الفهم والتدبر

الفهم والتدبر
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن أول المراتب التي يرتقي بها السالك إلى الحقائق القرآنية، والتي تجعله يدرك أسرار تلك الفضائل التي وردت في حقه جملة وتفصيلا، وعلاقة ذلك بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن القرآن الكريم هو رسالة الله تعالى إلى عباده، والرسالة لا يكتفى منها بترديدها، ولا بقراءتها، ولا بتضميخها بأنواع العطر، ولا بتقبيلها ووضعها على الجبهة، ولا بوضعها في إطار جميل مزخرف، وتعليقه في أشرف الأمكنة، وإنما بقراءتها، وفهمها، وتدبر معانيها.
فالمرسل العاقل الواعي الذي يرسل أي رسالة لا يريد من رسالته حروفها فقط، وإنما يريد معانيها، ما ظهر منها وما بطن، وما لاح للعين بادي الرأي، وما احتاج إلى تأمل واستبصار وتدبر.
وهكذا أعظم رسالة بين أيدينا، وهي كلام ربنا.. فهي كما تحتاج إلى كل ذلك التكريم والتشريف والتقديس، تحتاج أيضا إلى أن ترقى عقولنا لفهمها، وإدراك مقاصدها، وتحويل حروفها من كلمات في المصاحف إلى حركات في الحياة.
ولذلك أخبر الله تعالى عن انغلاق القلوب التي لا تفهم كلماته، ولا تتدبرها، فقال: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 24]
وأخبر أن السبب الأكبر في غفلتهم عن الحقائق العظيمة التي جاء بها القرآن الكريم ناتج عن عدم التدبر، فقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]
وأخبر أن عدم إدراك أسرار المعاني القرآنية، وتوهم التناقض بينها ناتج عن عدم استعمال آلية التدبر، فقال: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82]
وبناء على هذا كله أخبر عن أن الغاية الكبرى لتنزل القرآن الكريم هو التدبر الذي ينتج عنه التذكر، والذي لا يتحقق به إلا أولو الألباب، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]
ولهذا، فإن الفهم والتدبر هو روح التعامل مع القرآن الكريم، مثلما الخشوع هو روح الصلاة، كما قال الإمام علي: (لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبّر فيها)([1])
ولهذا كان الصالحون يرددون الآية الواحدة مرات كثيرة ابتغاء لتنزل فهمها والتدبر في معانيها، بل روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روي أنه قرأ {بسم الله الرّحمن الرّحيم}، فردّدها عشرين مرّة([2]).
و عن أبي ذرّ قال: (قام بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقام ليلة بآية يردّدها، وهي قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118]) ([3])
و قام بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بهذه الآية {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]
وعن الزهري عن الإمام السجاد أنه قال: (لومات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي)، ثم قال الزهري: (وكان إذا قرأ (مالك يوم الدين) يكررها، حتى يكاد أن يموت) ([4])
وقام سعيد بن جبير ليلة يردّد هذه الآية { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59]
وحكي عن بعض الصالحين أنه قال: (إنّي لأفتتح السورة فتوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتّى يطلع الفجر)، وقال آخر: (كلّ آية لا أتفهّمها ولا يكون قلبي فيها لا أعدّ لها ثوابا)
و حكي عن آخر أنّه قال: (إنّي لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال وخمس ليال ولو لا أنّي أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها)
وروي أن آخر بقي في سورة هود ستّة أشهر يكرّرها ولا يفرغ من التدبّر فيها.
وقال آخر: (لي في كلّ جمعة ختمة، وفي كلّ شهر ختمة، وفي كلّ سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد)، وكان يقول: (أقمت نفسي مقام الاجراء فأنا أعمل مياومة ومسابعة ومشاهرة ومسانهة)([5])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما أحدثك عنه من معاني الفهم والتدبر، والوصفات التي تعينك على ذلك.
فهم القرآن:
أول مرتبة في التعامل مع الحقائق القرآنية ـ أيها المريد الصادق ـ فهم معانيها، ذلك أن الألفاظ والتراكيب ليست مقصودة بذاتها، وإنما قصدها المعاني التي تختزنها.. ولذلك على قارئ القرآن أن يتجاوز الألفاظ إلى معانيها.. كل معانيها التي تليق بها.. فالقرآن الكريم حمال وجوه؛ فلذلك على العاقل أن يحمله على أحسن وجوهه، حتى لا يضل أو يضل.
وأول ذلك تحكيم المتشابه إلى المحكم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم) ([6])
وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ تلك الآيات، ثم قال: (قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم) ([7])
وعن الإمام الصادق أنه قال: (إن القرآن زاجر وآمر يأمر بالجنة ويزجر عن النار، وفيه محكم ومتشابه، فأما المحكم فيؤمن به ويعمل به ويدين به، وأما المتشابه فيؤمن به ولا يعمل به، وهو قول الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا})([8])
ولذلك عليك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تفهم القرآن الكريم من خلال عرض آياته بعضها على بعض حتى لا تقع في تلك الانحرافات التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. والتي وقعت فيها أمته من بعده.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من ذكر اليد مضافة لله تعالى، لأن العرب عندما تضيف اليد لأي كان قد تريد بذلك اليد التي هي الجارحة، وتريد بها أيضا معاني أخرى مثل: القوة والنعمة والعطاء والثواب والهداية والنصرة والحفظ وغيرها.
وبما أن الأمر كذلك، فاليد المنسوبة لله، تعتبر من المتشابهات، والتي لا يمكن القطع بمعناها إلا بعرضها على المحكم القرآني الذي ينزه الله تعالى عن الجسمية والتركيب ومشابهة مخلوقاته، وهو ما يقوله الراسخون في العلم.
أما المعرضون عن المحكم، والآخذون بالمتشابه، فقد أعرضوا عن ذلك؛ فلم يفوضوا المراد منها لله تعالى من باب الاحتياط والتورع، ولم يؤولوها بما يتناسب مع كلام العرب، وإنما راحوا يحملونها على ظواهرها؛ فنسبوا لله تعالى اليد بمعناها الظاهر، ونسبوا له غيرها من الجوارح، فوقعوا في التجسيم والتشبيه.
ومما يعينك على ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ رجوعك للراسخين في العلم أولئك الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إليهم لفهم القرآن، والتفريق بين محكمه ومتشابهه، وإياك والرجوع لأولئك الذين ارتضوا لليهود أن يفسروا كتابهم، فملأوه بكل أنواع الخرافة والدجل.
وقد روي أن بعضهم جاء للإمام علي، وطرح عليه الآيات المتشابهات، وطلب منه أن يفك غموضها له، وسأذكر لك بعض ما ذكره ليكون عبرة لك، ووسيلة تفهم من خلالها لغة القرآن الكريم ومقاصده.
فمن ذلك أنه سأله عن النسيان الوارد في القرآن الكريم والمضاف لله تعالى، فقال له الإمام علي: (فأما قوله تعالى: {نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ}إنما يعني نسوا الله في دار الدنيا لم يعملوا بطاعته، فنسيهم في الآخرة ـ أي لم يجعل لهم من ثوابه شيئاً، فصاروا منسيين من الخير، وكذلك تفسير قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا}يعني بالنسيان انه لم يثبهم كما يثيب أولياءه، والذين كانوا في دار الدنيا مطيعين ذاكرين حين آمنوا به وبرسوله وخافوه بالغيب.. وأما قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}فان ربنا تبارك وتعالى علواً كبيراً ليس بالذي ينسى، ولا يغفل; بل هو الحفيظ العليم، وقد يقول العرب: قد نسينا فلان فلا يذكرها، أي انه لا يأمر لهم بخير ولا يذكرهم به)
ومن ذلك أنه سأله عما ورد في القرآن الكريم من نسبة الحركة والتنقل لله تعالى، فقال له الإمام: (وأما قوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُوْنَا فُرَادَى}وقوله: {هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِي رَبُّكَ أَوْ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}فذلك كله حق، وليست جيئته جلّ ذكره كجيئة خلقه، فانه رب كل شيء من كتاب الله عزوجل يكون تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه تأويله بكلام البشر، وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن شاء الله تعالى، وهو حكاية الله عزوجل عن ابراهيم (عليه السلام) حيث قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إَلى رَبِّي سَيَهْدِيْن}فذهابه إلى ربه توجهه اليه في عبادته واجتهاده، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله، وقال: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج}وقال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيْدَ فِيْهِ بَأْسٌ شَدِيْدٌ} فانزاله ذلك خلقه إياه. وكذلك قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي الجاحدين، والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره، ومعنى قوله: {هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}فانما خاطب نبينا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هل ينتظر المنافقون والمشركون إلاّ أن تأتيهم الملائكة فيعاينونهم، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} يعني بذلك أمر ربك، والآيات هي العذاب في دار الدنيا كما عذب الاُمم السالفة والقرون الخالية، وقال: {أَوَ لَمْ يَرَواْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضُ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِها}يعني بذلك ما يهلك من القرون فسماه إتياناً)
إلى آخر حديثه الطويل، وفيه ما يدلك ـ أيها المريد الصادق ـ على ضرورة الرجوع للراسخين في العلم حتى تبتعد عن الشبهات التي يبثها أهل الزيغ لتحريف القرآن الكريم عن معناه الذي أراده الله.
ولذلك احذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تدخل عقلك فيما لا قدرة لك في فهمه؛ بل كله إلى الله تعالى، وحسبك منه ما أطقته؛ فإن قوما راحوا يتجرؤون على الحقائق القرآنية من غير أن يكون لديهم أدوات فهمها، ولا أن يحين زمان فهمها، فضلوا وأضلوا.
ولذلك قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53]
فمن القرآن الكريم ما لا يفهم معناه إلا بحصوله، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت: 53]
ولذلك كان التعامل الصحيح مع القرآن الكريم في الاقتصار على فهم ما وضح منه، أو كان له ارتباط بالحقائق والقيم، وما عدا ذلك ليس سوى تكلف ممقوت لا يصرف عن الحقائق فقط، بل يشوهها أيضا.
لهذا نهى الله تعالى المؤمنين في سورة الكهف عن البحث عن تفاصيل أخبار فتية أهل الكهف، لعدم وجود مصادر أمينة موثوقة يمكنها أن تعرف بحقيقتهم، أو تدل على الأحداث المرتبطة بهم، كما قال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 22]
فقد اعتبر القرآن الكريم مجرد الحديث عن عددهم من غير بينة رجما بالغيب، وهو من أعظم الكذب والزور والبهتان.
وهكذا الأمر عندما ذكر مدة لبثهم في الكهف، كما قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 25، 26]
ولذلك بدل انشغالك بما غاب عنك علمه، أو لا يضرك جهله، انشغل بالحقائق والقيم القرآنية التي لم ينزل القرآن الكريم إلا لأجلها، وقد قال بعض الحكماء ينصح مريدا له، متعجبا من إعراضه عن الحقائق القرآنية: (إني أنبهك على رقدتك، أيها المسترسل في تلاوتك، المتخذ دراسة القرآن عملا، المتلقف من معانيه ظواهر وجملا، إلى كم تطوف على ساحل البحر مغمضا عينيك عن غرائبها؟ أوما كان لك أن تركب متن لجتها لتبصر عجائبها؟ وتسافر إلى جزائرها لآجتناء أطايبها؟ وتغوص في عمقها فتستغني بنيل جواهرها؟ أوما تعير نفسك في الحرمان عن دررها وجواهرها بإدمان النظر إلى سواحلها وظواهرها؟ أوما بلغك أن القرآن هو البحر المحيط؟ ومنه يتشعب علم الأولين والآخرين كما يتشعب عن سواحل البحر المحيط أنهارها وجداولها؟ أوما تغبط أقواما خاضوا في غمرة أمواجها فظفروا بالكبريت الأحمر؟ وغاصوا في أعماقها فاستخرجوا الياقوت الأحمر، والدر الأزهر، والزبرجد الأخضر؟ وساحوا في سواحلها، فالتقطوا العنبر الأشهب، والعود الرطب الأنضر؟ وتعلقوا إلى جزائرها واستدروا من حيواناتها الترياق الأكبر، والمسك الأذفر؟) ([9])
ولذلك دعك ـ أيها المريد الصادق ـ من الجدل في القرآن والخصومة فيه، وابحث عن حقائقه التي تنفعك في دنياك وأخراك؛ فهو لم ينزل إلا لأجل ذلك، وقد قال ابن مسعود: (من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن)
وقد قال بعض الحكماء يشير إلى كيفية ذلك الفهم، ضارب المثل عنه بما ورد في حق الله تعالى وصفاته وأسمائه وأفعاله: (أعظم علوم القرآن تحت أسماء الله وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلّا أمورا لائقة بأفهامهم ولم يعثروا على أغوارها، وأمّا أفعاله فكذكره خلق السماوات والأرض وغيرها فليفهم التالي منها صفات الله وجلاله إذ الفعل يدلّ على الفاعل فيدلّ عظمته على عظمته فينبغي أن يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل، فمن عرف الحقّ رآه في كلّ شيء إذ كلّ شيء منه وإليه وبه وله فهو الكلّ على التحقيق) ([10])
وهكذا فيما ورد في القرآن الكريم من أحوال الأنبياء عليهم السّلام؛ (فإذا سمع منها كيف كذّبوا وضربوا وقتل بعضهم، فليفهم منه صفة استغناء الله تعالى عن الرسل والمرسل إليهم وأنّه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في ملكه وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر فليفهم قدرة الله وإرادته لنصرة الحقّ.. وأمّا أحوال المكذّبين كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته، وليكن حظّه منه الاعتبار في نفسه وأنّه إن غفل وأساء الأدب واغترّ بما أمهل فربما يدركه النقمة وتنفذ فيه القضيّة، وكذلك إذا سمع وصف الجنّة والنّار وسائر ما في القرآن، فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه لأنّ ذلك لا نهاية له وإنّما لكلّ عبد منه بقدر رزقه) ([11])
ولذلك كان الصالحون الذين قضوا حياتهم بصحبة القرآن الكريم يشيرون إلى عظم الحقائق التي يذكرها، وكثرتها، ووفائها بكل الحاجات، وقد قال الإمام عليّ (لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير فاتحة الكتاب)
ولن تصل إلى تلك المرتبة ـ أيها المريد الصادق ـ حتى تتخلص من كل الحجب التي تحول بينك وبين فهمه، وأولها الحجاب الذي أشار إليه قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، وهو حجاب الكبرياء والغرور والهوى..
فإذا تخلصت منه، وجلست بين يدي القرآن الكريم كالتلميذ بين يدي الأستاذ علمك الله، ولو من غير معلم، وقد قال بعض الصالحين يشير إلى ذلك: (لا يكون المريد مريدا حتّى يجد في القرآن كلّ ما يريد، ويعرف منه النقصان من المزيد، ويستغني بالمولى عن العبيد)
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لو لا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت)
وقد قال بعضهم معبرا عن هذا المعنى ومفسرا لسره عند تفسير قوله تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]: (معنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية، والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها.. وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس، والقطرة بالنسبة إلى البحر، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة.. فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر، والشعلة بالشمس) ([12])
ومن جملة تلك الموانع التي قد تصرفك ـ أيها المريد الصادق ـ عن فهم القرآن الكريم أن يكون همك (منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، فهذا يتولّى حفظه شيطان وكلّ بالقرآن ليصرفهم عن معاني كلام الله ولا يزال يحملهم على ترديد الحرف، يخيّل إليهم أنّه لم يخرج من مخرجه فهذا يكون تأمّله مقصورا على مخارج الحروف فأنّى ينكشف له المعاني، وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس) ([13])
ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (مقلّدا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصّب له بمجرّد الاتّباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة فهذا شخص قيّده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفا على مسموعه فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني الّتي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة، وقال: كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز عن مثله.. وهذا التقليد قد يكون باطلا فيكون مانعا كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكّن والاستقرار، فإن خطر له مثلا في القدّوس أنّه المقدّس عن كلّ ما يجوز على خلقه لم يمكّنه تقليده من أن يستقرّ ذلك في نفسه، ولو استقرّ ذلك في نفسه لا نجرّ إلى كشف ثان وثالث ولتواصل ولكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته تقليده الباطل وقد يكون حقّا ويكون أيضا مانعا من الفهم والكشف لأنّ الحقّ الّذي كلّف الخلق اعتقاده له مراتب ودرجات وله مبدأ ظاهر وغور باطن وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن كما ذكرناه من الفرق بين العلم الباطن والظاهر في كتاب قواعد العقائد) ([14])
ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (مصرّا على ذنب أو متّصفا بكبر أو مبتلى في الجملة بهوى في الدّنيا مطاع فإنّ ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه وهو كالخبث على المرآة فيمنع جليّة الحقّ من أن يتجلّى فيه وهو أعظم حجاب للقلب وبه حجب الأكثرون وكلّما كانت الشهوات أشدّ تراكما كانت معاني الكلام أشدّ احتجابا وكلّما خفّ عن القلب أثقال الدّنيا قرب تجلّى المعنى فيه فالقلب مثل المرآة والشهوات مثل الصدء ومعاني القرآن مثل الصور الّتي تتراءى في المرآة والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجلاء للمرآة)
وذلك شرط الله تعالى الإنابة في الفهم والتذكّر، فقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ق: 8]، وقال: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]
ومنها أن يكون القارئ للقرآن الكريم (قد قرأ تفسيرا ظاهرا واعتقد أنّه لا معنى لكلمات القرآن إلّا ما تناوله النقل عن ابن عبّاس ومجاهد وغيرهما وأنّ ما وراء ذلك تفسير بالرأي وأنّ من فسّر القرآن برأيه فقد تبوّأ مقعده من النّار، فهذا أيضا من الحجب العظيمة)([15])
تدبر القرآن:
المرتبة الثانية في التعامل مع الحقائق القرآنية ـ أيها المريد الصادق ـ بعد فهم معانيه، وعدم الحجاب عنها بأي نوع من أنواع الحجب هي تدبر القرآن الكريم.. فهو الذي يتيح لك أن تحول من الحروف القرآنية واقعا تعيشه في كل البيئات والأوقات، وبقلبك وعقلك وكل لطائفك.
وتدبر القرآن الكريم درجة تعلو على فهمه.. ذلك أن الفهم مهما رقى يظل محصورا في دوائر الألفاظ وحدودها.. وأما التدبر؛ فهو الذي يخرج من تلك الدوائر، ليعبر منها لكل شيء.
ومن الأمثلة على ذلك أن الذي يقرأ قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } [النساء: 11]، يفهم أن المراد منها وصية الله تعالى بالأحكام المرتبطة بالمواريث.. لكن التدبر يهديه إلى سر اختيار الله تعالى للفظ الوصية دون غيرها.. ثم يهتدي إلى أن الله تعالى أرحم بالأولاد من آبائهم، ذلك أنه هو الذي يوصي آباءهم بهم.. ثم يهتدي إلى رحمة الله الواسعة ولطفه بعباده.. وهكذا لا يزال يرتقي من معنى إلى معنى حتى يستفيد المعاني الكثيرة، والتي تتحول فيها كل آيات القرآن الكريم إلى معارف إلهية تملؤه باليقين والإيمان.
وهكذا ينزل من تلك الحقائق إلى القيم السلوكية التي تملأ حياته بالتقوى والصلاح؛ حتى تتحول صفات الله وأسماؤه الحسنى إلى قيم سلوكية يسير بها في حياته جميعا.
وهكذا؛ فإن التدبر يجعله لا يحصر القصص القرآني في البيئات التاريخية التي حصلت فيها الأحداث، وإنما يتجاوزها ليستنبط منها سنن الله تعالى في المجتمعات والتاريخ وغيرها، كما قال تعالى: { هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203]
وقد أشار إلى ذلك الإمام علي، فقال: (اليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، ومعرفة العبرة وسنة الاولين، فمن أبصر الفطنة عرف الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنما كان مع الاولين واهتدى إلى التي هي أقوم، ونظر إلى من نجا بما نجا، ومن هلك بما هلك، وإنما أهلك الله من هلك بمعصيته، وأنجا من أنجا بطاعته) ([16])
بل أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين أخبر عن تتبع هذه الأمة لسنن من قبلها، وذلك يعني أن ما ورد في القرآن الكريم ليس القصد منه التأريخ، وإنما الدعوة لأخذ العبرة، والحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟)([17])، وقال: (لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع)، قالوا: فارس والروم؟ قال: (فمن الناس إلا أولئك؟)([18])
وهكذا؛ فإن القارئ للقرآن الكريم لا يقرؤه كأجنبي عنه، وإنما يقرؤه باعتباره رسائل الله إليه، وأنها تنزلت من أجله، وكل ما فيه خطاب له، كما عبر عن ذلك بعضهم فقال: (من بلغه القرآن فكأنّما كلّمه الله تعالى، وإذا قدّر ذلك لم يتّخذ دراسة القرآن عمله بل قرأه كما يقرء العبد كتاب مولاه الّذي كتب إليه ليتأمّله ويعمل بمقتضاه)
وقال آخر: (هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربّنا بعهوده نتدبّرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات بالسّنن المتّبعات)
وقال آخر: (إن القرآن كلام الله يكلم به عباده، وهم لا يشعرون، وكتاب بعث إليهم بالخصوص وهم لا يدرون، لاهية قلوبهم كأنهم يظنون أنه وجد اتفاقا، فصاروا يأخذون منه أحكامهم وليسوا بالمقصودين في علم)([19])
وقال آخر: (فمن فتح الله بصيرته يراه الآن يتنزل به الروح الأمين، وإذا قرأه يقرأه من إمام مبين، وأعظمهم درجة من يتلقاه من أرحم الراحمين وقليل ما هم)([20])
وقد سمى بعض الحكماء هذا المعنى بـ (الترقي)، وعرفه بأن (يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه)([21])
وبين أن القراءة النافعة ثلاث درجات، ولكل درجة السلوك الخاص المرتبط بها ([22]):
الأولى، وهي أدناها أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفا بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال.
والثانية، وهي أرفع من التي قبلها: أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم
والثالثة، وهي أعلى الجميع: أن يرى في الكلام المتكلم، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه، بل يكون مقصور الهم على المتكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره، وقد عبر عن هذه الدرجة الإمام الصادق فقال: (والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون)، وقال، وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشيا عليه فلما سرى عنه قيل له في ذلك فقال: (ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم)([23])
وبهذا تصبح كل آيات القرآن الكريم مؤثرة، وفي جميع مناحي الحياة، حتى ما تعلق من ذلك بالأمم السابقة، كما عبر عن ذلك بعض الحكماء، فقال: (ومهما اعتبرنا ما بين دفتي المصحف كتابا من الله جل ثناؤه وصل إلينا بالخصوص لزمنا أن لا نحمل ما أوعد الله أو وعد به على غيرنا من الأمم، فمهما ثبت الاستحقاق في شخص بشيء من ذلك فيكون هو المقصود نفسه بذلك الخطاب، وهكذا سائر الأوامر والنواهي والترغيبات والترهيبات، وهذا وجه كون الكتاب إلينا) ([24])
ورد على ما قد يتعقب عليه به مما تذكره عادة كتب التفسير من رد أسباب النزول إلى أشخاص معينين أو أحداث معينة بأن سبب النزول مرتبط فقط بابتداء النزول، يقول في ذلك: (وأما كون الآية نزلت في فلان أو فلان، إنما ذلك الشخص سبب لابتداء تهيئ الجنس المستحق لذلك الوصف أو الحكم، والمعتبر من خطاب الله عموم اللفظ لا خصوص السبب) ([25])
وسر ذلك كله ـ أيها المريد الصادق ـ يعود إلى حقائق الروح الإنسانية؛ فـ (الأرواح جنود مجندة متساوية في تعلق الخطاب بها ليست متعاقبة الوجود كتعاقب الأجسام، فأرواح المنافقين مثلا من عهد رأس المنافقين الأولين إلى خاتمهم يشملهم وعد المنافقين، فتكون آية المنافقين نزلت في كل فرد من ذلك الجنس، وقس على ذلك أنواع المخاطبين، وإلا كان الكثير من ألفاظ التنزيل في حيز التعطيل) ([26])
وبناء على هذا؛ فكل القرآن الكريم ـ عند المتدبر له ـ حي ليس فيه أي حرف أو كلمة أو جملة معطلة.. فلا حروف زائدة، ولا مكرر.. بل حتى ما ورد في شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له أهله من الورثة، كما أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحمة الله على خلفائي)، قالوا: من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: (الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله)([27])
وبهذا المعنى للتدبر يتحقق ما ورد في النصوص المقدسة من كون القرآن الكريم الكتاب المبين لكل شيء، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 89]
ذلك أن التدبر يجعل المعاني القرآنية غير محصورة في وجه واحد، بحيث يصح فهم واحد منها دون ما عداه، أو يصبح ما عداه معارضا لما قبله، بل القرآن الكريم حمال وجوه، وهو بذلك لا تتعارض فيه المعاني، كما نص على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن للقرآن ظاهرا وباطنا وحدا ومطلعا)([28])، وقال: (القرآن لا تنقضي عجائبه)([29])
ولذلك، فإن المتدبر فيه يرى في كل حين من عجائبه ما لم يكن يراه من قبل، ولهذا يستفيد في كل حل أو ترحال فوائد جديدة لم تكن تخطر على بال، وقد عبر عن ذلك بعض الصالحين، فقال: (ثلان أحبهن لي ولإخواني، وذكر منها أن هذا القرآن يتدبره الرجل ويتفكر فيه، فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه)
واحذر ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا من أولئك الذين يوهمونك في انحصار المعاني القرآنية فيما وردت به كتب التفسير، أو فيما ذكره السلف أو الخلف.. فإن ذلك يدعو إلى إلغاء التدبر الذي أمرنا به.
وقد قال بعضهم يرد على من توهم هذا: (ولعل القائل يقول: قد كفانا الله ما أهمنا من استخراج جواهره على يد من تقدمنا، فأقول، وإذن لضاع حظنا من التدبر فيه، وحاشا لله فلا يقول بهذا عاقل، ولا من هو بالإيمان حافل، فإن كان ذلك لم لم يكتف أهل القرن الثاني على الكلام فيه بكلام من تقدمهم من أهل القرن الأول وأهل الثالث بالثاني، وهكذا.. فدل هذا على أن الحق جل ذكره لم يخصص بالتدبر جيلا دون جيل وأيضا لو كان التخصيص يشعر بانقضاء معانيه والحالة بخلاف ذلك)([30])
لكن كل ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ لا يمكن أن يتحقق ما لم تتهيأ النفس لتنزلات الفهم الصحيح، والتدبر العميق؛ فكما أن ظاهر التفسير يحتاج إلى علوم وآلات، فكذلك باطن المعاني يحتاج إلى قلب صالح لاستقرار المعاني الإيمانية فيه.
وقد عبر بعض الحكماء عن ذلك، فقال: (ولا يقع على علومه ويتفرس في وجوهه إلا مفتوح عليه، وأما المحجوب فإنه ينادى من مكان بعيد، ويسمع من وراء حجاب، فهو أبعد من أن يتناول الغاية من ظواهره، فكيف بباطنه، وأين هو من حده ومطلعه، ومن فتح الله عليه بالتوصل إلى شيء من ذلك لا يبعد أن يقول كما قال الإمام علي: (لوشئت لوقرت أربعين وقرا من شرح الفاتحة)، ولعلك تقول أين الإمام علي وأين علومه؟ فأقول: يا لله العجب، ومع ذلك لم يحتفل به من أهل زمانه إلا القليل، حتى كان يقول: أنا جنب الله الذي فرطتم فيه، وهو على المنبر والمفرط فيه هو المفرط الآن في أهل زمانه) ([31])
هذه ـ أيها المريد الصادق ـ إجابتي على أسئلتك؛ وقد أتحت بين يديك فيها
معالم للفهم والتدبر، يمكنها أن تنقلك إلى رحاب واسعة من القرآن الكريم، فلا تفرط
فيها، واحرص على أن تنقل كلمات ربك من الأوراق التي كتب فيها، إلى سجل قلبك؛ حتى
تتحقق لك الصحبة الحقيقية معه.. فلا ينتفع به إلا من صار صاحبا له.
([1]) تحف العقول ص 204.
([2]) رواه أبو ذر الهروي في معجمه.
([3]) ابن ماجه تحت رقم 1350.
([4] ) الكافى: ج 2 ص 602.
([5] ) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء؛ ج2؛ ص237
([6] ) البخاري (4547) ومسلم (2665)
([7] ) تفسير الطبري (6/192) ، ورواه الآجري في الشريعة (ص 332)
([8] ) تفسير القمى: 745.
([9] ) جواهر القرآن (ص: 21)
([10] ) إحياء علوم الدين (1/ 283)
([11] ) إحياء علوم الدين (1/ 284)
([12] ) تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (27/ 561)
([13] ) إحياء علوم الدين (1/ 284)
([14] ) إحياء علوم الدين (1/ 284)
([15] ) إحياء علوم الدين (1/ 285)
([16] ) بحار الأنوار (68/ 351)
([17] ) رواه البخاري ومسلم.
([18] ) رواه البخاري.
([19]) البحر المسجور، ص17.
([20]) البحر المسجور، ص18.
([21]) إحياء علوم الدين (1/ 287)
([22]) إحياء علوم الدين (1/ 287)
([23]) إحياء علوم الدين (1/ 287)
([24]) البحر المسجور، ص23.
([25]) البحر المسجور، ص24.
([26]) البحر المسجور، ص24.
([27]) رواه ابن عبد البر في العلم والهروي في ذم الكلام .
([28]) رواه ابن حبان في صحيحه
([29]) الترمذي (5/ 172)
([30]) البحر المسجور:ص 11.
([31]) البحر المسجور:ص 11.