ثالثا ـ تبديع ابن تيمية للمنزهة: 1 ـ موقف ابن تيمية المتشدد من المفوضة

ثالثا ـ تبديع ابن تيمية للمنزهة

بعد أن ساق الخليلي ما ساق من الشواهد والبينات كما ذكرته لكم قام الصنعاني، وقال: بعد أن اتضح لكم – سيدي القاضي – تأييد ابن تيمية ونصرته لكل من يشم فيه رائحة التشبيه والتجسيم، بل اختصاره السنة في المشبهة والمجسمة.. أريد أن أسوق لك الدليل الثاني إن إذنت لي في ذلك.

قال القاضي: أنت تعرف أني لا أسمع الدليل قبل أن أعرف وجه الاستدلال به..

قال الصنعاني: وجه الاستدلال به – سيدي – واضح، وأنتم معشر القضاة أعرف الناس به.. أليس الذي يبرئ المتهم ويتهم البريء متهما عندكم؟

قال القاضي: بلى.. وهو ما يقتضيه العقل.. بل ما يقتضيه النقل، فقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 112]

قال الصنعاني: بورك فيك سيدي القاضي، وهذه الآية لا تنطبق على أحد في هذا المجال انطباقها على ابن تيمية ومدرسته، فهم ينزهون المجسمة ويحترمونهم ويعظمون، بينهما ينهالون على من ينزه الله ويقدسه بصنوف التضليلات والتبديعات والتكفيرات.. وسأنتدب لك شاهدين عدلين يدلان على موقف ابن تيمية من كل من يشم منه رائحة التنزيه.

أما أولهما، فيبين لكم – سيدي القاضي – موقف ابن تيمية من العلماء الذين تورعوا أن يتكلموا في الله بغير علم، فلذلك فوضوا علم ما تشابه إلى الله، ولم يدلوا فيها بآرائهم، وهم من يطلق عليهم لقب (المفوضة)

وأما الثاني، فيبين لك موقف ابن تيمية من العلماء المتكلمين الذي خافوا على عقول العوام من التجسيم والتشبيه الذي ينشره من أوصى ابن تيمية بقراءة كتبهم واتباعهم.. فلذلك راحوا يفسرون المتشابهات بما ورد في اللغة العربية، وبما له نظير في التراث العربي الشعري والنثري.

1 ـ موقف ابن تيمية المتشدد من المفوضة:

قال القاضي: هات الشاهد الأول.

قال الصنعاني: الشاهد الأول هو موقف ابن تيمية المتشدد من المفوضة.. بل اعتبرهم من أهل البدع والإلحاد مع أن القائلين بذلك من كبار العلماء والصالحين، بل نسبه بعضهم إلى السلف الصالح، ومع ذلك فإن ابن تيمية وبناء على موقفه من المخالف لم يرعو في رميهم بكل أصناف التضليل، ومن ذلك قوله فيهم: (..فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد)([1]) 

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول؟

قلت: بلى.. سيدي.. وقد رأيته في مجموع الفتاوى كعادته في التنابز بالألقاب يطلق عليهم (أهل التجهيل)، لقد قال فيهم: (..أما أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف يقولون إن الرسول لم يعرف معانيَ ما أنزل الله إليه من آيات الصفات..ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك…)([2])

وقد سمعت من المعاصرين في زماني من لا يزال يردد قول ابن تيمية فيهم، ومن ذلك قول ابن عثيمين: (التفويض من شر أقوال أهل البدع.. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول)([3])

قال القاضي: أنا إلى الآن لم أفهم السبب الذي جعلهم يتوقفون، كان يمكنهم أن يفهموا المتشابهات على ضوء المحكمات، ويفسروا ذلك وفق ما تقضيه لغة العرب.

قال الصنعاني: ليس الأمر بتلك السهولة سيدي القاضي.. فاللفظ الواحد قد يحتمل من حيث المجاز أو الاستعارة أو الكناية معاني متعددة، فلذلك رأوا أن الأسلم التوقف فيه وإرجاء علمه إلى الله.

وهم في ذلك يستندون إلى ما ورد في النصوص من الحذر من الكلام في الله وفي كتابه بغير علم، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع قوماً يتدارؤون فقال: هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تضربوا بعضه بعضاً، ما علمتم منه فقولوا وما لا فكلوه إلى عالمه)([4])

وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، ثم قال: (فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين عنى الله فاحذروهم)([5])

ابتسم القاضي، وقال: الحديثان واضحان جدا.. بل الآية واضحة في الدلالة على هذا المسلك.. فكيف غاب عليهم؟

قال الصنعاني: ستعرف ذلك عندما تسمع المحاكمة جميعا.. فابن تيمية ومدرسته لا مكان عندهم لمن يخالفهم.. فالمرء إما أن يكون معهم، وإما أن يشنوا عليه كل ألوان الحروب.

قال القاضي: لقد أعجبني هذا المسلك، فهلا وضحت لي الأسس التي يقوم عليها؟

قال الصنعاني: لقد ذكر العلماء في ذلك أسسا جمعها الغزالي في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام)..

قال القاضي: أليس الغزالي من المتكلمين الذين يقولون بالتأويل؟

قال الصنعاني: إن المتكلمين سواء كانوا من الأشاعرة أو الماتريدية أو الإمامية لم يفرضوا على أتباعهم تأويلاتهم، بل إنهم يخيرونهم بين التفويض أو التأويل.

قال القاضي: هذا هو العلم.. وهذه هي الحكمة.. فحدثني عن الأسس التي يقوم عليها التفويض.

قال الصنعاني: من الأسس التي يقوم عليها القول بالتفويض ([6]) اليقين بتنزيه الله عز وجل وتعظيمه تصديقاً لقوله تعالى في الآية الكريمة:   قال تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾ [سورة الشورى:11]

ومنها التصديق بما جاء في القرآن الكريم وما وافقه من السنة الصحيحة، وأنه حق على المعنى الذي أراده الله ورسوله.

ومنها الاعتراف بالعجز عن معرفة ذات الله عز وجل والإحاطة بوصفه.

ومنها السكوت عما سكت عليه الصالحون، والكف عن السؤال عنه كما كفوا، وأن لا نخوض فيه.

ومنها الإمساك عن التصرف في تلك الألفاظ. فنمسك عن تفسيرها بلغة أخرى، لأن من الألفاظ العربية ما لا يطابقها في غير العربية، وفي اللغة العربية تراكيبُ لغويةٌ تدل على معان لا تدل عليها بترجمة ألفاظها..

وهكذا نمسك عن تصريفها فلا نقول في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [سورة طه:5]، هو المستوي على العرش لأن الفعل يدل على استواء مرتبط بزمان، واسم الفاعل ليس كذلك ففي مثل هذا التصريف زيادةُ معنى ربما لا يكون مراداً في اللفظ الوارد..

ونمسك عن تجميع ماتفرق من هذه الألفاظ، كما يفعل زعماء مدرسة المتشابه حين يجمعون في كتاب واحد أخباراً تحت باب خصوه لإثبات اليد، وخصوا باباً لإثبات الرجل، وباباً لإثبات الوجه، فقوي بذلك الإيهام وغلَب الحس.

ونمسك عن تجريد اللفظ عن سياقه وسباقه لأن كل كلمة سابقة ولاحقة تؤثر في إفهام المراد فإذا بلغنا قول الله عز وجل:  ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [سورة الأنعام:18]، فلا يجوز أن نقول: (هو فوق عباده)، لأن لفظ القاهر قبله يشير إلى فوقية الرتبة والقهر، كما قال تعالى على لسان فرعون: ﴿ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون﴾ [سورة الأعراف:127]، ونزعُ لفظِ القاهر يعطل هذا المعنى الذي يحتمله السياق احتمالاً قوياً ويوهم فوقيةً غيرَها لم يكن ليُفطن إليها لولا هذا التجريد عن السياق، بل قولنا: (القاهر فوق غيره) ليس كقولنا: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾، لأن ذكر العبودية مع كونه موصوفاً بأن القاهرَ فوقه يؤكد فوقية السيادة والقهر.

التفت القاضي إلي، وقال: هل لديك ما تقول؟

قلت: أجل.. سيدي القاضي.. فقد رأيت بعض أصحاب ابن تيمية من المدرسة السلفية يذكر لي أنهم يفوضون.. فما أدري ما وجه صحة هذا؟

قال الصنعاني: أجل.. هم يذكرون عن أنفسهم هذا.. ولكنهم لا يعنون به تفويض التنزيه، بل يريدون به تفويض التجسيم والتشبيه.

قال القاضي: وما الفرق بينهما؟

قال الصنعاني: المنزه ينطلق من تقديس الله عن الحيز والحدود وكل ما له علاقة بالأجسام، ويفوض تحديد المراد بالمتشابهات إلى الله.. أما المجسم، فهو يفوض في الكيفية والحجم والمقدار.. وقد أدى بهم ذلك إلى مقولات غريبة عجيبة.

سأضرب لك مثلا عن رجل من معاصريك هو من أشهر تلاميذ ابن تيمية والمخلصين له.. إنه ابن عثيمين الذي قال: (نصوص الصفات تجري على ظاهرها اللائق بالله تعالى بلا كيف، وهذه القاعدة تجري على كل فرد من أفراد النصوص وإن لم ينصوا عليه بعينه، ولا يمكننا أن نخرج عنها نصاً واحداً إلا بدليل عن السلف أنفسهم. ولو قلنا إنه لابد أن ينصوا على كل نص بعينه لم يكن لهذه القاعدة فائدة)([7]).

لقد طبق هذه القاعدة على ما ورد في النصوص من وصف الله بالملل، فقال: (إذا كان هذا الحديث يدل على أن لله مللاً فإن ملل الله ليس كمثل مللنا، بل هو ملل ليس فيه شيء من النقص… فإنه ملل يليق به عز وجل)([8])  

وطبقها على ما ورد في النصوص من وصف الله بالهرولة، فقال: (صفة الهرولة.. فلا تستوحش يا أخي من شيء أثبته الله تعالى لنفسه، واعلم أنك إذا نفيت أن يأتي هرولة فسيكون مضمون هذا النفي صحةَ أن يقال إن الله لا يأتي هرولة وفي هذا ما فيه)([9])

بل إنهم تجاوزوا ذلك، وإمعانا في الإثبات في تصورهم راحوا يصرحون بإثبات الكيفية، يقول ابن عثيمين: (السلف لا ينفون الكيف مطلقاً لأن نفي الكيف مطلقاً نفي للوجود، وما من موجود إلا وله كيفية لكنها قد تكون معلومة وقد تكون مجهولة، وكيفية ذات الله تعالى وصفاته مجهولة لنا.. وعلى هذا فنثبت له كيفية لا نعلمها.. ونفي الكيفية عن الاستواء مطلقاً هو تعطيل محض لهذه الصفة لأنا إذا أثبتنا الاستواء حقيقة لزم أن يكون له كيفية وهكذا في بقية الصفات)([10]) 

قال القاضي: فهل كانو يدركون أن إثباب الكيفية يستلزم بالضرورة الكمية والشكل والحجم ونحو ذلك؟

الصنعاني: أجل.. وقد صرح ابن تيمية بذلك، فقال جوابا للمعترضين على نفي الكيفية: (..وأما قوله (الكيفية تقتضي الكمية والشكل)، فإنه إن أراد أنها تستلزم ذلك فمعلوم أن الذين أثبتوا الكيفية إنما أرادوا الصفات التي تخصه كما تقدم، وإذا كان هذا مستلزماً للكمية فهو الذي يذكره المنازعون أنه ما من موصوف بصفة إلا وله قدْر يخصه، وأكثر أهل الحديث والسنة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله وغيرهم لا ينفون ثبوت الكيفية في نفس الأمر بل يقولون لا نعلم الكيفية.. ومعلوم أن الموجود يُنظر في نفسه وفي صفته وفي قدرْه، وإن كان اسم الصفة يتناول قدْره ويستلزم ذاته أيضاً، فإذا عُلم بصريح العقل أنه لا بد له من وجود خاص أو حقيقة يتميز بها ولا بد له من صفات تختص به لا يشركه فيها أحد فيقال وكذلك قدره)([11])


([1]) درء التعارض 1/205

([2]) مجموع الفتاوى 5/34

([3]) المحاضرات السنية 1/67

([4]) خلق أفعال العباد 46.

([5]) رواه البخاري ومسلم وغيرهما.

([6]) انظر إلجام العوام لحجة الإسلام الغزالي 64-84

([7]) مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/185

([8]) مجموع فتاوى ابن عثيمين  1/174 وانظر صفة الملل في إبطال التأويلات 2/370

([9]) مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/ 172

([10]) مجموع فتاوى ابن عثيمين 1/194 وانظر المحاضرات السنية لابن عثيمين 1/232

([11]) بيان تلبيس الجهمية1/347

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *