المعارج القرآنية

المعارج القرآنية
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن سر ما ورد في النصوص المقدسة من فضائل بعض الآيات أو السور القرآنية، وعلاقة ذلك بالتزكية والترقية، وهل يمكن الاستفادة من تلك الفضائل في استخراج الآيات والسور المشابهة لها؟
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أنه يمكن تشبيه أدوار ووظائف القرآن الكريم في النفس بتشبيهات كثيرة، تقرب حقيقة علاقته بنا، وعلاقتنا به.
فهو بالنسبة للمرضى وأصحاب النفوس الأمارة واللوامة بشبه الصيدلية الكبيرة التي تحوي كل أصناف الأدوية، التي تعالج كل الأمراض، ولذلك فإن من قرأه جميعا، وبتدبر وتفهم وصدق وإخلاص؛ فسينال بغيته من الشفاء من كل علله وأدوائه.
لكنه مع ذلك قد يكون محتاجا إلى علاج خاص لأمراض معينة، فلذلك يُنصح بآيات أو سور تتناسب مع حالته؛ فلا يكتفي بترديدها المرة أو المرتين، بل يحتاج إلى التكرار الكثير لها، لتستقر معانيها في نفسه، مثلما يفعل الدواء الذي يحتاج إلى مقادير خاصة ليقوم بدوره في مواجهة الداء.
وهو بالنسبة للسالكين طريق التخلق والتحقق، معارج ومدارج للنفس لتسير نحو الكمال المتاح لها.. فكل سورة من سوره معراج خاص لعالم من عوالم الحقائق والقيم، ولذلك تحتاج النفس ـ بحسب أحوالها ـ إلى المعارج الخاصة بها، والتي تتناسب مع حالتها، كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها)([1])
بالإضافة إلى ذلك كله؛ فإن القرآن الكريم يحوي الكثير من الأسرار الغيبية المرتبطة بحياة الناس في صحتهم ومرضهم وفقرهم وغناهم ونفعهم وضرهم.. وقد أودع الله تعالى في سوره وآياته ما يفي بتلك الحاجات، ولذلك كان لكل سورة وظيفتها ودورها الخاص بها.
وهذه الأمور الثلاثة وغيرها كثير هي التي تيسر عليك ـ أيها المريد الصادق ـ فهم ما ورد في فضائل الآيات والسور من معان، مع العلم أن بعضها غيب محض، لا يمكن لعقلك المجرد أن يعرفه، وبعضها يمكنك التعرف عليه بالتأمل والتدبر، وبعضها واضح لا يحتاج إلى كل ذلك.
وحتى يتيسر عليك فهم الجميع، فاعلم أن كل سورة من القرآن الكريم بمثابة الكائن الحي الذي خصصت له أدوار معينة؛ فهو يؤديها كما طلبت منه.
وإن شئت تقريبا لذلك، فانظر إلى العناصر المختلفة الموجودة في الطبيعة، وما تحتوي عليه من خصائص، وما يمكن أن يستفاد منها بسببها؛ فكذلك القرآن الكريم؛ فكل سورة أو آية منه عالم من العوالم التي يمكنها أن تنقلنا إلى محال السعادة التي خصصت لها.
وكمثال على ذلك ما ورد في فضائل سورة الملك، والتي ورد في الأحاديث المتفق عليها عند الأمة جميعا بأنها تقي صاحبها من عذاب القبر؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي سورة تبارك الذي بيده الملك) ([2])
وهذا يعني أن القارئ الملازم لها، والذي يكون له بها مزيد عناية ورعاية، حفظا وفهما وقراءة وتدبرا، تؤدي حقه بشكرها له بالشفاعة فيه.
وقد صور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (يؤتى الرجل في قبره فتؤتى رجلاه فتقول رجلاه: ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك، ثم يؤتى من قبل صدره أو قال بطنه فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك، ثم يؤتى رأسه فيقول ليس لكم على ما قبلي سبيل كان يقرأ بي سورة الملك. قال: فهي المانعة تمنع من عذاب القبر، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب) ([3])
وذكر ابن مسعود اهتمام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها لأجل ذلك، فقال: (من قرأ (تبارك الذي بيده الملك) كل ليلة منعه الله بها من عذاب القبر، وكنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسميها المانعة، وإنها في كتاب الله سورة من قرأ بها في كل ليلة فقد أكثر وأطاب) ([4])
وعن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى قال: (اقرأ (تبارك الذي بيده الملك) وعلمها أهلك وجميع ولدك، وصبيان بيتك وجيرانك، فانها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها، وتطلب له أن ينجيه من عذاب النار، وينجو بها صاحبها من عذاب القبر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لودت أنها في قلب كل إنسان من أمتي)([5])
تأمل ـ أيها المريد الصادق ـ هذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المنتجبين، ومثلها كثير عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن أئمة الهدى من بعده.. وسترى كيف تتغير نظرتك للسور القرآنية، فهي ليست مجرد كلمات ترددها، أو معان تتفهمها، بل إن كل سورة أو آية كائن حي، يمكنك بمداومة الصحبة له، وعقد الألفة بينك وبينه أن تستفيد منه كل ما يغنيك في دنياك وأخراك.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في حق البسملة التي شرفها الله تعالى بأن تذكر مع كل سورة قرآنية، بل مع كل عمل، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كونها مصدرا لبركة كل ما تفتتح به، ومحق كل ما لم تفتتح به، فقال: (من حزنه أمر تعاطاه فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم } وهو يخلص لله، ويُقبل عليه بقلبه إليه، لم ينفك عن إحدى اثنتين: إمّا بلوغ حاجته، وإما ما يعد له ويدخر لديه، وما عند الله خير وأبقى)([6])
وقال الإمام السجاد: (قولوا عند افتتاح كلّ أمرٍ صغيرٍ أو عظيمٍ: ({ بسم الله الرحمن الرحيم }، أي أستعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحقّ العبادة لغيره، المغيث إذا استُغيث، والمجيب إذا دُعي، {الرحمن } الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفّف علينا الدِّين وجعله سهلاً خفيفاً، وهو يرحمنا بتميّزنا عن أعدائه)([7])
بل إن القرآن الكريم نفسه أشار إلى ذلك، فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]
وبذلك يمكن تصور البسملة بصورة الكائن الحي الذي بمجرد أن تردد ألفاظه بلسانك، وتستقر معانيه في قلبك، يقوم بالأدوار المكلف بها خير قيام.
وكيف لا يكون للبسملة تلك الأدوار، وهي تحوي كل الحقائق المرتبطة بجميع الأشياء أعيانها وأحداثها، ولذلك كان في ذكرها تذكيرا للنفس بأن ما تقدم عليه هو من الله وبتوفيقه وبركته، وتحذر في نفس الوقت من أن تمارس بذلك ما يخالف رضا ربها الذي وهبها تلك النعم.
وهكذا الأمر بالنسبة لسورة الفاتحة، التي هي أم الكتاب، والتي اختصر الله تعالى فيها كل الحقائق والقيم، لتذكرها النفس بسهولة ويسر، ولذلك ورد الأمر بقراءتها في كل صلاة، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداجٌ ـ ثلاثا ـ غير تمام)([8])
وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سر ذلك، فقال حاكيا عن ربه عز وجل: (قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الفاتحة: 2)، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 3)، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4)، قال: مجدني عبدي فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6، 7)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)([9])
وتذكر هذا الحوار أثناء قراءتها ـ أيها المريد الصادق ـ له دور كبير في التواصل مع الله تعالى، والشعور بقربه ورحمته وكرمه ولطفه.. وذلك مما يهذب النفس ويزكيها، ويرفعها إلى أعلى درجات الكمال.
ولهذا ذكر الإمام الصادق أنها كانت بمثابة الطامة الكبرى على المشروع الشيطاني، فقال: (إنّ إبليس رنّ رنيناً لمّا بعث الله نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم على حين فترة من الرسل، وحين أُنزلت أمّ القرآن)([10])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن نعمة الله عليه وعلى أمته بها، فقال: (منّ عليّ ربّي وقال لي: (يا محمّد.. أرسلتك إلى كلّ أحمر وأسود، ونصرتك بالرّعب، وأحللت لك الغنيمة، وأعطيتك لك ولأمّتك كنزاً من كنوز عرشي: (فاتحة الكتاب، وخاتمة سورة البقرة)([11])
وعن ابن عباس قال: بينما جبريل عليه السلام قاعدٌ عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: (هذا باب من السماء لم يفتح إلا اليوم، فنزل منه ملكٌ)، فقال: (هذا ملكٌ نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته)([12])
ومثل ذلك ما ورد في فضائل سورة البقرة وآل عمران، فقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن الكثير من الخصائص التي خصهما الله بها، ومنها ما عبر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما فرقانٌ من طير صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرأوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرةٌ ولا تستطيعها البطلة)([13]) وفي رواية: (ما من عبد يقرأ بها في ركعة قبل أن يسجد ثم سأل الله شيئا إلا أعطاه إن كادت لتحصى الدين كله) ([14])
فهذا الحديث يؤكد ما ذكرته لك ـ أيها المريد الصادق ـ من أن السور القرآنية بمثابة الكائنات الحية التي كلفت بوظائف خاصة لا تنال إلا من هو أهل لها.. ولذلك كان لقراءتها والاهتمام بها وصحبتها تأثيرها الكبير في تحصيل تلك المنافع الخاصة بها.
ويشير إلى ذلك ما ورد في فضل سورة الكهف؛ فقد روي أن رجلا كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرسٌ مربوطة بشطنين فتغشته سحابةٌ فجعلت تدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك، فقال: (تلك السكينة تنزلت للقرآن) ([15])
وهو ما يشير أيضا إلى أن كل تلك المعاني من السكينة والرحمة وغيرها ليست مجرد وجودات ذهنية، وإنما لها وجودها الواقعي.. وفي هذا الحديث إشارة إلى أن قراءة سورة الكهف سبب لتنزل السكينة.
وذلك يشبه ـ أيها المريد الصادق ـ ما تحدثه تلك الأدوية أو الأغذية المفرحة التي إذا تناولها الإنسان يشعر بالفرح، وتزول عنه الكآبة.. فهكذا الذي يقرأ تلك السور الخاصة بهذا، يعطيه الله تعالى ما يرتبط بها من السكينة والفرح والسرور.
وقد أشار إلى ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن سورة الشرح: «من قرأها أعطاه الله اليقين والعافية، ومن قرأها على ألمٍ في الصدر وكتبت له شفاه الله»([16])
وقال الإمام الصادق: (إذا عسر عليك أمر، فصلّ عند الزوال ركعتين تقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وقل هو اللّه أحد وإنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً إلى قوله وينصرك اللّه نصراً عزيزاً، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وقل هو اللّه أحد وألم نشرح لك صدرك) ([17])
فالحقائق التي تحويها هذه السور جميعا لها تأثيرها في إزالة الكرب والكآبة؛ فسورة الشرح مثلا تتحدث عن الهبات الإلهية، وتُذكّر بأيام المحن والصعاب التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف يسر الله له تجاوزها، وتذكر بأن الله تعالى سيبدل العسر بيسرين.. وغيرها من المعاني التي تحويها السورة، والتي لها آثارها الكبيرة في إزالة الوحشة والكآبة.
ولهذا يعتبرها الحكماء علاجا للكآبة، وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك:
إذا ضاقت بك الدنيا… ففكر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين… متى تذكرهما تفرح
ومثل ذلك ما ورد في سورة يس، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن فضلها والخواص المرتبطة بها، فقال: (لكل شيء قلبٌ وقلب القرآن يس، ومن قرأها كتب له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات دون يس) ([18])، وقال: (من قرأ يس في صدر النهار قضيت حوائجه) ([19])
وروي عن أئمة الهدى الكثير من الأحاديث في فضلها، ومنها ما حدث به الإمام الصادق، قال: (إنّ لكلّ شيءٍ قلب، وقلب القرآن يس، من قرأها في نهاره قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليلة قبل أن ينام، وكل الله به ألف ملك يحفظونه من شرّ كلّ شيطانٍ رجيم، ومن كلّ آفة، وإن مات في يومه أو في ليلته أدخله الله الجنة، وحضر غسله ثلاثون ألف ملك كلهم يستغفرون له، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، فإذا أُدخل في لحده كانوا في جوف قبره، يعبدون الله وثواب عبادتهم له، وفُسح له في قبره مدّ بصره، وأُومن من ضغطة القبر، ولم يزل له في قبره نورٌ ساطعٌ إلى أعنان السماء إلى أن يُخرجه الله من قبره، فإذا أخرجه لم يزل ملائكة الله معه، يشيّعونه ويحدّثونه ويضحكون في وجهه، ويبشّرونه بكلّ خيرٍ حتى يجوزوا به الصراط والميزان، ويوقفوه من الله موقفاً لا يكون عند الله خلقاً أقرب منه، إلا ملائكة الله المقرّبون، وأنبياؤه المرسلون، وهو مع النبيين واقفٌ بين يدي الله، لا يحزن مع من يحزن، ولا يهتم مع من يهتم، ولا يجزع مع من يجزع، ثم يقول له الربّ تبارك وتعالى: (اشفع عبدي !.. أُشفّعك في جميع ما تشفع، وسلني عبدي !.. أُعطك جميع ما تسأل، فيسأل فيُعطى، ويشفع فيُشفّع، ولا يُحاسب فيمن يُحاسب، ولا يُوقف مع من يُوقف، ولا يُذلّ مع من يُذلّ، ولا يكبّت بخطيئةٍ، ولا بشيءٍ من سوء عمله، ويُعطى كتاباً منشوراً، حتى يهبط من عند الله، فيقول الناس بأجمعهم: (سبحان الله !.. ما كان لهذا العبد من خطيئة واحدة، ويكون من رفقاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم)([20])
وقال: (علّموا أولادكم ياسين، فإنّها ريحانة القرآن)([21])
ومثلها ما ورد في فضائل سورة الواقعة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا) ([22])
وقال: (سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم) ([23])
وقال: (علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى) ([24])
وغيرها من الأحاديث الكثيرة التي تؤكد علاقة هذه السورة الكريمة بالغنى ودفع الحاجة، ومما ورد عن أئمة الهدى في فضلها قول الإمام الصادق: (مَن قرأ في كلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه الله وأحبّه إلى الناس أجمعين، ولم يرَ في الدنيا بؤساً أبداً، ولا فقراً ولا فاقة ولا آفة من آفات الدنيا)([25])
وقال الإمام الباقر: (مَن قرأ الواقعة كلّ ليلةٍ قبل أن ينام، لقي الله عزّ وجلّ ووجهه كالقمر ليلة البدر)([26])
هذه مجرد أمثلة أوردتها لك ـ أيها المريد الصادق ـ لتعلم ما في القرآن الكريم من الخصائص والوظائف التي لا يمكن أن يستفيد منها من لم يعرفها؛ فلذلك احرص على صحبة كل آية من آياته، وسورة من سوره، حتى تنال آثارها وثمارها جميعا.
وإن أردت أن تعرف أسرار الفضائل الخاصة بها؛ فاعلم أن ذلك يعود لسببين، كلاهما تنزل من أجله القرآن الكريم، أولهما: الحقائق.. وثانيهما القيم.
وبما أن الفاتحة تشتمل على مجامع كليهما، فقد ورد فيها ذلك الفضل الخاص، واعتبرت أم القرآن، وقد قال بعض الحكماء عنها: (إذا تفكرتَ وجدت الفاتحة على إيجازها مشتملةً على ثمانية مناهج: فقوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ}: نبأٌ عن الذَّات.. وقولُهُ {الرحمن الرَّحِيمِ}: نبأٌ عن صفة من صفات خاصة، وخاصيتها أنها تستدعي سائر الصفات من العلم والقدرة وغيرهما ثم تتعلق بالخلق، وهم المَرْحومُون، تعلُّقاً يُؤْنِسُهم به، ويُشَوِّقُهم إليه، ويُرَغِّبُهم في طاعته، لا كوصف الغضب، لو ذكره بدلاً عن الرحمة فإن ذلك يُحزِنُ ويخوِّف، ويقبض القلب ولا يشرحه.. وقولُهُ {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين}: يشتمل على شيئين: أحدهما: أصل الحمد وهو الشكر، وذلك أول الصراط المستقيم، وكأنه. شَطْرُه، فإن الإيمانَ العملي نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شُكر، كما تعرف حقيقةَ ذلك.. والثاني: قوله تعالى {رَبِّ العالمين} إشارة إلى الأفعال كلها، وإضافتُها إليه بأُوْجَزِ لفظٍ وأَتَمِّهِ إحاطةً بأصنافِ الأفعالِ لفظُ ربِّ العالمين.. وقولُهُ ثانياً: {الرحمن الرَّحِيمِ} إشارة إلى الصفة مرة أخرى، ولا تظنّ أنه مكرر، فلا تَكَرُّرَ في القرآن، إذ حَدُّ المُكَرَّر ما لا ينطوي على مزيدِ فائدة؛ وذِكرُ الرحمة بعد ذِكرِ العالَمين وقبلَ ذكر مالك يوم الدين ينطوي على فائدتين عَظيمَتَيْن في تفضيل مجاري الرحمة: إحداهما: تلتفت إلى خَلْقِ ربِّ العالمين: فإنه خَلَقَ كلَّ واحد منهم على أكمل أنواعهِ وأفضَلِها.. وثانيها: تعلُّقُها بقوله {مالك يَوْمِ الدين}: فيشيرُ إلى الرحمة في المَعادِ يومَ الجزاءِ عند الإنعام بالمُلْكِ المؤَبَّدِ في مقابَلةِ كلمةٍ وعبادة.. وأما قولُه: {مالك يَوْمِ الدين}: فإشارةٌ إلى الآخِرَة في المَعاد، وهو أحد الأقسام من الأصول، مع الإشارة إلى معنى المَلَك والمَلِك، وذلك من صفات الجلال) ([27])
إلى آخر كلامه الذي يبين ما في سورة الفاتحة من الحقائق والقيم العظيمة التي لم يكن لسورة الفاتحة ذلك الفضل العظيم من دونها.
معارج الحقائق:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الفضائل العظيمة لبعض آيات القرآن الكريم وسوره ترتبط بالدرجة الأولى بالحقائق العظيمة التي تحملها، وقد أشار إلى ذلك بعض الحكماء، فقال ـ ردا على من يستغرب التفاضل بين السور القرآنية ـ: (اعلم: أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات وبين سورة الإخلاص وسورة تبت، وترتاع من اعتقاد الفرق نفسك الجوارة، المستغرقة بالتقليد، فقلد صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الذي أنزل عليه القرآن، وقد دلت الأخبار على شرف بعض الآيات، وعلى تضعيف الأجر في بعض السور المنزلة، والأخبار الواردة في فضائل قوارع القرآن، بتخصيص بعض الآيات والسور بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى، فاطلبه من كتب الحديث إن أردته) ([28])
ولهذا كان لسورة الإخلاص ذلك الفضل العظيم، باعتبارها ثلث القرآن، لما احتوت عليه من المعارف العظيمة المرتبطة بالله تعالى، ففي الحديث أن رجلا سمع آخر يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الاخلاص:1) يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فذكر ذلك له – وكأن الرجل يتقالها – فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن) ([29])
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ في كل ليلة ثلث القرآن)، قالوا: نحن أعجز من ذلك وأضعف، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل جزا القرآن ثلاثة أجزاء فجعل قل هو الله احد جزءا من أجزاء القرآن) ([30])
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث رجلا على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحدٌ؛ فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؛ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأ بها، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أخبروه أن الله يحبه) ([31])
وسؤال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن سر حب الرجل لها دليل على أن فضلها لا يرتبط بالقراءة فقط، وإنما بالدافع لها أيضا، فمن قرأها لأجل الاستعاذة تحقق له مقتضاها، ومن قرأها تعظيما لله، وحبا لصفاته، استحق محبة الله.
ولهذا عندما سئل الإمام الرضا عن التوحيد قال: (كل من قرأ قل هو الله أحد وآمن بها فقد عرف التوحيد)، فقيل له: كيف نقرأها قال: (كما يقرأ الناس، وقولوا بعدها: كذلك الله ربي، كذلك الله ربي) ([32])
ومثل ذلك ما ورد في آية الكرسي من فضائل، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة، وفيها آيةٌ هي سيدة آي القرآن آية الكرسي) ([33])
وفي حديث آخر عن أبى بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (يا أبا المنذر، أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟)، فقال: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على صدره، وقال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر)([34])
وعن الإمام الصادق أنه قال: (إن الشياطين يقولون: لكل شئ دزوة ودزوة القرآن آية الكرسي، من قرأها مرة صرف الله عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا، وألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر، وأيسر مكروه الاخرة عذاب القبر، وإني لاستعين بها على صعود الدرجة) ([35])
ومثل ذلك ما ورد في فضل آخر سورة الحشر، وهي قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الحشر: 22 – 24]
فقد وردت الأحاديث الكثيرة في فضلها، لما اشتملت عليه من المعارف والحقائق الكبرى، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قال حين يصبح عشر مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة)([36])
وقال الإمام الحسن: (مَن قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر إذا أصبح فمات من يومه ذلك، طُبع بطابع الشهداء، وإن قرأ إذا أمسى فمات في ليلته طُبع بطابع الشهداء)([37])
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تخص الآيات التي ورد فيها أسماء الله الحسنى وصفاته العليا بالمزيد من العناية حتى تترسخ معانيها في نفسك، وحتى تكون سببا لترقيك في مقامات العرفان التي لا حدود لها؛ فقد روي عن الإمام علي أنه قال: (فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير ان يكونوا رأوه) ([38])
معارج القيم:
أما معارج القيم ـ أيها المريد الصادق ـ فهي كل السور والآيات المرتبطة بالسلوك والأخلاق والمواقف والمعايير والموازين التي توزن بها الأمور..
ومن الأمثلة عن اعتبارها في فضائل السور والآيات القرآنية ما ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث بعثا، فاستقرأهم فقرأ كل رجل ما معه من القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال: (ما معك أنت يا فلان؟)، قال: معي كذا وكذا وسورة البقرة، قال: (أمعك سورة البقرة؟)، قال: نعم.. اذهب فأنت أميرهم، فإنها إن كادت لتحصى الدين كله)، فقال رجلٌ من أشرافهم: والله ما منعني يا رسول الله أن أتعلمها إلا خشية أن لا أقوم بما فيها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (تعلموا القرآن واقرأوه وقوموا به، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشو مسكا يفوح بريحه كل مكان، ومثل من تعلمه ويرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكى على مسك)([39])
فهذا الحديث يشير إلى مراعاته صلى الله عليه وآله وسلم لسورة البقرة أثناء توليته لذلك الذي هو أحدثهم سنا، باعتبارها السورة التي تحوي كل حقائق الدين وقيمه، كما عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وفي هذا تنبيه بليغ للأمة في عدم مراعاة السن أثناء اختيار أصحاب الوظائف والمناصب، وهو ما لم يحصل في الواقع التاريخي الإسلامي، وبعد النبوة مباشرة، وقد كان ذلك سببا لكل الفتن التي حصلت بعد ذلك.
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن خاصية أخرى لسورة البقرة، فقال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) ([40])
وفي هذا إشارة إلى تلك المعاني الكثيرة التي تحتوي عليها سورة البقرة، والتي لها دورها الكبير في حفظ الأسرة من أن يتدخل الشيطان لينشر القطيعة بينها.
وهكذا ورد فضل الآيات التي تشير إلى القيم الروحية، ومنها ما ورد في حق قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286]، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)([41])
ومثلها ما ورد في أواخر سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)} [آل عمران: 190 – 194]
فقد حدثت عائشة عن أثر هذه الآيات على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما نزلت عليه، فقالت لمن سألها عن أعجب شيء رأته منه صلى الله عليه وآله وسلم، فَبَكَتْ، وقالت: كُلُّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي، فقال: ذريني أتعبد لربي، فقلت: والله إني لأحب قربك، وإني أحب أن تَعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فبكى حتى بل لحيته، ثم سجد فبكى حتى بَل الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى، حتى إذا أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح قالت: فقال: يا رسول الله، ما يُبكيك؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر، فقال: (ويحك يا بلال، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل عليّ في هذه الليلة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ}، ثم قال: (ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)([42])
وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (ينادي مناد يوم القيامة أين أولوا الألباب قالوا: أي أولوا الألباب تريد؟ قال: { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم: (ادخلوها خالدين) ([43])
ومثلها ما ورد في فضل سورة الكهف، وارتباطها بالحفظ من فتن الدجال، وذلك لما احتوت عليه من المعاني الكثيرة التي تعصم قارئها من تلك الفتن ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال عصم منه) ([44])
ومثل ذلك وردت النصوص بقراءة فواتح سورة الكهف، ففي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف) ([45])، وقال: (وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلى بنار فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون بردا وسلاما كما كانت النار على إبراهيم)([46])
فالعنصر الغالب في هذه السورة هو القصص: ففي أولها قصة أصحاب الكهف، وبعدها قصة الجنتين، وفي وسطها تجيء قصة موسى مع العبد الصالح، وفي نهايتها قصة ذي القرنين.. وهذه القصص تستغرق معظم آيات السورة، فهي واردة في إحدى وسبعين آية من عشر ومائة آية؛ ومعظم ما يتبقى من آيات السورة هو تعليق أو تعقيب على القصص فيها.. وفي كل قصة من القصص حصن من الحصون التي تحمي من الدجال وفتنه([47]).
وهكذا ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك أن تخص بعض الآيات المرتبطة بالقيم الأخلاقية والروحية بالمزيد من عنايتك لعل الله ييسر لك الاتصاف بمعانيها.
ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في صفات عباد الرحمن، والتي تصف الشخصية المسلمة بجميع جوانبها الأخلاقية والروحية، وكونهم {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 63 – 68]، وغيرها من أوصافهم.
ومثلها تلك الآيات التي تصف الأبرار، وكونهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 7 – 10]
ومثلها تلك التي تصف {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [الحج: 35]
ومثلها تلك التي تصف {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [الأنفال: 2 – 4]
ومثلها تلك التي تصف المؤمنين بأنهم {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 112]
وغيرها من الآيات الكريمة التي جعلها الله معارج للنفس، لتخرج بها من أهوائها
وتصوراتها الخاطئة للقيم النبيلة.. وتبني قيمها ومواقفها على أساس تلك المعايير
التي ذكرها القرآن الكريم.
([1]) الترمذي (2914)، وأبو داود (1464)
([2]) أبو داود (1400) والترمذي (2891)
([3]) الحاكم (3839) وعبد الرزاق (8651)
([4]) رواه النسائي في السنن الكبرى (10547) وفي عمل اليوم والليلة (711)
([5]) بحار الأنوار (92/ 314)
([6]) بحار الأنوار: 89/245.
([7]) تفسير الإمام ص9 ـ 24.
([8]) مسلم (395)، والترمذي (2953)، والنسائي 2/135- 136.
([9]) مسلم (395)، والترمذي (2953)، والنسائي 2/135- 136.
([10])تفسير القمي ص26.
([11]) معاني الأخبار ص50، العلل 1/121.
([12]) مسلم (806)، النسائي 2/138.
([13]) مسلم (804).
([14]) مسلم (804).
([15]) البخاري (4839)، ومسلم (795).
([16]) البحراني، تفسیر البرهان، ج 10، ص 183.
([17]) القمي، سفينة البحار، ج 5، ص 166.
([18]) الترمذي (2887)
([19]) الدارمي (3418)
([20]) ثواب الأعمال ص100.
([21]) أمالي الطوسي 2/290.
([22]) رواه أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان.
([23]) رواه ابن مردويه.
([24]) رواه الديلمي.
([25]) ثواب الأعمال ص105.
([26]) ثواب الأعمال ص106.
([27]) جواهر القرآن (ص: 64)
([28]) جواهر القرآن (ص: 62)
([29]) رواه البخاري 4627.
([30]) رواه البخاري 4628 .
([31]) رواه البخاري 6827
([32]) عيون الاخبار ج 1 ص 133.
([33]) الترمذي (2878)
([34]) مسلم (810).
([35]) تفسير العياشى ج 1 ص 136.
([36]) الترمذي (2922)، وأحمد (5/26 رقم 20306)، والدارمي (3425)
([37]) الدر المنثور 6/202.
([38]) نهج البلاغة: الخطبة 147.
([39]) الترمذي (2876)
([40]) مسلم (780)، الترمذي (2877).
([41]) البخاري (5051)، ومسلم (807).
([42]) رواه ابن مردويه، وعَبْد بن حُمَيد.
([43]) رواه الأصبهاني في الترغيب، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 407)
([44]) المختارة برقم (430)
([45]) أحمد ومسلم والترمذي.
([46]) ابن ماجة وابن خزيمة، والحاكم والضياء.
([47]) شرحنا علاقة السورة وما تحويه من معان تحمي من الفتن في كتاب: أوكار الاستكبار (ص: 152)