1 ـ موقف ابن تيمية مما يسمونه صفات الذات المثال 1

رابعا ـ ابن تيمية وتحديد الذات والأفعال

بعد أن ساق الصنعاني من الأدلة ما ساق مما ذكرته لكم قام الهندي، وقال: بعد أن اتضح لكم – سيدي القاضي – ما ذكره ابن تيمية في حكم المخالفين له من المنزهة سواء كانوا من المفوضة أو المؤولة اسمح لي أن أحدثك عن بعض الشواهد التي تدل على تجسيمه لربه، وتحديده له ذاتا وصفات وأفعالا.

قال القاضي: قبل أن تسوق ذلك لي اذكر لي وجه الاستدلال به..

قال الهندي: وجه الاستدلال به – سيدي – واضح، وهو أن ابن تيمية لم يكتف بنصره المجسمة والمشبهة، ولم يكتف بالطعن في المخالفين له، بل راح هو أيضا بكل ما أوتي من قوة ينظر للتجسيم والتشبيه، ويحاول أن يضفي عليهما صفة القبول.. وأحسب أنه لولا جهود ابن تيمية في ذلك لانطمس التجسيم والتشبيه، ولما بقي له وجود، لأن كل الكتب التي سبقته كانت تورد الروايات المتهافتة في ذلك، وكان مجرد قراءتها يكفي للنفور منها.. لكن ابن تيمية حاول أن يلمعها ويقدمها للمسلمين بصفة تبدو في ظاهرها مقبولة، ولكن باطنها تفوح منه روائح الوثنية المقيتة.

قال القاضي: فهلم بما تريد أن تدلي به من أدلة على ذلك.

قال الهندي: بناء على تقسيمهم ما يسمونه صفات الله إلى قسمين: قسم مرتبط بالذات، وقسم مرتبط بالأفعال، فسأجلب شاهدين لكل قسم منهما، لترى بعينك مبلغ التجسيم والتشبيه فيهما جميعا.

1 ـ موقف ابن تيمية مما يسمونه صفات الذات:

قال القاضي: هات الشاهد الأول.

قال الهندي: الشاهد الأول هو موقف ابن تيمية مما يسمونه صفات الذات.. ويقصدون بها ما ورد في الأخبار من إضافات ترتبط بالله من اليد والساق والضرس والحقو وغيرها..

قال القاضي: هل يمكنك أن تورد لنا بعض ما في كتب ابن تيمية من هذا حتى نتبين صحة ما قلت.

قال الهندي: سأورد لك – سيدي – سبعة أمثلة توضح لك هذا أتم توضيح.

المثال الأول:

قال القاضي: فهات المثال الأول.

قال الهندي: المثال الأول، وهو المنطلق الفكري الذي ينطلق منه ابن تيميه في تجسيمه وتشبيهه، فهو يرى أن الله سبحانه وتعالى ما دام قد أعطى لعباده بعض الكمالات الحسية، فهو أولى أن يتصف بها، لقد قال يوضح ذلك: (كل ما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال، فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه…وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها)([1])

وإلى هنا فإن المعنى مقبول عند جميع المسلمين، فالله سبحانه وتعالى أولى بصفات الكمال من عباده، ولكن ابن تيمية لا يقصد ذلك فقط، بل يقصد التجسيم وما يقتضيه التجسيم، فقد قال بعد ذلك الكلام المقبول بانيا عليه: (وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائماً بنفسه أو موصوفاً أو أن له من الحقيقة والصفة والقدر ما استحق به إلا يكون بحيثِ غيره وأن لا يكون معدوماً بل ما أوجب أن يكون قائماً بنفسه مبايباً لغيره وأمثال ذلك هو من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد صار على هذا الصراط المستقيم، فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد)([2])

وبذلك فإن ابن تيمية يقع في التشبيه المحض، لأنه يتصور أن الكمال في احتياج الذات إلى حيز ومقدار وأعضاء وغير ذلك مع أن الكمال الحقيقي لا يقتضي ذلك..

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول فيما أورد؟

قلت: أجل – سيدي القاضي- كلامه واضح في ذلك، وقد أورد بعض الباحثين المعاصرين قول ابن تيمية: (يقال أما الحدوث أو ما يستلزم الحدوث فلا يجوز أن يكون هو علة للأمر الوجودي لأن ذلك مستلزم للعدم، وما يستلزم العدم لا يجوز أن يكون علة للأمر الوجودي فلا يعلل الأمر الوجودي الذي يختص بالموجودات دون المعدومات إلا بأمر وجودي يختص بالموجودات)([3])

ثم علق عليه بقوله: وبذلك يكون قد أثبت أحقيته بكل صفة وجودية يوصف بها المخلوق ومن بين هذه الصفات الوجودية التي أثبتها ما نص عليه، فنص على وصفه بما للموجود من القيام بالمحل واتصافه بالمقدار الذي استحق به أن لا يكون بحيث غيره.. ونص على اعتبار الغائب بالشاهد ووصف هذا بالصراط المستقيم.. ونص على أن كل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب أما قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11] الذي يبعد أدنى مشابهة بينه وبين كل موجود فقد غدا مما لا نعلمه من الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون([4]).


([1])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 350)

([2])  بيان تلبيس الجهمية 327-328

([3]) المصدر السابق 2/373-374

([4])  انظر: الفكر التجسيمي.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *