2 ـ تساهل ابن تيمية مع المجسمة والمشبهة

2 ـ تساهل ابن تيمية مع المجسمة والمشبهة:

قال القاضي: وعينا الشاهد الأول.. فهات الشاهد الثاني.

قال الخليلي: مع شدة ابن تيمية على المخالفين تكفيرا وتبديعا وتضليلا.. بل ونبزهم بالألقاب والتهكم بهم إلا أننا نجده مع المجسمة ـ حتى لو اختلف معهم في بعض الأمور ـ هينا لينا يدافع عنهم، ويحاول أن يرد التهم التي يتهمون بها، ولو أنه فعل ذلك مع غيرهم لكان ابن تيمية غير ابن تيمية.. هو يتظاهر بالورع في حق المجسمة والنواصب فقط.. أما من عداهم فيشهر عليهم كل سيوف حقده.

قال القاضي: لا مناص لك من أن تنظر لنا بينات تدل على ذلك.. ويكفينا القليل.. ففيما ذكرت سابقا ما يمكن الاستدلال به هنا.

قال الخليلي: أجل – سيدي القاضي – سأحاول الاختصار قدر الإمكان.. ولذلك سأكتفي بسبعة أمثلة تبين شدته في القضايا الفرعية البسيطة، والتي تختلف فيها الأنظار، أو قد يكون لكل جهة رواياته الخاصة بها، أو لكونها لا علاقة لها بأصول الدين ولا فروعه مثل الخلاف في الصحابة ونحو ذلك.. مع لينه الشديد في أمور خطيرة جدا، مع كونها تتعلق بأصل أصول الدين.

المثال الأول:

قال القاضي: فهات المثال الأول؟

قال الخليلي: المثال الأول هو موقف ابن تيمية من رجل يقال له الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي، وقد ألف كتاباً طويلاً في الصفات أورد فيه أحاديث باطلة، ومنها حديث عرق الخيل الذي نصه: (إن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق)([1]) تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

انظر – سيدي القاضي- مع هذه الطامة الكبرى التي ذكرها الرجل إلا أن ابن تيمية الذي يغضب لأتفه الأمور لم ينبض له عرق بسبب هذا الكفر البواح..

لقد اعتبر ابن تيمية هذا الرجل – مع ذلك الانحراف العظيم- من أهل السنة في الجملة.. ولم يستطع أن يتحمل دخول المعتزلة والجهمية والشيعة.. وهذه مفارقة عجيبة.. فكيف يكفر من يقول بخلق القرآن، أو يسب أحد الصحابة،  ولا يكفر من من يزعم أن الله خلق نفسه من عرق الخيل.. بل يتوج على قوله هذا بتاج السنة؟

عجباً لمن يكفر من يقول: إن القرآن مخلوق، ولا يكفر من يقول: إن نفس الله مخلوقة.. أليس هذا تناقضا صارخا؟

ليس ذلك فقط ما ذكره ذلك الرجل.. فقد أورد هذا الحديث العجيب: (رأيت ربي بمنى على جمل أورق عليه جبة!!) وهو تشبيه واضح وتجسيم صريح.. ولكن بما أنه ليس عن معاوية ولا عن يزيد لم يحزن ابن تيمية له، ولم يرد عليه([2]).

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول؟

قلت: أجل سيدي القاضي.. فالحديث الذي ذكره أوردوه، وأنكروا عليه، لكن إنكارهم عليه كان محدودا وبسيطا مقارنة بإنكاراتهم على المنزهة، بل على قضايا بسيطة تتعلق بفروع الدين أو بالتاريخ ونحوه.

وقد ترجم الذهبي للرجل، وذكر أنه (ألف كتابا طويلا في الصفات؛ فيه كذب، ومما فيه حديث عرق الخيل، وتلك الفضائح فسبه علماء الكلام وغيرهم.. وكان ينال من ابن أبي بشر وعلق في ثلبه والله يغفر لهما.. وكان على مذهب السالمية؛ يقول بالظاهر ويتمسك بالأحاديث الضعيفة التي تقوي رأيه)([3]

قال القاضي: ولكني لم أرك تذكر ابن تيمية.

قلت: لقد رأيت ابن تيمية يذكر السالمية، ولا يتشدد معهم تشدده مع الأشاعرة وغيرهم، بل يعتبرهم من أهل السنة، وذلك في مواضع كثيرة من كتبه، ومنها قوله: (والسالمية وغيرهم أقرب إلى موافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح وإن كان لكل منهم من الخطأ ما لا يوافقه الآخر عليه)([4])

المثال الثاني:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثاني؟

قال الخليلي: المثال الثاني هو موقف ابن تيمية من أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي.. والذي سبق أن حدثتك عن كتابه (الأربعون)، والذي يمتلئ بأحاديث باطلة وواهية في التجسيم ([5]).. ومع ذلك نرى ابن تيمية يوثقه، ويتوجه بتاج أهل السنة.

بل نراهم يطلقون عليه لقب (شيخ الإسلام)، وكأن هذا اللقب العظيم لا يناله إلا المجسمة.. وكل ذلك نكاية بمن سمى به الحافظ أبا عثمان الصابوني، قال ابن السبكي: (وأما المجسمة بمدينة هراة فلما ثارت نفوسهم من هذا اللقب عمدوا إلى أبي إسماعيل عبد الله الأنصاري صاحب كتاب ذم الكلام فلقبوه بشيخ الإسلام. وكان الأنصاري المشار إليه رجلاً كثير العبادة محدثاً إلا أنه يتظاهر بالتجسيم والتشبيه وينال من أهل السنة وقد بالغ في كتابه ذم الكلام حتى ذكر أن ذبائح الأشعرية لا تحل..وكان أهل هراة في عصره فئتين فئة تعتقده وتبالغ فيه لما عنده من التقشف والتعبد وفئة تكفره لما يظهره من التشبيه)

ولعل ابن تيمية ما أنس له وعظمه إلا لمواقفه المتشددة من المنزهة، ولهذا ينقل عنه معظما له، ومن ذلك قوله: (وقال شيخ الاسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري في كتاب ذم الكلام في آخره لما عقد باباً في ذكر هؤلاء الأشعرية المتأخرين فقال باب في ذكر كلام الأشعري، ولما نظر المبرزون من علماء الأمة وأهل الفهم من أهل السنة طوايا كلام الجهمية وما أودعته من رموز الفلاسفة ولم يقع منهم إلا على التعطيل البحت وأن قطب مذهبهم ومنتهى عقيدتهم ما صرحت به رؤوس الزنادقة قبلهم أن الفلك دوار والسماء خالية..وأن قولهم سميع بلا سمع.. بلا نفس ولا شخص ولا صورة،..فقد شحنت كتاب تكفير الجهمية من مقالات علماء الإسلام ورن الخلفاء فيهم ودق عامة أهل السنة عليهم وإجماع المسلمين على إخراجهم من الملة..يردون على اليهود قولهم يد الله مغلولة فينكرون الغل وينكرون اليد فيكونوا أسوأ حالاً من اليهود لأن الله سبحانه أثبت الصفة ونفى العيب واليهود أثبتت الصفة وأثبتت العيب، وهؤلاء نفوا الصفة كما نفوا العيب..وإنما اعتقادهم أن القرآن غير موجود، لفظية الجهمية الذكور بمرة والجهمية الإناث بعشر مرات.. قالوا وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري كان لا يستنجي ولا يتوضأ ولا يصلي)([6])

لقد نقل ابن تيمية ذلك مستشهداً به على ذم من سماهم (المتأخرين من أصحاب الأشعري) مع أن من سماه شيخ الإسلام لم يترك منهم أحداً، بل حكى الإجماع على تكفيرهم، وشحن كتبه في ذلك وسعى بين السلاطين في فتنتهم، ونضح بما فيه من وصفهم ذلك الوصف الذي خرج به عن حدود الأدب ([7]).

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول؟

قلت: أجل سيدي القاضي.. فكتب ابن تيمية مشحونة بالثناء عليه، ولا أحتاج لذكر شواهد على ذلك.. بل إنه يحرص دائما على أن يسميه (شيخ الإسلام)

المثال الثالث:

 قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الثالث؟

قال الخليلي: المثال الثالث هو في موقف ابن تيمية من علم من كبار أعلام المجسمة يقال له (أبو يعلى الفراء).. وهو رجل قد نال سخط الحنابلة بسبب كتاب كتبه مشحون بكل ألوان التجسيم والتشبيه، ومع ذلك لم ينل من ابن تيمية ما يستحقه من الذم والعتاب.

قال القاضي: هل لك أن تفصل أكثر.. فنحن في مجلس قضاء.. ولا نقبل إلا البينات الواضحة.

قال الخليلي: لقد ألف أبو يعلى كتابه (إبطال التأويلات) في أوائل القرن الخامس الهجري، لكن الكتاب بحكم ما فيه من تجسيمات وتشبيهات بقي مغمورا إلى أن ذاع خبره سنة (429هـ) حينها ضج العلماء لظهور هذا الكتاب ولافتتان بعض العوام بما فيه.. وقد حصلت بسبب ذلك فتنة اقتضت تدخل الخليفة القائم بأمر الله العباسي لتسكينها بمساعدة أبي الحسن القزويني الزاهد الشافعي المقبول من جميع الطوائف، وقد أخرج القائم بأمر الله عقيدة والده الخليفة القادر بالله، ووَقَّعَ عليها العلماء وسكنت الفتنة ([8]).

قال القاضي: دعنا من كل هذه التفاصيل التاريخية، وحدثنا عن محتوى الكتاب وموقف ابن تيمية منه.

قال الخليلي: حاضر – سيدي القاضي – وأنا ما ذكرت لك ذلك إلا لتعلم أن موقف ابن تيمية في التجسيم مخالف لأكثر علماء الأمة.. ولولا أنه وجد في هذه الأزمنة من المغفلين من ينشر مذهبه لما كان هناك عاقل يقبله.

أما الكتاب، وما يحويه من تجسيم محض، فلا خلاف فيه، وقد قال ابن الأثير في (الكامل في التاريخ): (وفي شهر رمضان منها توفي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي، ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة، وعنه انتشر مذهب أحمد، وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخلافة، وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، تعالى الله عن ذلك..)([9])

وقال فيه أبو محمد رزق الله الحنبلي، وهو من المعاصرين لأبي يعلى: (لقد شان المذهب شينا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة)([10])

التفت القاضي إلي، وقال: هل صحيح ما يذكره الخليلي؟

قلت: أجل سيدي.. وقد سمعت من مصادر موثوقة عن القاضي أبي بكر بن العربي أنه قال: (أخبرني من أثق به من مشيختي أن أبا يعلى محمد بن الحسين الفراء – رئيس الحنابلة ببغداد – كان يقول إذا ذكر الله تعالى، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته يقول: ألزموني ما شئتم فإني ألتزمه، إلا اللحية والعورة…) ([11])

لكن رأيت ابن تيمية يشكك في صحة هذه القصة ويكذبها([12])

قال الخليلي: وهذا من أدلة انحيازه للرجل.. وإلا فلو أنها كانت عن الصوفية أو الشيعة أو الإباضية لقبلها، ولم يحتج لها أي سند مجهول أو معلوم.

قال القاضي: ألا يمكن أن يكون كل ما قالوه مجرد ادعاءات باطلة عن الكتاب؟

قال الخليلي: كيف يكون ذلك، والكتاب مشحون بأوصاف كثيرة لله يعف اللسان عن قولها، من أمثال([13]): (شاب، أمرد، أجعد، في حلة حمراء، عليه تاج، ونعلان من ذهب، وعلى وجهه فَرَاش من ذهب)

وقد شحنه بالروايات الموضوعة، وينص على أن من لم  يؤمن بهذه الصفات العظيمة فهو (زنديق)، (معتزلي)، (جهمي)، (لا تقبل شهادته)، (لا يسلم عليه)، (لا يعاد)، ثم يقول:(وليس في قوله: شاب وأمرد وجعد وقطط وموفور إثبات تشبيه، لأننا نثبت ذلك تسمية كما جاء الخبر لا نعقل معناها، كما أثبتنا ذاتا ونفسا، ولأنه ليس في إثبات الفَرَاش والنعلين والتاج وأخضر أكثر من تقريب المحدث من القديم، وهذا غير ممتنع كما لم يمتنع وصفه بالجلوس على العرش..)([14])

وهو ينطلق من قوله r:(إن الله خلق آدم على صورته)، يصف الله تعالى كما يصف أي بشر من البشر.

ويرجع إلى أهل الكتاب في ذلك، فينقل عن كعب الأحبار أنه قال:(إن الله تعالى نظر إلى الأرض فقال: إني واط على بعضك، فانتسفت إليه الجبال فتضعضعت الصخرة فشكر الله لها ذلك فوضع عليها قدمه)([15])، ثم يعتبر هذا لإفك حقيقة عقدية، يدلل لها بالرواية الواهية التالية:(آخر وطأة وطئها رب العالمين بوَجّ)، ثم   يذكر قول كعب الأحبار:(وَجّ مقدس، منه عَرَجَ الرب إلى السماء يوم قضى خلق الأرض)

ويعلق على هذه الترهات بقوله:(اعلم أنه غير ممتنع على أصولنا حمل هذا الخبر على ظاهره، وأن ذلك على معنى يليق بالذات دون الفعل)

وينقل عنه هذه أنه قال لمن سأله أين ربنا:(هو على العرش العظيم متكئ واضع إحدى رجليه على الأخرى)، ثم يعلق عليها بقوله:(اعلم أن هذا الخبر يفيد أشياء: منها جواز إطلاق الاستلقاء عليه، لا على وجه الاستراحة بل على صفة لا نعقل معناها، وأن له رجلين كما له يدان، وأنه   يضع إحداهما على الأخرى على صفة لا نعقلها)، ويدلل على هذا بهذه الرواية الموضوعة:(إن الله لما فرغ من خلقه استوى على عرشه واستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال: إنها لا تصلح لبشر)

التفت إلي قال القاضي، وقال: هل حقا ما يقول الخليلي.. هل في الكتاب كل هذا؟

قلت: أجل.. والكتاب بين يدي، وقد طبع ونشر على نطاق واسع.. بل هو الآن بين العوام والخواص، ويحمل مجانا على النت.. ويوضع في المكتبات العقدية ككتاب من أهم كتب العقيدة السنية السلفية.. وقد قال محقق الكتاب في خطبته مشيدا به: (وبعد، فإن كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) للقاضي أبي يعلى الفراء كان يعد إلى زمن قريب من الكتب المفقودة، وهو كتاب فريد في بابه، إذ تضمن الرد على تأويلات الأشاعرة والمعتزلة والجهمية لأخبار الصفات الإلهية، الواردة على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأعلم الخلق به، وبيان مذهب السلف فيها وهو إثباتها والإيمان بها، ونفي التكييف عنها والتمثيل لها، فهذا هو التوحيد الذي بينه الله تعالى..)([16])

قال القاضي: وعيت هذا.. لكن لم تحدثوني عن موقف ابن تيمية منه.

قال الخليلي: مع ما ذكرته لك من الفتن التي وقعت بسبب الكتاب، وردود العلماء عليه إلا أنا نجد ابن تيمية يحييه ويهتم به ويرجع إليه، بل ويعتبر صاحبه من علماء السنة.. وفوق ذلك يتشدد مع المنكرين عليه أو الناقدين له.

لقد ذكر الفتنة التي حصلت بسبب الكتاب، فقال: (وصنف القاضي أبو يعلى كتابه في (إبطال التأويل) رد فيه على ابن فورك شيخ القشيري وكان الخليفة وغيره مائلين إليه؛ فلما صار للقشيرية دولة بسبب السلاجقة جرت تلك الفتنة وأكثر الحق فيها كان مع الفرائية مع نوع من الباطل، وكان مع القشيرية فيها نوع من الحق مع كثير من الباطل)([17])

والباطل الذي يقصده ابن تيمية ليس التجسيم، وإنما اتهامه لأبي يعلى بالتفويض أي أنه لم يكن صريحا بالقدر الكافي في موقفه من التجسيم.. فهو – عنده – من الذين (سمعوا الأحاديث والآثار، وعظموا مذهب السلف، وشاركوا المتكلمين الجهمية في بعض أصولهم الباقية، ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث، لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها، ولا من جهة الفهم لمعانيها، وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية، ورأوا ما بينهما من التعارض)([18])

هذا هو موقف ابن تيمية من أبي يعلى.. أما موقفه من المنكر عليه، والذي كتب كتابا في الرد عليه، وهو أبو الفرج ابن الجوزي، والذي ألف كتابه (دفع شبه التشبيه) أو ما يرتضي ابن تيمية أن يسميه (كف التشبيه) ([19])فقد أنكر عليه، وذكر أنه يميل إلى مذهب المعتزلة كثيراً([20]).. وكونه كذلك أعظم بدعة عند ابن تيمية.

التفت القاضي إلي، وقال: هل تعرف الكتاب الذي ألفه ابن الجوزي؟ وهل حقا فيه ما ذكر الخليلي؟

قلت: أجل.. وهو الآن بين يديه، وإن شئت قرأت لك منه ما يدلك على ما فيه؟

قال القاضي: اقرأ.. فنحن نحتاج إلى التأكد من كل شيء.

قلت: سأقرأ لك بعضا مما في مقدمته، وبعضا مما في خاتمته، وهما كفيلان بتوضيح أغراضه.

لقد قال في مقدمته: (ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبدالله بن حامد، وصاحبه القاضي أبو يعلى، وابن الزاغوني، فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس، فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات، وعينين، وفما ولهوات وأضراسا، وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس!! وقالوا: يجوز أن يَمَسَّ ويُمَسَّ!! ويدني العبد من ذاته وقال بعضهم: ويتنفس، ثم إنهم يرضون العوام بقولهم: لا كما يُعقل!..)([21]

وقال في خاتمته: (ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال، لم يعجبهم لأنهم أَلِفُوا كلام رؤسائهم المجسمة فقالوا: ليس هذا المذهب. قلت: ليس مذهبكم ولا مذهب من قلدتم من أشياخكم، فقد نزهت مذهب الإمام أحمد، ونفيت عنه كذب المنقولات، وهذيان المقولات، غير مقلد فيما أعتقده)([22])

المثال الرابع:

 قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الرابع؟

قال الخليلي: المثال الرابع هو في موقف ابن تيمية من شخص من كبار المجسمة، بل لعله من أوائل من نشر مفاهيم التجسيم في هذه الأمة، فقد كانت له علاقة بالسلاطين، وكان مقربا منهم، وقد أتيح له أن ينشر أفكاره بكل حرية.

قال القاضي: من تقصد؟

قال الخليلي: أقصد كعب الأحبار اليهودي، والذي لقي العناية الكبيرة من ابن تيمية، وقبله من أهل الحديث، حتى أعطوه الحصانة المطلقة التي تحميه من النقد والتجريح.

قال القاضي: أعرفه.. وأعرف أن بعض العلماء المتأخرين فطنوا لما فعله بالإسلام، وما سربه من اليهودية إليها.

قال الخليلي: لكن أولئك لا يزالون يعانون من التهميش والاحتقار بسبب موقفهم ذلك.. لأن انهيار كعب الأحبار يعني انهيار جدران كبيرة من التجسيم الذي يقوم عليه دين ابن تيمية وأتباعه من السلفية.

قال القاضي: لقد عظمت الأمر.. فهل ذكرت لنا بعض ما يدل عليه.

قال الخليلي: رواياته تمتلئ بها كتب التفسير وكتب السنة وكتب ابن تيمية.. وسأعرض لك أربعة نماذج منها لتتأكد مما قلت..

قال القاضي: فهات النموذج الأول.

قال الخليلي: لقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بسنده عن كعب الأحبار أنه قال: (قال الله عز وجل أنا الله فوق عبادي وعرشي فوق جميع خلقي، وأنا على العرش أدبر أمر عبادي، لا يخفى علي شيء من أمر عبادي في سمائي وأرضي، وإن حُجبوا عني فلا يغيب عنهم علمي، وإلي مرجع كل خلقي فأنبئهم بما خفي عليهم من علمي، أغفر لمن شئت منهم بمغفرتي، وأعذب من شئت منهم بعقابي)([23])

انظر – سيدي القاضي – إلى هذه الرواية وما تحمله من كل معاني التجسيم، والتي لاقت قبولا كبيرا من طرف التيميين، يحتجون بها، وكأنها قرآن منزل([24]).

إن هذه الرواية تنبه الحس على أن يقدر لله وجوداً جسمياً في أعلى نقطة من الكون.. فوق العرش.. ويلتزم الحسُ بَعد ذلك غايةَ البعد في المسافة بينه وبين خلقه.. وتبرز الحاجة مع هذا البعد الذي قدره إلى التأكيد على أن هذا البعد لا ينقِص من كمال علمه وإحاطته، وإن كان العلم المباشر في الشاهد يتأثر ببعد المسافة لأنه يستلزم نوعَ قربٍ من المعلوم لتتصل به طرق العلم الحسية. ولهذا يؤكد من أذعن لهذا التقدير الحسي على كمال العلم مع غاية العلو. وهذا واضح في خبر كعب([25]).

انظر كيف تأثر عثمان الدارمي بهذه المقولة، فقال:(وإنما يعرف فضلُ الربوبية وعِظمُ القدرة بأن الله تعالى من فوق عرشه وبعد مسافة السموات والأرض يعلم ما في الأرض وما تحت الثرى وهو مع كل ذي نجوى، ولذلك قال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ﴾ [الأنعام: 73]، ولو كان في الأرض كما ادعيتم بجنب كل ذي نجوى ما كان بعجبٍ أن ينبئهم بما عملوا يوم القيامة فلو كنا نحن بتلك المنزلة منهم لنبأنا كل عامل منهم بما عمل)([26]

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات النموذج الثاني.

قال الخليلي: لقد روى الطبري في تفسيره هذه الرواية: جاء رجل إلى كعب فقال: يا كعب أين ربنا؟ فقال له الناس: دقّ الله تعالى، أفتسأل عن هذا؟ فقال كعب: دعوه، فإن يك عالما ازداد، وإن يك جاهلا تعلم. سألت أين ربنا، وهو على العرش العظيم متكئ، واضع إحدى رجليه على الأخرى، ومسافة هذه الأرض التي أنت عليها خمسمائة سنة ومن الأرض إلى الأرض مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، حتى تمّ سبع أرضين، ثم من الأرض إلى السماء مسيرة خمس مئة سنة، وكثافتها خمس مئة سنة، والله على العرم متكئ، ثم تفطر السموات.. ثم قال: إقرؤوا إن شئتم: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ ﴾ [الشورى: 5])([27])

هل رأيت – سيدي القاضي – أبلغ من هذا التجسيم.. وأبشع من هذه الخرافة.. إننا لو حسبنا هذه المسافة لربما لم نصل إلى نجم من النجوم التي نراها.. لكن كعبا يقول لنا: إننا إذا قطعنا هذه المسافة، فسنصل إلى الله.. تعالى الله عن قوله علوا كبيرا؟

ولهذا تجد المتبعين لابن تيمية والمتأثرين بسلفه ينكرون الاكتشافات العلمية، وخاصة الفلكية منها، لأنها تقضي على كل تصوراتهم لربهم وللكون.

والخطر ليس في ذلك فقط.. بل بالخطير في أنه يحرف المعاني القرآنية، ويغيرها عن سياقها ومدلولها المقدسة لتتحول إلى معاني تجسيمية وثنية.

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات النموذج الثالث.

قال الخليلي: لقد روى الطبري في تفسيره أن عمر سأل كعبا: ما أوَّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد، ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت (أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي)([28])

هل رأيت – سيدي القاضي- أبلغ من هذا التجسيم.. وانظر إلى غرامه بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت كشأن اليهود الذين عبدوا العجل الذهبي.

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات النموذج الرابع.

قال الخليلي: لقد روى السيوطي في (الدر المنثور في التفسير بالمأثور) رواية طويلة عن كثير من المحدثين، ومما ورد فيها: فقال عمر بن الخطاب عند ذلك: ألا تسمع يا كعب ما يحدثنا به ابن أم عبد عن أدنى أهل الجنة ما له فكيف بأعلاهم؟ قال: يا أمير المؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، إن الله كان فوق العرش والماء، فخلق لنفسه دارا بيده، فزينها بما شاء وجعل فيها ما شاء من الثمرات والشراب، ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه منذ خلقها جبريل ولا غيره من الملائكة ثم قرأ كعب: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: 17]([29])

هل رأيت – سيدي القاضي – أبلغ من هذا التجسيم؟

ومع ذلك نرى ابن تيمية يثني عليه، ويقبله، ويستدل بمروياته، وكأنها آيات منزلة، أو أحاديث من لا ينطق عن الهوى.

التفت القاضي إلي، وقال: هل صحيح ما يذكره الخليلي؟

قلت: أجل.. وقد وجدته يذكره في مواضع كثيرة، ويعتبره من علماء أهل الكتاب، بل إنه ذكر ما يدل على أن مرجعه فيما يذكره من إسرائيليات هي التوراة الصحيحة، فقد قال في دقائق التفسير: (وعمر بن الخطاب لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها، فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به، ولم يجزم عمر بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها، والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهما ما أنزله الله عز وجل، والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر، ولا حاجة بنا إلى ذكره، ولا علم لنا بذلك، ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختياره)([30]

 المثال الخامس:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال الخامس.

قال الخليلي: المثال الخامس هو في دعوة ابن تيمية لقراءة كتب رجل مملوءة بالتجسيم والتشبيه وجميع أنواع الخرافات.. إنه أبو الشيخ الأصفهاني، صاحب أكبر كتاب في الخرافة، والذي يطلق عليه كتاب (العظمة)، وهو يفسر مفهوم ابن تيمية وأتباعه من السلفية لعظمة الله([31]).

ومع أن الكتاب من أهم مصادر الحديث الموضوع  إلا أنهم لا يهتمون بذلك، لأنهم حيثما شموا رائحة التجسيم هرعوا لا يلوون على شيء.

قال القاضي: هل لك أن تقرأ لنا بعض ما فيه حتى نتبين.

قال الخليلي: أجل – سيدي القاضي- سأقتبس لك منه أربعة نصوص لتعرف من خلالها الشخصيات التي يدعو ابن تيمية إلى التماس العلم منها.

قال القاضي: فهات النص الأول.

قال الخليلي: لقد فسر قوله عز وجل: ﴿ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]، بقوله: (بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب، فما زال يقرب موسى حتى صار بينه وبينه حجاب، فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم قال رب أرني أنظر إليك)([32])

وهو واضح في الدلالة على المكان، وعلى مفهوم القرب عنده وعند أتباع ابن تيمية، فالقرب عندهم قرب حسي متعلق بالمسافة، لا بعبادة الله أو محبته والأنس به.

قال القاضي: فهات النص الثاني.

قال الخليلي: لقد روى في كتاب العظمة هذا الحديث العجيب الذي يفسر به تفسيريا تجسيميا قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29]: (إن ربكم تبارك وتعالى ليس عنده ليل ولا نهار، نور السماوات والأرض من نور وجهه، وإن مقدار كل يوم عنده ثنتي عشرة ساعة، فيعرض عليه أعمالكم بالأمس أول النهار واليوم، فيها ثلاث ساعات، فيطلع فيها على ما يكره فيغضب كذلك، فأول من يعلم بغضبه الذين يحملون العرش، والملائكة المقربون، وسائر الملائكة، فينفخ جبريل في القرن فلا يبقى شيء إلا يسبحه غير الثقلين، فيسبحونه ثلاث ساعات حتى يمتلئ الرحمن عز وجل رحمة، فتلك ست ساعات، ثم يؤتى بما في الأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات، فيصوركم في الأرحام كيف يشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، فتلك تسع ساعات، ثم ينظر في أرزاق الخلق ثلاث ساعات، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وهو بكل شيء عليم، فتلك ثنتا عشرة ساعة، ثم قال: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29] هذا من شأنكم وشأن ربكم عز وجل)([33])

هل رأيت – سيدي القاضي- كيف تحول الله عندهم إلى حاكم أو امبراطور لا يختلف عن أي حاكم أو امبراطور في الدنيا.

قال القاضي: فهات النص الثالث.

قال الخليلي: لقد روى في كتابه نصا يدل على أن لله وزنا محددا، وأنه ثقيل، يقول فيه: (ويحك، تدري ما الله؟، إن عرشه على سماواته وأرضيه هكذا مثل القبة، وإنه يئط به أطيط الرحل بالراكب)([34])

قال القاضي: فهات النص الرابع.

قال الخليلي: لقد روى في كتابه نصا يدل على أنه يمكن بحسابات بسيطة أن نصل إلى مكان الله، يقول فيه:(ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء إلى التي تليها مسيرة خمسمائة عام، كذلك إلى السماء السابعة، والأرضين مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك، ولو حفرتم لصاحبكم فيها لوجدتموه)([35])

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا يوجد في الكتاب ما ذكر؟

قلت: أجل.. الكتاب بين يدي، وهو مملوء بالخرافات، ولو ذكرت لكم ما فيه لما انتهى المجلس..

قال القاضي: فكيف تثبتون أن ابن تيمية دعا إلى اعتباره من علماء السلف الذين يؤخذ عنهم؟

قلت: من الأمثلة على ذلك ما ذكره في شرح العقيدة الأصفهانية، فقد جاء فيها قوله: (وأما أقوال السلف وعلماء الإسلام في هذا الأصل، وما في ذلك من نصوص الكتاب والسنة فهذا أعظم من أن يسعه هذا الشرح، ومن كتب التفسير المنقولة عن السلف مثل تفسير عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وبقي بن مخلد، وعبد الرحمن بن إبراهيم، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، ومحمد بن جرير الطبري، وأبي بكر بن المنذر، وأبي بكر بن عبد العزيز، وأبي الشيخ الأصفهاني، وأبي بكر بن مردويه وغيرهم)([36]) ، فقد ذكره مع هؤلاء الأعلام، وكلهم ذكروا في تفاسيرهم ما لا يقل عما ذكره أبو الشيخ.

المثال السادس:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال السادس؟

قال الخليلي: المثال السادس هو في موقف ابن تيمية من فرقة يقال لها  الكرامية، وهي فرقة كان لها تاريخ مشهور في التجسيم، بل تمكنت بتلبسها لباس الزهد والتقشف أن تخدع السلطان وتقنعه بمقالاتها، وتفوز بتأييده لها، وقمعه لمخالفيها.. والأخطر من ذلك هو تسرب بعض مقالاتها إلى المصنفات التي تنتسب إلى العقيدة السلفية([37]).

وقد أسسها أبو عبد الله محمد بن كرام السجزي الذي قال فيه الشهرستاني: (نبغ رجل متنمس بالزهد من سجستان …قليل العلم قد قمش من كل مذهب ضعثاً وأثبته في كتابه وروجه على سواد بلاد خراسان. فانتظم ناموسه وصار ذلك مذهباً)([38]).. وقال عنه ابن السبكي: (وكان من خبر ابن كرام هذا وهو شيخ سجستاني مجسم أنه سمع يسيراً من الحديث ونشأ بسجستان ثم دخل خراسان…وعاد إلى نيسابور وباح بالتجسيم. وكان من إظهار التنسك والتأله والتعبد والتقشف على جانب عظيم..)([39])

وعندما أظهر بدعته في التجسيم أنكر عليه العلماء وسعوا في سجنه وقتله.. لكن الحاكم اكتفى بنفيه، وهاب قتله لما رأى فيه من مخايل العبادة والتقشف([40]).

وقد كان أتباع الكرامية لا يكتفون بمعتقدهم التجسيمي، وإنما كانوا يؤذون المخالفين لهم شأنهم شأن أتباع ابن تيمية.. وقد تسببوا في مقتل العلامة المنزه أبي بكر محمد بن الحسن بن فورك بسبب شدته عليهم، قال ابن السبكي: (وكان ابن فورك شديداً على الكرامية، وأذكر أن ما حصل له من المحنة من شغب أصحاب ابن كرام وشيعتهم من المجسمة…فتحزبوا عليه ونموا عليه غير مرة وهو ينتصر عليهم فلما أيست الكرامية من الوشاية والمكايدة عدلت إلى السعي في موته والراحة من تعبه فسلطوا عليه من سمه فمضى حميداً شهيداً)([41])

ومثل ذلك حصل لأبي إسحاق الاسفرائيني، ولولا وقوف السلطان إلى جنبه لكانوا قتلوه، وقد حكى أبو المظفر بعض مناظرات الاسفرائيني لهم، فقال: (سأل بعض أتباع الكرامية في مجلس السلطان محمد بن سبكتكين إمامَ زمانه أبا إسحاق الإسفراييني رحمه الله عن هذه المسألة –الاستواء على العرش – فقال:هل يجوز أن يقال: إن الله تعالى على العرش؟ وأن العرش مكان له؟ فقال: لا. وأخرج يديه ووضع إحدى كفيه على الأخرى، وقال: كون الشيء على الشيء يكون هكذا، ثم لايخلو إما أن يكون أكبر منه أو أصغر منه فلا بد من مخصص خصه وكل مخصوص يتناهى والمتناهي لايكون إلهاً…فلم يمكنهم أن يجيبوا عنه فأغروا به رعاعهم حتى دفعهم عنه السلطان بنفسه…ولما ورد عليهم هذا الإلزام تحيروا فقال قوم إنه أكبر من العرش وقال قوم إنه مثل العرش. وارتكب ابن المهاجر منهم قوله إن عرضه عرض العرش. وهذه الأقوال كلها متضمنة لإثبات النهاية وذلك علم الحدوث لايجوز أن يوصف به الصانع)([42]) 

وهكذا حصل مع الفخر الرازي، حيث..

قاطعه القاضي، وقال: دعنا من كل هذه التفاصيل التاريخية.. حدثنا عن مقولتهم في التجسيم، وعلاقة ابن تيمية بها.

قال الخليلي([43]): من مقولاتهم في التجسيم زعمهم أن معبودهم جسم له حد ونهاية من تحته وهي الجهة التي يلاقي منها العرش.. ثم اختلفوا في النهاية فمنهم من أثبت النهاية له من ست جهات، ومنهم من أنكر النهاية له، وقال هو عظيم.

ولهم في معنى العظمة خلاف.. فذهب بعضهم إلى أن معناها أنه مع وحدته على جميع أجزاء العرش والعرش تحته، وهو فوق ذلك على الوجه الذي هو فوق جزء منه.. وذهب بعضهم إلى أنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد وهو يلاقي جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم.

واختلفوا في الاستواء على العرش فنص ابن كرام على أن معبوده على العرش استقر، وأنه بجهة فوق ذاتاً، وأن العرش مكان له، وجوز عليه الانتقال والنزول.. وزاد بعض أصحابه فزعم أن العرش مكان له، وأنه لو خلق بإزاء العرش عروشاً موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكاناً له لأنه أكبر منها كلها. قال البغدادي: (وأعجب من هذا كله أن ابن كرام وصف معبوده بالثقل وذلك أنه قال في كتاب عذاب القبر في تفسير قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ [الانفطار: 1])([44]) 

وقد عدوا من صفات الله تعالى اليدين والوجه فأثبتوها صفاتٍ قديمةً قائمة بذاته، وقالوا: له يد لا كالأيدي ووجه لا كالوجوه.. وقالوا..

قاطعه القاضي، وقال: لقد وضح الأمر، ولا حاجة لمزيد من التفصيل.. حدثنا عن موقف ابن تيمية منهم.. فهذا الذي يهمنا هنا.

قال الخليلي: لقد اتهم ابن تيمية في عصره وفي كل العصور بأنه يقول قول الكرامية في التجسيم، وقد أجاب عن هذا، لا بنفي العلاقة بينه وبين الكرامية، وإنما بإثبات أن الكرامية هم الذين أخذوا من السلف مذهبهم، لأن ما طرحوه من المسائل كان قبل أن تخلق الكرامية وتوجد، لقد قال في مناقشته للجويني في بعض جزئيات مذهب الكرامية في كلام الله عزّ وجل: (إن السلف وأئمة السنة والحديث، بل من قبل الكرامية من الطوائف لم يكن يلتفت إلى الكرامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن يُخلق الكرامية، فإن ابن كرام كان متأخراً بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج وطبقته، وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء) ([45])

وقد ذكر في مجموع الفتاوى أن (الكرامية فيهم قرب إلى أهل السنة والحديث وإن كان في مقالة كل من الأقوال ما يخالف أهل السنة والحديث)([46])

وقال مثنيا عليهم: (وكذلك متكلمة أهل الإثبات، مثل الكلابية، والكرامية، والأشعرية، إنما قبلوا واتبعوا واستحمدوا إلى عموم الأمة، بما أثبتوه من أصول الإيمان، من إثبات الصانع وصفاته، وإثبات النبوة، والرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب، وبيان تناقض حججهم، وكذلك استحمدوا بما ردوه على الجهمية والمعتزلة والرافضة والقدرية، من أنواع المقالات التي يخالفون فيها أهل السنة والجماعة، فحسناتهم نوعان: إما موافقة أهل السنة والحديث، وإما الرد على من خالف السنة والحديث بيان تناقض حججهم)([47])

وكأنه بذلك يقر منهجهم المتشدد مع المخالفين، والذي بسبب قتل ابن فورك..

التفت القاضي إلي، وقال: هل صحيح ما ذكر الخليلي عن موقف ابن تيمية من هذه الطائفة؟

قلت: أجل – سيدي- هي ذي كتب ابن تيمية بين يدي، وفيها نرى الفرق في تعامله المتشدد مع المنزهة في الحين الذي يلين فيه مع كل من يشم منه رائحة التجسيم.

وقد لاحظت أنه يسميهم (متكلمة أهل الإثبات) ([48]) في الوقت الذي يعتبر فيه المنزهة متكلمة التعطيل.

ولعل ما زاد من إعجاب ابن تيمية بهم هو في مسألة الإمامة، حيث أنهم يرون أن علياً ومعاوية كلاهما مصيب، وعليه: فيجوز عقد البيعة لإمامين في وقت واحد عند الحاجة([49])

المثال السابع:

قال القاضي: وعيت هذا.. فهات المثال السابع.

قال الخليلي: المثال السابع هو في موقف ابن تيمية من فرقة يقال لها  المقاتلية، وهي فرقة تنتسب لأبي الحسن مقاتل بن سليمان البلخي الذي اعتبره من السلف مع كونه مجسما من المفسرين، وقد قال عنه ابن المبارك: (ما أحسن تفسير مقاتل لو كان ثقة)([50]) 

وقد ذكر الأشعري مقولته في التجسيم، فقال: (حكي عن أصحاب مقاتل أن الله جسم، وأن له جثةً، وأنه على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم وجوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين مصمت وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره)([51]) 

وحكى عنه الشهرستاني أنه قال: (قد ورد في الخبر أن الله خلق آدم على صورة الرحمن فلا بد من تصديقه)([52])  .. فكلهم اتفقوا على رميه بالتجسيم.

التفت القاضي إلي، وقال: هل حقا ما يقول الخليلي؟

قلت: أجل.. وقد رأيت من مروياته في التجسيم: (إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين حبيب الله؟ فيتخطى صفوف الملائكة حتى يصير إلى العرش حتى يجلسه معه على العرش حتى يمس ركبته)([53]) 

التفت القاضي إلى الخليلي، وقال: فما موقف ابن تيمية منه؟

قال الخليلي: لقد عرفنا أن موقف ابن تيمية هو اللين الشديد مع كل من يشم فيه رائحة التجسيم، فتجده يدافع عنه، أو يظهر الورع في الموقف منه، بينما إذا رآه منزها صدق عنه كل مقولة، ونشر عنه كل إشاعة، لقد قال عنه: (وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف عن مقاتل بن سليمان فلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد.. ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن يحتج به في الحديث لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره)([54]) 

التفت القاضي إلي، وقال: ما تقول في هذا؟

قلت: صدق في هذا.. أما ما قاله ابن تيمية عن أن الأشعري نقل ما نقل من كتب المعتزلة المنحرفين عن مقاتل غير صحيح، فقد روى الخطيب البغدادي عن أحمد بن سيار، وهو إمام المحدثين في بلده أنه قال: (مقاتل متروك الحديث كان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه)([55]) 

والأخطر من ذلك ثناء ابن تيمية على علمه بالتفسير مع أن ابن حبان قال: (كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم وكان مشبهاً يشبه الرب بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك في الحديث)([56]) .. وقال الذهبي: (ظهر بخراسان الجهم بن صفوان ودعا إلى تعطيل صفات الله عز وجل.. وظهر في خراسان في قبالته مقاتل بن سليمان المفسر وبالغ في إثبات الصفات حتى جسم وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف وحذروا من بدعهم)([57]) 


([1]) سير أعلام النبلاء (18/17)،

([2])  انظر الحنابلة نموذجا حسن بن فرحان المالكي.

([3])  سير أعلام النبلاء (13/ 287) بتصرف.

([4])  الصفدية (1/ 161).

([5]) سير أعلام النبلاء (18/508).

([6]) بيان تلبيس الجهمية 2 /400- 404 وانظر هذه الحكاية في سير أعلام النبلاء 16/ 478.

([7])  انظر: التجسيم في الفكر الاسلامي.

([8])  انظر:طبقات الحنابلة: 2/197.

([9])  الكامل في التاريخ (8/ 209)

([10])  انظر: دفع شبه التشبيه، لابن الجوزي ص10.

([11])  العواصم من القواصم: 2/306)

([12])  انظر: درء تعارض العقل والنقل 5/238.

([13])   إبطال التأويلات: 1/133.

([14])  إبطال التأويلات: 1/146.

([15])  إبطال التأويلات:  1/202.

([16])  إبطال التأويلات، ص4.

([17])  مجموع الفتاوى (6/ 54).

([18])  درء تعارض العقل والنقل 7/34

([19])  انظر: درء تعارض العقل والنقل 8/60، 9/160

([20])  انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/270.

([21])  دفع شبه التشبيه: ص7.

([22])  دفع شبه التشبيه:  ص67.

([23]) العظمة 2/626.

([24]) العرش للذهبي 2/148.

([25])  انظر: الفكر التجسيمي.

([26]) نقض عثمان بن سعيد 443.

([27])  تفسير الطبري (21/ 501).

([28])  تفسير الطبري (11/ 277).

([29])  الدر المنثور في التفسير بالمأثور:  (8/ 259).

([30])  دقائق التفسير (2/ 58)

([31])  ذكر د.  صهيب السقار في كتابه (التجسيم في الفكر الإسلامي) اهتمام السلفية الحديثة بكتاب العظمة، ومن ذلك ما ورد في مقدمة المحقق رضاء الله بن محمد المباركفوري 1/12 و40و83 و85. للكتاب، وجواب أهل السنة لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، فقد عده من كتب السنة مع كتابي الدارمي وكتاب ابن بطة والهروي وسنة الخلال ونحوها..

([32]) العظمة2/714(301)

([33])  العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 477).

([34])  العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 556).

([35])  العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (2/ 558).

([36])  شرح العقيدة الأصفهانية (ص: 65).

([37])  انظر: الفكر التجسيمي.

([38]) الملل والنحل107

([39]) طبقات الشافعية لابن السبكي 2/35.

([40]) طبقات الشافعية 2/53.

([41]) طبقات الشافعية الكبرى 4/131.

([42]) التبصير في الدين 66

([43]) انظر الفرق بين الفرق للبغدادي 203

([44]) الفرق بين الفرق 207

([45])  الصفات الاختيارية (ضمن جامع الرسائل 2/10)

([46])  مجموع الفتاوى (6/ 55)

([47])  مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/12.

([48])  انظر: درء تعارض العقل والنقل 1/154.

([49])  انظر: منهاج السنة النبوية 1/537.

([50]) انظر تاريخ بغداد للخطيب 13/ 163

([51]) مقالات الإسلاميين 152و209.

([52]) الملل والنحل178

([53]) ميزان الاعتدال 4/174.

([54]) منهاج السنة 2/618

([55]) تاريخ بغداد 13/162.

([56]) المجروحون 2/15.

([57]) طبقات الحفاظ 1/159

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *