وكذلك الحجّ أفعاله شاقّة شديدة، وفيه من المجاهدة ما يحصل به الإيلام، كان القلب حاضرا مع أفعاله أو لم يكن، أمّا الصلاة فليس فيها إلّا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود، أمّا الذكر فإنّه محاورة ومناجاة مع الله تعالى فامّا أن يكون المقصود منه كونه خطابا ومحاورة، أو المقصود الحروف والأصوات امتحانا للّسان بالعمل كما تمتحن المعدة بالإمساك في الصوم، وكما يمتحن البدن بمشاقّ الحجّ ويمتحن القلب بمشقة إخراج الزكاة واقتطاع المال المعشوق، ولا شكّ في أنّ هذا القسم باطل فإنّ تحريك اللّسان بالهذيان ما أخفّه على العاقل فليس فيه امتحان من حيث إنّه عمل بل المقصود الحروف من حيث إنّه نطق ولا يكون نطقا إلّا إذا أعرب عمّا في الضمير، ولا يكون معربا إلّا بحضور القلب فأيّ سؤال في قوله: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إذا كان القلب غافلا، وإن لم يقصد كونه تضرّعا ودعاء فأيّ مشقّة في حركة اللّسان به في الغفلة لا سيّما بعد الاعتياد؟)([3])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأحدثك عنه من أسباب الخشوع، وكيفياته؛ لعل الله ينفعك بها، فتجاهد نفسك في تحصيلها، وفي الترقي في معارجها.
أسباب الخشوع:
اعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن للخشوع في الصلاة مراتب مختلفة بحسب المنازل التي تنزل فيها النفس، بعضها يكون مجاهدة، وبعضها يكون مواهب إلهية، لا تستدعي سوى توفير القابلية.
وسر ذلك هو أن الصلاة الخاشعة الكاملة ليست من مراتب النفس اللوامة، وإنما هي من مراتب النفس المطمئنة، بل هي هبة من هبات الله تعالى لها، ذلك أن الله تعالى بكرمه ولطفه وشكره لعباده الصالحين يمن عليهم بتحقيق التواصل بينه وبينهم في الصلاة.
أما أصحاب النفوس اللوامة؛ فهم يجاهدون أنفسهم لتحقيق الخشوع، والخروج بصلاتهم من صلاة الأجساد إلى صلاة الأرواح، ومن الطقوس الشكلية إلى الحقائق المعنوية.
وقد ورد في بعض الآثار: (إنّ الرجلين ليقومان إلى الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد، وإنّ ما بين صلاتيهما ما بين السماء والأرض)
وقد قال بعض الحكماء يشير إلى هذا: (للصلاة مقامات ومراتب بحيث تكون صلاة المصلي في المرتبة التي هو فيها تختلف عن صلاته في المرتبة الأخرى اختلافاً كبيراً، كما أن مقامه يختلف مع سائر المقامات اختلافاً كثيراً؛ فما دام الإنسان في صورة الإنسان وهو إنسان صوري فصلاته أيضاً صورية، وصورة الصلاة وفائدتها إنما هي بالنسبة إلى صحتها الفقهية وكونها مجزيةً بالأجزاء الصورية الفقهية هذا إذا قام بجميع أجزائها وشرائط صحتها وعلى الرغم من أنها فاقدة لشرائط القبول وغير مرضية من الله تعالى؛ فإذا تجاوز المصلي من المرتبة الظاهرية إلى المرتبة الباطنية، وعن الصورة إلى المعنى فتكون صلاته صلاة حقيقية بمقدار ما هو متحقق فيها من معنى الصلاة وباطنها وسرّها) ([4])
وللوصول إلى تلك المراتب السنية التي وصل إليها أولياء الله والصالحون من عباده، يحتاج المريد إلى توفير الأسباب المعينة لذلك، والتي تجعل لنفسه القابلية لحضور القلب والخشوع بسهولة ويسر.
ولن يعجز عقلك ـ أيها المريد الصادق ـ عن معرفة تلك الأسباب، ذلك أننا نمارسها في كل حياتنا، ومع كل أمر نهتم به، ونعزم عليه، وتعظمه نفوسنا، ومن حيث لا نشعر.
ذلك أن الخشوع ينطلق من ذلك الاهتمام الشديد بالصلاة وأهميتها وارتباط مصيرنا بها.. وهو ما يستدعي توفر الأركان التي لا يتم الخشوع إلا بها.
وأولها ـ كما اتفق الحكماء([5]) ـ حضور القلب مع الصلاة، وتفرغه لها، وعدم انشغاله بسواها، فيكون العلم بالفعل والقول مقرونا بها، ولا يكون الفكر جاريا في غيرها.
وثانيها فهم الكلام الذي يردده، وسر الحركات التي يفعلها، وهو أمر وراء حضور القلب، ذلك أنه ربما يكون القلب حاضرا مع اللّفظ، ولا يكون حاضرا مع المعنى.. وهذا مقام يتفاوت الناس فيه حسب مراتبهم، (إذ ليس يشترك الناس في تفهّم المعاني للقرآن والتسبيحات وكم من معان لطيفة يفهمها المصلّي في أثناء الصلاة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله، ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر فإنّها تفهّم أمورا تلك الأمور تمنع من الفحشاء لا محالة)
وثالثها التعظيم، ذلك أنه الدافع الذي يدفع إلى الاهتمام والحضور والانفعال والتفعيل.
ورابعها الهيبة، وهي (عبارة عن خوف منشؤه التعظيم، لأنّ من لا يخاف لا يسمّى هائبا، والمخافة من العقرب وسوء خلق العبد وما يجري مجراه من الأسباب الخسيسة لا يسمّى مهابة، بل الخوف من السلطان المعظّم يسمّى مهابة فالهيبة خوف مصدرها الإجلال)
وخامسها الرّجاء، (فكم من معظّم ملكا من الملوك يهابه أو يخاف سطوته ولكن لا يرجو مبرّته، والعبد ينبغي أن يكون راجيا بصلاته ثواب الله كما أنّه خائف بتقصيره عقاب الله عزّ وجلّ)
وسادسها الحياء، و(مستنده استشعار تقصير وتوهّم ذنب)
أما أسباب هذه المعاني الدافعة لها، والمعينة عليها، فتبدأ بالهمة العالية، ذلك أن القلب تابع للهمة؛ فلا يحضر إلا فيما يهمه، ويعنيه، وينفر من كل ما لم يكن كذلك، ولذلك ترى ـ أيها المريد الصادق ـ أن القلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلا، بل إن همته تجول في أمور الدنيا التي يعتبرها أهم عنده من الصلاة.
ولذلك يحتاج من يريد تحصيل الخشوع إلى صرف الهمة إلى الصلاة، وهي (لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها، وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى وأن الصلاة وسيلة إليها) ([6])
ومن تلك الأسباب التفهم؛ وهو يستدعي حضور الذهن وصرفه إلى إدراك المعنى، ولا يتحقق ذلك إلا بالإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر، ودفعها وقطع موادها.
فالخواطر ـ أيها المريد الصادق ـ هي السم الزعاف الذي يقضي على الخشوع، ويمنع منه، بل يجعل المصلي غافلا لا علاقة له بالصلاة، ولا علاقة لها به، ولذلك سببان اتفق عليهما الحكماء.
أما أولهما؛ فهو سبب خارجي؛ فكل (ما يقرع السمع أو يظهر للبصر، قد يختطف الهم حتى يتبعه وينصرف فيه، ثم تنجر منه الفكرة إلى غيره، ويتسلسل ويكون الإبصار سببا للافتكار.. ومن قويت نيته وعلت همته لم يلهه ما جرى على حواسه، ولكن الضعيف لا بد وأن يتفرق به فكره)
وعلاج هذا السبب هو دفعه بأي طريقة، ولو بغض البصر، أو أن لا يترك المصلي بين يديه ما يشغل حسه، أو (يقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره، ويحترز من الصلاة على الشوارع وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة)، وغيرها مما يشغله عن صلاته.
وأما الثاني، وهو الأخطر، وهي ذلك الانشغال الداخلي للنفس بشؤون الدنيا، وعلاجه بأن (يرد النفس قهرا إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يجدد على نفسه ذكر الآخرة وموقف المناجاة وخطر المقام بين يدي الله سبحانه وهو المطلع، ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلا يلتفت إليه خاطره)
وهذا يحتاج إلى المجاهدة العظيمة، حتى تتعود النفس على الخشوع، والحضور مع الصلاة، وتتدبر في المعاني الواردة فيها، وبالمداومة على ذلك تتحول الصلاة الخاشعة إلى ملكة راسخة، لا تكلف صاحبها أي عنت أو مشقة.
ومما يعين على ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ تعظيم الصلاة، وإدراك أهميتها، وعلاقتها بالسعادة الأبدية، وهي تتولد من معرفتين: معرفة جلال الله عز وجل وعظمته.. ومعرفة حاجة النفس إلى ربها، وكونها عبدا بين يديه، لا تملك من أمرها شيئا.
وذلك ما يولد لديها حالة الهيبة المختلطة بالرجاء المختلطة بالمحبة.. وذلك بحسب ما تردده من أذكار، أو تقرؤه من آيات.
كيفية الخشوع:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تتعلم كيفية الخشوع؛ فالعلم به أجدى من الكثير من التفاصيل التي يذكرها الفقهاء في المسائل المختلفة، والتي قد لا تقع أبدا.
فلذلك استفد من كل التجارب التي ذكرها الصالحون عن أنفسهم، وكيفية صلاتهم، والمعاني التي يستحضرونها، كما قال تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، وسترى كيف يفتح الله عليك من المعاني ما لم يكن يخطر على بالك.
ومن تلك التجارب ما ذكره بعضهم، عندما سئل عن صلاته فقال: (إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحى، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يمينى، والنار عن شمالى، وملك الموت ورائى، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبر تكبيرا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعا بتواضع، وأسجد سجودا بتخشع، وأقعد على الورك الأيسر، وأفرش ظهر قدمها وأنصب القدم اليمنى على الإبهام، وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدرى أ قبلت منى أم لا)([7])
وبناء على طلبك تفاصيل كيفية الخشوع، وما ينبغي استحضاره عند كل فعل من أفعال الصلاة، أو قول من أقوالها؛ فسأورد لك بعض ما ذكره الحكماء في ذلك، مما تحتاجه في هذه المرحلة من سيرك، وإن كان لكل مرحلة خشوعها الخاص بها.
ويبدأ ذلك بسماعك لنداء المؤذن؛ فصلاتك تبدأه عند سماعه، والأذان ـ عند الصادقين من السالكين ـ جزء من الصلاة، وفاتحة لها.. فتذكر عندما تسمعه هول النداء يوم القيامة، وشمّر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة، (فإنّ المسارعين إلى هذا النداء هم الّذين ينادون باللّطف يوم العرض الأكبر، فاعرض قلبك على هذا النداء؛ فإن وجدته مملوءا بالفرح والاستبشار، ومشحونا بالرغبة إلى الابتدار؛ فاعلم أنّه يأتيك النداء بالبشرى والفوز يوم القضاء) ([8])
واعتبر ـ أيها المريد الصادق ـ بكلمات الأذان؛ فهي ليست كلمات عادية، وإنما هي رسائل ربانية، كل كلمة منها لها آثاره التربوية العظيمة إن وعيتها، فانظر (كيف افتتحت بالله، واختتمت بالله، واعتبر بذلك أنّ الله جلّ جلاله هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن.. ووطّن قلبك بتعظيمه وتكبيره عند سماع التكبير، واستحقر الدنيا وما فيها لئلاّ تكون كاذبا في تكبيرك، وانف عن خاطرك كلّ معبود سواه بسماع التهليل وأحضر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتأدّب بين يديه وأشهد له بالرسالة مخلصا وصلّ عليه وآله، وحرّك نفسك، واسع بقلبك وقالبك عند الدعاء إلى الصلاة وما يوجب الفلاح وما هو خير الأعمال وأفضلها، وجدّد عهدك بعد ذلك بتكبير الله وتعظيمه واختمه بذكره كما افتتحت به واجعل مبدأك منه وعودك إليه وقوامك به واعتمادك على حوله وقوّته فإنّه لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم)([9])
واستحضر عند ذلك أيضا أن وقت الأذان المُؤْذِن بدخول وقت الصلاة، ليس وقتا عاديا، وإنما هو (ميقات جعله الله تعالى لك لتقوم فيه بخدمته، وتتأهّل للمثول في حضرته والفوز بطاعته، وليظهر على قلبك السرور وعلى وجهك البهجة عند دخوله لكونه سببا لقربك ووسيلة إلى فوزك، فاستعدّ له بالطهارة والنظافة ولبس الثياب الصالحة للمناجاة كما تتأهّب عند القدوم على ملك من ملوك الدنيا، وتلقّاه بالوقار والسكينة والخوف والرجاء)([10])
و قد روي في هذا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنهم قالوا: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدّثنا ونحدّثه فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه)([11])، وذلك لاشتغاله بالله عن كلّ شيء.
ويروى عن الإمام عليّ أنه كان إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: (جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها([12]).
وبعد سماعك الأذان ـ أيها المريد الصادق ـ أسرع إلى تجديد الطهارة إن لم تكن متطهرا، ولا تنس عندها أن تطهر (لبّك الّذي هو ذاتك، وهو قلبك، فاجتهد له تطهيرا بالتوبة والندم على ما فرط، وتصميم العزم على الترك في المستقبل، فطهّر باطنك فإنّه موضع نظر معبودك)
وقد قال الإمام الرضا ـ يشير إلى مقاصد الطهارة وكيفية الخشوع فيها ـ: (إنّما أمر بالوضوء ليكون العبد طاهرا إذا قام بين يدي الجبّار عند مناجاته إيّاه، مطيعا له فيما أمره، نقيّا من الأدناس والنجاسة مع ما فيه من ذهاب الكسل وطرد النعاس، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبّار، وإنّما وجب على الوجه واليدين والرأس والرجلين لأنّ العبد إذا قام بين يدي الجبّار، فانّما ينكشف من جوارحه ويظهر ما وجب فيه الوضوء، وذلك أنّه بوجهه يسجد ويخضع، وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويتبتّل، وبرأسه يستقبله في ركوعه وسجوده، وبرجليه يقوم ويقعد، وأمر بالغسل من الجنابة دون الخلاء لأنّ الجنابة من نفس الإنسان وهو شيء يخرج من جميع جسده والخلاء ليس هو من نفس الإنسان إنّما هو غذاء يدخل من باب ويخرج من باب) ([13])
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند ارتدائك للثياب الطاهرة الساترة الخاصة بالصلاة، ما قاله الإمام الصادق عنه، فقد قال: (أزين اللّباس للمؤمنين لباس التقوى، وأنعمه الإيمان قال الله عزّ وجلّ: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وأمّا اللّباس الظاهر فنعمة من الله يستر بها عورات بني آدم، وهي كرامة أكرم الله بها عباده ذريّة آدم عليه السّلام ما لم يكرم بها غيرهم، وهي للمؤمنين آلة لأداء ما افترض الله عليهم، وخير لباسك ما لا يشغلك عن الله تعالى بل يقرّبك من شكره وذكره وطاعته ولا يحملك إلى العجب والرياء والتزيّن والمفاخرة والخيلاء فإنّها من آفات الدّين ومورثة القسوة في القلب، وإذ لبست ثوبك فاذكر ستر الله عليك ذنوبك برحمته، وألبس باطنك بالصدق كما ألبست ظاهرك بثوبك، وليكن باطنك في ستر الرهبة وظاهرك في ستر الطاعة، واعتبر بفضل الله عزّ وجلّ حيث خلق أسباب اللّباس لتستر العورات الظاهرة، وفتح أبواب التوبة والإنابة لتستر بها عورات الباطن من الذّنوب وأخلاق السوء، ولا تفضح أحدا حيث ستر الله عليك أعظم منه، واشتغل بعيب نفسك، واصفح عمّا لا يعنيك حاله وأمره واحذر أن يفني عمرك بعمل غيرك ويتّجر برأس مالك غيرك وتهلك نفسك، فإنّ نسيان الذنوب من أعظم عقوبة الله تعالى في العاجل وأوفر أسباب العقوبة في الآجل، وما دام العبد مشتغلا بطاعة الله ومعرفة عيوب نفسه وترك ما يشين في دين الله فهو بمعزل على الآفات، غائص في بحر رحمة الله تعالى يفوز بجواهر الفوائد من الحكمة والبيان وما دام ناسيا لذنوبه جاهلا لعيوبه راجعا إلى حوله وقوّته لا يفلح إذا أبدا)([14])
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند وقوفك في المكان المخصص لصلاتك، ما قاله الإمام الصادق عنه، فقد قال: (إذا بلغت باب المسجد فاعلم أنّك قصدت ملكا عظيما لا يطأ بساطه إلّا المطهّرون، ولا يؤذن لمجالسته إلّا الصدّيقون، وهب القدوم إلى بساط خدمته هيبة الملك فإنّك على خطر عظيم إن غفلت، واعلم أنّه قادر على ما يشاء من العدل والفضل معك وبك، فإن عطف عليك بفضله ورحمته قبل منك يسير الطاعة وأجزل عليها ثوابا كثيرا، وإن طالبك باستحقاقه الصدق والإخلاص عدلا بك حجبك وردّ طاعتك وإن كثرت وهو فعّال لما يريد، واعترف بعجزك وتقصيرك وفقرك بين يديه فإنّك قد توجّهت للعبادة له والمؤانسة به واعرض أسرارك عليه وليعلم أنّه لا يخفى عليه أسرار الخلائق أجمعين وعلانيتهم، وكن كأفقر عباده بين يديه، وأخل قلبك عن كلّ شاغل يحجبك عن ربّك فإنّه لا يقبل إلّا الأطهر والأخلص، فانظر من أي ديوان يخرج اسمك فإن ذقت من حلاوة مناجاته ولذيذ مخاطباته وشربت بكأس رحمته وكراماته من حسن إقباله عليك وإجاباته، وقد صلحت لخدمته فادخل فلك الإذن والأمان وإلّا فقف وقوف مضطرّ قد انقطع عنه الحيل وقصر عنه الأمل وقضى الأجل، وإذا علم الله من قلبك صدق الالتجاء إليه نظر إليك بعين الرأفة والرّحمة والعطف، ووفّقك لما يحبّ ويرضى فإنّه كريم يحبّ الكرامة لعباده المضطرّين إليه المحدقين على بابه لطلب مرضاته) ([15])
وتذكر ما قاله بعض الحكماء لبعض مريديه، عندما سأله عن الخشوع المرتبط بالمكان، فقال له: (استحضر فيه أنّك كائن بين يدي ملك الملوك تريد مناجاته والتضرّع إليه والتماس رضاه ونظره إليك بعين الرّحمة، فانظر مكانا يصلح لذلك كالمساجد الشريفة والمشاهد المطهّرة مع الإمكان، فإنّه تعالى جعل تلك المواضع محلّا لاجابته، ومظنّة لقبوله ورحمته، ومعدنا لمرضاته ومغفرته على مثال حضرة الملوك الّذين يجعلونها وسيلة لذلك؛ فادخلها ملازما للسّكينة والوقار، ومراقبا للخشوع والانكسار، سائلا أن يجعلك من خلّص عباده وأن يلحقك بالماضين منهم، وراقب الله كأنّك على الصراط جائز، وكن متردّدا بين الخوف والرجاء وبين القبول والطرد، فيخشع حينئذ قلبك، ويخضع لبّك، وتتأهّل لأن يفيض عليك الرّحمة وتنالك يد العاطفة، وترعاك عين العناية) ([16])
واستشعر عند النيّة إجابة الله تعالى في (امتثال أمره بالصلاة وإتمامها، والكفّ عن نواقضها ومفسداتها، وإخلاص جميع ذلك لوجه الله رجاء لثوابه وخوفا من عقابه، وطلبا للقربة منه، متقلّدا للمنّة بإذنه إيّاك في المناجاة مع سوء أدبك وكثرة عصيانك، وعظّم في نفسك قدر مناجاته، وانظر من تناجي وكيف تناجي، وبما ذا تناجي، وعند هذا ينبغي أن تعرق جبينك من الخجلة، وترتعد فرائصك من الهيبة ويصفّر وجهك من الخوف).
واذكر حينها ما قاله الإمام الصادق من أن (أدنى حدّ للإخلاص بذل العبد طاقته، ثمّ لا يجعل لعمله عند الله قدرا فيوجب به على ربّه مكافاته بعمله لعلّه أنّه لو طالبه بوفاء حقّ العبوديّة لعجز، وأدنى مقام المخلص لله في الدنيا السلامة من جميع الآثام وفي الآخرة النجاة من النار، والفوز بالجنّة)
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند تكبيرك لربك (عظمة الله سبحانه، وصغّر نفسك وخسّة عبادتك في جنب عظمته، وانحطاط همّتك عن القيام بوظائف خدمته واستتمام حقائق عبادته، وتفكّر عند قولك: (اللهمّ أنت الملك الحقّ) في عظيم ملكه وعموم قدرته واستيلائه على جميع العوالم، ثمّ ارجع على نفسك بالذّل والانكسار والاعتراف بالذّنوب والاستغفار عند قولك: (عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت)، واحضر دعوته لك بالقيام بهذه الخدمة، ومثّل نفسك بين يديه وأنّه قريب منك يجيب دعوة الدّاعي إذا دعاه، ويسمع نداءه، وأنّ بيده خير الدنيا والآخرة لا بيد غيره عند قولك: (لبيك وسعديك والخير في يديك)، ونزّهه من الأعمال السيّئة وأفعال الشرّ وأبدله بها محض الهداية والإرشاد عند قولك: (و الشرّ ليس إليك، والمهديّ من هديت) واعترف له بالعبودية وأنّ قوام وجودك وبدأه ومعاده منه بقولك: (عبدك وابن عبديك، منك وبك ولك وإليك) أي منك وجوده، وبك قوامه، ولك ملكه، وإليك معاده، وهو الّذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده، وهو أهون عليه، وله المثل الأعلى، فاحضر في ذهنك هذه الحقائق وترقّ منها إلى ما يفتح عليك من الأسرار والدّقائق وتلقّى الفيض من العالم الأعلى) ([17])
واعلم أن معنى التكبير أن تعتبر الله تعالى أكبر من كلّ شيء، فهو أكبر من أن يوصف، أو يدرك بالحواسّ، أو يقاس بالناس؛ فإذا نطق به لسانك؛ فينبغي أن لا يكذّبه جنانك، فإن (كان في قلبك شيء هو أكبر من الله تعالى فالله يشهد أنّك كاذب وإن كان الكلام صدقا.. فإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله وأنت أطوع له منك لله فقد اتّخذته إلهك وكبّرته، فيوشك أن يكون قولك الله أكبر كلاما باللّسان المجرد وقد تخلّف القلب عن مساعدته، وما أعظم الخطر في ذلك لو لا التوبة والاستغفار وحسن الظنّ بكرم الله وعفوه)
وقد قال الإمام الصادق معبرا عن هذا: (إذا كبّرت فاستصغر ما بين السماوات العلى والثرى دون كبريائه، فإنّ الله تعالى إذا اطّلع على قلب العبد وهو يكبّر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره قال: يا كاذب أ تخدعني وعزّتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري ولأحجبنّك عن قربي والمسرّة بمناجاتي) ([18])
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند دعاء الاستفتاح، وهو قولك: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ والْأَرْضَ حَنِيفاً مسلما)، أن المراد منه ليس الوجه الظاهر، ذلك أنك وجّهته إلى جهة القبلة والله تعالى يتقدّس عن أن تحدّه الجهات، وإنّما المقصود منه وجه القلب الّذي يتوجّه به إلى فاطر السماوات والأرض؛ (فانظر إليه أمتوجّه هو إلى أمانيه وهممه في البيت والسوق، ومتّبع للشهوات أم مقبل على فاطر السماوات والأرض).. وإذا قلت: (حنيفا مسلما) فينبغي أن يخطر ببالك أنّ المسلم هو الّذي سلم المسلمون من لسانه ويده فإن لم تكن كذلك كنت كاذبا فاجتهد أن تعزم عليه في الاستقبال وتندم على ما سبق من الأحوال.. وإذا قلت: (وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فاخطر ببالك الشرك الخفيّ، واستشعر الخجلة في قلبك أن وصفت نفسك بأنّك لست من المشركين من غير براءة من هذا الشرك فإنّ اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه، وإذا قلت (محياي ومماتي لله) فاعلم أنّ هذا حال عبد مفقود لنفسه موجود لسيّده وأنّه إن صدر ممّن رضاه وغضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة ورهبته من الموت لأمور الدنيا لم يكن ملائما للحال، وإذا قلت: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فاعلم أنّه عدوّك ومترصّد لصرف قلبك عن الله، حسدا لك على مناجاتك مع الله وسجودك له مع أنّه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفّق لها وإنّ استعاذتك بالله منه بترك ما يحبّه وتبديله بما يحبّ الله لا بمجرّد قولك وإنّ من قصده سبع أو عدو ليفترسه أو يقتله فقال: (أعوذ منك بذلك الحصن الحصين) وهو ثابت على مكانه إنّ ذلك لا ينفعه بل لا يعيذه إلّا تبديل المكان فكذلك من يتّبع الشهوات الّتي هي محابّ الشيطان ومكاره الرّحمن فلا يغنيه مجرد القول فليقترن قوله بالعزم على التعوّذ بحصن الله عزّ وجلّ عن شرّ الشيطان وحصنه لا إله إلّا الله) ([19])
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند استقبالك للقبلة ما قاله الإمام الصادق عنها، فقد قال: (إذا استقبلت القبلة فآيس من الدنيا وما فيها والخلق وما هم فيه، واستفرغ قلبك من كلّ شاغل يشغلك عن الله تعالى، وعاين بسرّك عظمة الله، واذكر وقوفك بين يديه يوم تبلو كلّ نفس ما أسلفت وردّوا إلى الله مولاهم الحق، وقف على قدم الخوف والرجاء) ([20])
وما قاله بعض الحكماء لبعض مريديه، فقد قال له: (اعلم أن الله تعالى ما صرف ظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله، إلا تصرف قلبك له.. أ فترى أنّ صرف القلب من سائر الأمور إلى أمر الله ليس مطلوبا منك، هيهات فلا مطلوب سواه، وإنّما هذه الظواهر تحريكات للبواطن، وضبط للجوارح، وتسكين لها بالإثبات في جهة واحدة حتّى لا تبغي على القلب؛ فإنّها إذا بغت وظلمت في حركاتها إلى جهاتها استتبعت القلب وانقلبت به عن وجه الله، فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك، واعلم أنّه كما لا يتوجّه الوجه إلى جهة البيت إلّا بالصرف عن غيرها فلا ينصرف القلب إلى الله تعالى إلّا بالتفرّغ عمّا سوى الله تعالى) ([21])
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند الاعتدال في الصلاة مثولك بين يدي الله، وأنه (مطّلع عليك، فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان إن كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله، بل قدّر في دوام قيامك في صلاتك أنّك ملحوظ ومرقوب بعين كالئة من رجل صالح من أهلك أو ممّن ترغب في أن يعرفك بالصلاح، فإنّه يهدأ عند ذلك أطرافك وتخشع جوارحك، وتسكن جميع أجزائك خيفة أن ينسبك ذلك العاجز المسكين إلى قلّة الخشوع، وإذا أحسست من نفسك التماسك عند ملاحظة عبد مسكين فعاتب نفسك وقل لها: إنّك تدّعين معرفة الله وحبّه أ فلا تستحين من اجترائك عليه مع توقيرك عبدا من عباده أو تخشينّ الناس ولا تخشينّه وهو أحقّ أن يخشى) ([22])
ويشير إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن سأله عن كيفية الحياء من الله، فقال: (تستحي منه كما تستحي من الرجل الصالح من أهلك)([23])
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند قراءتك للبسملة (التبرّك لابتداء القراءة لكلام الله، وافهم أنّ معناه أنّ الأمور كلّها بالله وأنّ المراد بالاسم هاهنا هو المسمّى وإذا كانت الأمور بالله فلا جرم كان (الْحَمْدُ لله) ومعناه أنّ الشكر لله إذ النعم من الله ومن يرى من غير الله نعمة أو يقصد غير الله بشكر لا من حيث إنّه مسخّر من الله ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى غير الله.. فإذا قلت: (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فأحضر في قلبك أنواع لطفه ليتّضح لك رحمته فينبعث به رجاؤك، ثمّ استثر من قلبك له التعظيم والخوف بقولك: (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أمّا العظمة فلأنّه لا ملك إلّا له وأمّا الخوف فلهول يوم الجزاء والحساب الّذي هو مالكه، ثمّ جدّد الإخلاص بقولك: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وجدّد العجز والاحتياج والتبرّي عن الحول والقوّة بقولك: (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وتحقّق أنّه ما تيسّرت طاعتك إلّا بإعانته وأنّ له المنّة إذ وفّقك لطاعته، واستخدمك لعبادته، وجعلك أهلا لمناجاته ولو حرمك التوفيق لكنت من المطرودين مع الشيطان اللّعين، ثمّ إذا فرغت عن التعوّذ ومن قولك: (بسم الله) وعن التحميد وعن إظهار الحاجة إلى الإعانة مطلقا فعيّن سؤالك ولا تطلب إلّا أهمّ حاجاتك وقل: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الّذي يسوقنا إلى جوارك ويفضي بنا إلى مرضاتك، وزده شرحا وتفصيلا وتأكيدا واستشهادا بالّذين أفاض عليهم نعمة الهداية من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، دون الّذين غضب عليهم من الكفّار والزائغين من اليهود والنصارى والصابئين)([24])
واستشعر ـ أيها المريد الصادق ـ عند قراءتك للسورة ما ذكرته لك في رسائلي السابقة حول كيفية تدبر القرآن الكريم والانفعال له وتفعيله وتحويله إلى معراج تسري به إلى ربك.
واستشعر عند قيام جسدك في الصلاة إقامة القلب مع الله حتى تتحقق بما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد قال: (إنّ الله مقبل على المصلّي ما لم يلتفت)([25])، ولا تكتف بقيام جسدك، بل (كما تجب حراسة الرأس والعين عن الالتفات إلى الجهات؛ فكذلك تجب حراسة السرّ عن الالتفات إلى غير الصلاة، فإن التفت إلى غيرها فذكّره باطّلاع الله عليك وقبح التهاون بالمناجى عند غفلة المناجي ليعود إليه، وألزم الخشوع للقلب فإنّ الخلاص عن الالتفات باطنا وظاهرا ثمرة الخشوع، ومهما خشع الباطن خشع الظاهر)
واستشعر عند الركوع والسجود ما قاله الإمام الصادق، فقد قال: (لا يركع عبد لله ركوعا على الحقيقة إلّا زيّنه الله تعالى بنور بهائه وأظلّه في ظلال كبريائه وكساه كسوة أصفيائه، والرّكوع أوّل والسجود ثان، فمن أتى بمعنى الأوّل صلح للثاني، وفي الرّكوع أدب وفي السجود قرب، ومن لا يحسن الأدب لا يصلح للقرب، فاركع ركوع خاضع لله عزّ وجلّ بقلبه متذلّل وجل تحت سلطانه، خافض له بجوارحه خفض خائف حزن على ما يفوته من فائدة الراكعين) ([26])
وقال بعض الحكماء عند حديثه عن خشوع السجود: (ثمّ تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات الاستكانة، فمكّن أعزّ أعضائك وهو الوجه من أذلّ الأشياء وهو التراب، وإن أمكنك أن لا تجعل بينهما حائلا فتسجد على الأرض فافعل فإنّه أجلب للخضوع وأدلّ على الذلّ، وإذا وضعت نفسك موضع الذلّ فاعلم أنّك وضعتها موضعها ورددت الفرع إلى أصله، فإنّك من التراب خلقت وإليه رددت، فعند هذا جدّد على قلبك عظمة الله وقل: (سبحان ربّي الأعلى) وأكّده بالتّكرار فإنّ المرّة الواحدة ضعيفة الآثار، فإذا رقّ قلبك وطهر لبّك فليصدق رجاؤك في رحمة ربّك، فإنّ رحمته تتسارع إلى الضعف والذّلّ لا إلى التكبّر والبطر فارفع رأسك مكبّرا وسائلا حاجتك ومستغفرا من ذنوبك، ثمّ أكّد التواضع بالتكرار وعد إلى السجود ثانيا كذلك)
واستشعر إذا جلست للتّشهد ما قاله الإمام الصادق عنه، فقد قال: (التشهّد ثناء على الله فكن عبدا له في السرّ، خاضعا له في الفعل كما أنّك له عبد بالقول والدعوى، وصل صدق لسانك بصفاء صدق سرّك، فإنّه خلقك عبدا وأمرك أن تعبده بقلبك ولسانك وجوارحك وأن تحقّق عبوديّتك له بربوبيّته لك وتعلم أنّ نواصي الخلق بيده فليس لهم نفس ولا لحظة إلّا بقدرته ومشيّته وهم عاجزون عن إتيان أقلّ شيء في مملكته إلّا بإذنه وإرادته.. فكن لله عبدا ذاكرا بالقول والدعوى، وصل صدق لسانك بصفاء سرّك، فإنّه خلقك فعزّ وجلّ أن تكون إرادة ومشيّة لأحد إلّا بسابق إرادته ومشيّته فاستعمل العبوديّة في الرّضا بحكمته وبالعبادة في أداء أوامره وقد أمرك بالصلاة على نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فأوصل صلاته بصلاته، وطاعته بطاعته، وشهادته بشهادته، وانظر ألاّ تفوتك بركات معرفة حرمته فتحرم عن فائدة صلاته وأمره بالاستغفار لك والشفاعة فيك إن أتيت بالواجب في الأمر والنهي والسنن والآداب وتعلم جليل مرتبته عند الله عزّ وجلّ) ([27])
واستشعر إذا فرغت من التّشهد، وأردت السلام، ما قاله الإمام الصادق عنه، فقد قال: (معنى السلام في دبر كلّ صلاة الأمان، أي من أدّى أمر الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم خاضعا له خاشعا منه فله الأمان من بلاء الدّنيا وبراءة من عذاب الآخرة.. والسلام اسم من أسماء الله تعالى أودعه خلقه ليستعملوا معناه في المعاملات والأمانات والانصافات، وتصديق مصاحبتهم ومجالستهم فيما بينهم، وصحّة معاشرتهم وإن أردت أن تضع السلام موضعه وتؤدّي معناه فاتّق الله وليسلم منك دينك وقلبك وعقلك ألاّ تدنّسها بظلمة المعاصي، ولتسلم منك حفظتك أن لا تبرمهم ولا تملّهم وتوحشهم منك بسوء معاملتك معهم، ثمّ صديقك ثمّ عدوّك فإنّ من لم يسلم منه من هو الأقرب إليه فالأبعد أولى، ومن لا يضع السلام مواضعه هذه فلا سلام ولا إسلام ولا تسليم وكان كاذبا في سلامه وإن أفشاه في الخلق)([28])
وقال بعض الحكماء في أسرار ما ورد من صيغ السلام عند الانتهاء من التشهد: (أحضر نفسك بحضرة سيّد المرسلين والملائكة المقرّبين وقل: السلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته إلى آخر التسليم المستحبّ، ثمّ أحضر في بالك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبقيّة أنبياء الله وأئمّته عليهم السّلام والحفظة لك من الملائكة المقرّبين المحصين لأعمالك وقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا تطلق لسانك بصيغة الخطاب من غير حضور المخاطب في ذهنك فتكون من العابثين واللّاعبين، وكيف يسمع الخطاب لمن لا يقصد لولا فضل الله تعالى ورحمته الشاملة ورأفته الكاملة في اجتزائه بذلك عن أصل الواجب وإن كان بعيدا عن درجات القبول، منحطّا عن أوج القرب والوصول، وإن كنت إماما لقوم فاقصدهم بالسلام مع من تقدّم من المقصودين، وليقصدوا هم الرّد عليك أيضا ثمّ يقصدوا مقصدك بسلام ثان، فإذا فعلتم ذلك فقد أدّيتم وظيفة السلام واستحققتم من الله عزّ وجلّ مزيد الإكرام) ([29])
وإذا انتهيت ـ أيها المريد الصادق ـ من صلاتك على هذه الهيئة التي وصفها لك الصالحون؛ فادع في آخر صلاتك بما ورد من الأدعية المأثورة، (مع التواضع والخشوع، والضراعة والابتهال، وصدق الرّجاء بالإجابة وأشرك في دعائك أبويك وسائر المؤمنين، وانو ختم الصّلاة به، واستشعر شكر الله تعالى على توفيقه لاتمام هذه الطاعة، وتوهّم أنّك مودّع لصلاتك هذه، وأنّك ربما لا تعيش لمثلها، ثمّ أشعر قلبك الوجل والحياء من التقصير في الصلاة، وخف أن لا يقبل صلاتك، وأن تكون ممقوتا بذنب ظاهر أو باطن فتردّ صلاتك في وجهك وترجو مع ذلك أن يقبلها بفضله وكرمه) ([30])
هذا جوابي ـ أيها المريد الصادق ـ على أسئلتك؛
فاسع لأن تجاهد نفسك في تنفيذ ما نصحك به الصالحون، وأئمة الهدى، وسترى كيف تتحول
صلاتك من صلاة الغافلين الساهين إلى صلاة الذاكرين الخاشعين.. وسترى حينها آثارها
عليك في دينك ودنياك.. وكيف تتحول إلى أعظم مدرسة تربوية وروحية تزكيك وترقيك وتسير بك إلى كل ميادين الكمال المتاحة لك.
([1]) أحمد وأبو داود والنسائي.
([2]) التهذيب ج 1 ص 204.
([3]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 370
([4]) سر الصلاة أو صلاة العارفين (ص: 5)
([5]) انظر: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 371.
([6]) إحياء علوم الدين (1/ 162)
([7]) إحياء علوم الدين، 1/ 271.
([8]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 378
([9]) راجع أسرار الصلاة ص 186.
([10]) راجع أسرار الصلاة ص 185.
([11]) بحار الأنوار (84/ 258)
([12]) بحار الأنوار (84/ 256)
([13]) عيون اخبار الرضا باب 34.
([14]) مصباح الشريعة، ص32.
([15]) مصباح الشريعة ص: 131.
([16]) اسرار الصلاة ص 184.
([17]) الشهيد الثاني في أسرار الصلاة ص 187.
([18]) مصباح الشريعة ص: 89
([19]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 386
([20]) مصباح الشريعة ص: 89.
([21]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 382.
([22]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 383.
([23]) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في شعب الايمان.
([24]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 388.
([25])أبو داود ج 1 ص 209.
([26]) مصباح الشريعة ص 12.
([27]) مصباح الشريعة ص: 95
([28]) مصباح الشريعة، ص97.
([29]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 394.
([30]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج1، ص: 395.