الإنابة والاستغفار

الإنابة والاستغفار

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الإنابة والاستغفار، وسر ما ورد في فضلهما في النصوص المقدسة، وهل يمكن اعتبارهما من منازل النفس المطمئنة، أم من مناهج سير النفس اللوامة؟

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن كل منازل النفس المطمئنة يمكن اعتبارها مناهج للنفس اللوامة.. والفرق بينهما أن صاحب النفس المطمئنة يكون مطمئنا مستقر الحال، قد ثبتت فيه تلك الصفات، وأصبحت جزءا منه، لا يستطيع الفكاك منها، ولا تستطيع الفكاك منه، بينما صاحب النفس اللوامة يجاهد نفسه لتحصيلها، وهو لذلك حريص على بقائها، خائف من نفورها.

وكمثال على ذلك ما طلبت مني الحديث عنه من الإنابة والاستغفار.. فقد وصف الله تعالى بالإنابة خير خلقه، وهم رسله عليهم الصلاة والسلام، فقال عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]

وقال عن شعيب عليه السلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود: 88]

وقال عن داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]

وقال عن سليمان عليه السلام: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 34، 35]

وقال عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]

ولهذا أمر الله تعالى باتباع سبيل المنيبين الذين لا يغفلون عن الله أبدا، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } [لقمان: 15]

وهذه الآيات جميعا تشير إلى أن الإنابة وما يتبعها من الاستغفار، صفة راسخة في نفوس أصحاب النفوس المطمئنة تدعوهم إلى العودة في كل الحين إلى ربهم، ومن غير أي فاصل زمني يتدخل فيه الهوى أو الشيطان.

بخلاف غيرهم من أصحاب النفوس اللوامة، والذين قد يحتاجون إلى أنواع المجاهدات حتى تتحول الإنابة فيهم إلى صفة راسخة..

ذلك أن الصفات الراسخة يحتاج تثبيتها إلى مجاهدة وزمن وحرص وصفات كثيرة.. فالشاعر لا يمكن اعتباره شاعرا بكتابته لقصيدة أو قصيدتين، وإنما يسمى كذلك بعد أن ترسخ فيه ملكة الشعر، وبعد القصائد الطويلة التي يكتبها، والتي تجعل الشعر هينا لينا سهلا لا يحتاج إلى معاناة لكتابته.

ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الصدق قد يبدأ اجتهادا وتكلفا، لكن بالإدمان عليه، والاستمرار في الحرص عليه يتحول إلى صفة راسخة، لا يستطيع صاحبها الكذب أبدا، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا) ([1])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فلا تشتغل بالخلافات التي قد تراها بين علماء التزكية والترقية في مراتب ومنازل السالكين، وعلاقتها بأنواع النفوس، فهي خلافات لفظية لا ضرر فيها، والعبرة بالمعاني، ولا مشاحة في الاصطلاح.

وإن شئت دليلا على ذلك من العقل والواقع، فانظر إلى لقب الغني، وعلى من يطلقه قومك؛ فسترى أنهم يطلقونه على الذي يتخلص من فقره وحاجته، ولو كان ذلك في أدنى الأحوال.. كما يطلقونه على من يملك الأموال الكثيرة، والخزائن الضخمة، والتي لا يساوي أمامها الغني الأول شيئا.. بل قد يعتبر فقيرا بالنسبة لها.

وكذلك منازل النفس المطمئنة أو مناهج النفس اللوامة.. فهي وإن اتحدت في الاسم، لكنها تختلف في المسمى اختلافا شديدا، ولذلك تعتبر الصلاة منهجا لتزكية النفس اللوامة، وهي في نفس الوقت منزلة من منازل النفس المطمئنة.. والفرق بينهما في حال المصلي.. فصاحب النفس اللوامة يجاهد نفسه لتحصيل الحضور والخشوع، وصاحب النفس المطمئنة لا يحتاج لذلك، لأن الصلاة صارت قرة عينه، وفرح قلبه، فلا يشغله عنها شيء، وكيف ينشغل عنها، وكل لذته فيها.

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاسمع لما سأذكره لك من مناهج تحصيل كلا الصفتين، لتتحول من حال التكلف والمجاهدة والرياضة والمعاناة إلى حال راسخة ثابتة مستقرة تطمئن بها نفسك، ويفرح لها قلبك.

 الإنابة والتزكية:

أما الإنابة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تعني ـ في مرحلة النفس اللوامة ـ تلك المجاهدات التي يجاهد بها السالك نفسه ليخرجها من ظلمات المعصية إلى أنوار الطاعة، ومن الغفلة إلى الذّكر، ومن الوحشة من الحقائق إلى الأنس بها.. ولذلك تراه يجهد نفسه كل حين لتذكر الحقائق والقيم المرتبطة بها حتى لا ينشغل عنها بأي شاغل([2]).

وهو يشبه ذلك الذي يسير في أرض تتوارد عليها الأنوار والظلمات، فهو كلما مر عليه الظلام أسرع إلى سراجه ليشعله، ليهتدي به في طريقه.. أما صاحب النفس المطمئنة، فقلبه المنور بنور الحقائق أصبح سراجا منيرا بحيث لا يحتاج إلى أي تكلف أو مجاهدة، لأنه مضيء في كل الأوقات، وينير له في كل الأحوال.

وإن شئت أن تصفه بكونه سراجا تلقائي الإضاءة، فلك ذلك.. ذلك أن صاحبه لا يتكلف في إشعاله، بل هو يضيء له من تلقاء ذاته كلما احتاج إلى ذلك.

ولهذا أخبر الله تعالى عن داود عليه السلام أنه بمجرد أن فطن لما حصل منه، وكونه نطق بالحكم قبل أن يسمع للخصم الثاني، أسرع مباشرة للإنابة والاستغفار، ومن غير تكلف ولا معاناة، قال تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]

أما أصحاب النفوس اللوامة؛ فيحتاجون إلى المعارف الكثيرة التي تنبههم، حتى يسارعوا إلى الإنابة، وحتى لا تبقي الذنوب آثارها في نفوسهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } [الأعراف: 201]، ثم ذكر أصحاب النفس الأمارة، فقال: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ } [الأعراف: 202]

ولهذا يصف الله تعالى التائبين الحقيقيين بقوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]

وهذا هو معنى الإنابة؛ فهي تعني سرعة العودة إلى الله بعد الغفلة أو المعصية أو كل ما يصرف عن الله.. فالمريد الصادق يعتبر الله تعالى غايته العظمى، لذلك يستعمل كل الوسائل حتى لا ينشغل عنه بشيء.

ولهذا يقرن الله تعالى بين الإنابة وإسلام الوجه لله، قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54]، ذلك أن للمنيب قبلة واحدة، وهي وجه ربه، فهو مسلم مستسلم له، لا يرغب عنه، ولا يستبدله بغيره.

ولهذا، فإن آيات الله لا يستفيد منها إلا المنيبون، الذين يفكون رموزها، ويعرفون معاني الحقائق التي تحتويها، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9]

وهم لذلك أهل الذكرى والتبصرة؛ فهم لرجوعهم الدائم والسريع إلى الله يذكرون الحقائق، ويبصرونها رأي العين، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ق: 6 – 8]، وقال: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]

وهم لذلك أهل الهداية الحقيقية، قال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27]، ثم وصف سر هدايتهم فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد: 28]

وكل تلك الصفات تجعلهم من أصحاب الجنة، وذلك ما يعني تخلصهم من أهوائهم، وامتلائهم بالطيبة، ونجاحهم في الاختبارات التي أجريت لهم، قال تعالى: { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 31 – 33]

وهذه النصوص كلها تدل على أن هذا المنهج العظيم يستدعي الحضور الدائم مع الله، ولو تكلفا، أو مجاهدة، ولهذا ارتبط الذكر بالإنابة، ذلك أنه لا يمكن أن تتحقق النفس بالإنابة ما لم تمتلئ بالذكر، فالغفلة والإنابة متضادان لا يجتمعان.

وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى الحقائق التي علينا تذكرها لنمتلئ بالإنابة، ومنها ما ورد في دعائه صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يردده إذا قام إلى الصّلاة من جوف اللّيل، والذي يقول فيه: (اللهم لك الحمد أنت نور السّموات والأرض، ولك الحمد أنت قيّام السّموات والأرض، ولك الحمد أنت ربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ. أنت الحقّ، ووعدك الحقّ، وقولك الحقّ، ولقاؤك حقّ، والجنّة حقّ، والنّار حقّ، والسّاعة حقّ. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدّمت وأخّرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلّا أنت)([3])

وهذا الدعاء وارتباطه بالإنابة يشير إلى أن ترديد أمثال تلك الحقائق على النفس كل حين، يحول منها معاني راسخة فيها، تعين على الإنابة الدائمة؛ ولهذا قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين طول العمر والإنابة، فقال: (لا تمنّوا الموت فإنّ هول المطّلع شديد، وإنّ من السّعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة)([4])

وسر ذلك هو أن المؤمن الملتزم بدينه، والمكثر لذكر ربه، كلما طال عمره، كلما استقرت معاني الأذكار في نفسه، وهو ما يؤهله لأن يصبح من أهل الإنابة، الذين تجوهرت نفوسهم بها.

ولهذا يقترن في النصوص المقدسة الإنابة مع التأوه([5]) والتضرع إلى الله، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]

ومن أدعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا قوله: (ربّ أعنّي ولا تعن عليّ، وانصرني ولا تنصر عليّ، وامكر لي ولا تمكر عليّ، واهدني ويسّر الهدى لي، وانصرني على من بغى عليّ، ربّ! اجعلني لك شكّارا. لك ذكّارا، لك رهّابا، لك مطيعا، إليك مخبتا([6])، إليك أوّاها منيبا، ربّ تقبّل توبتي واغسل حوبتي‏([7])، وأجب دعوتي، واهد قلبي، وسدّد لساني، وثبّت حجّتي، واسلل سخيمة([8]) قلبي)([9])

وإن شئت ـ أيها المريد الصادق ـ أن تختصر لنفسك طريق تحصيل الإنابة، فردد كل حين ذلك الدعاء الذي كان يقوله الإمام السجاد، فهو ممتلئ بكل المعاني التي تعينك على الإنابة على الله، فقد كان يقول: (اللهم يا من لا يصفه نعت الواصفين، ويا من لا يجاوزه رجاء الراجين، ويا من لا يضيع لديه أجر المحسنين، ويا من هو منتهى خوف العابدين، ويا من هو غاية خشية المتقين.. هذا مقام من تداولته أيدي الذنوب، وقادته أزمة الخطايا، واستحوذ عليه الشيطان، فقصر عما أمرت به تفريطا، وتعاطى ما نهيت عنه تعزيرا، كالجاهل بقدرتك عليه، أو كالمنكر فضل إحسانك إليه، حتى إذا انفتح له بصر الهدى، وتقشعت عنه سحائب العمى أحصى ما ظلم به نفسه، وفكر فيما خالف به ربه، فرأى كبير عصيانه كبيرا، وجليل مخالفته جليلا، فأقبل نحوك مؤملا لك، مستحييا منك، ووجه رغبته إليك ثقة بك، فأمك بطمعه يقينا، وقصدك بخوفه إخلاصا، قد خلا طمعه من كل مطموع فيه غيرك، وأفرخ روعه من كل محذور منه سواك، فمثل بين يديـك متضرعـا، وغمض بصره إلى الأرض متخشعا، وطأطأ رأسه لعزتك متذللا، وأبثك من سره ما أنت أعلم به منه خضوعا، وعدد من ذنوبه ما أنت أحصى لها خشوعا واستغاث بك من عظيم ما وقع به في علمك وقبيح ما فضحه في حكمك من ذنوب أدبرت لذاتها فذهبت، وأقامت تبعاتها فلزمت، لا ينكر يا إلهي عدلك إن عاقبته، ولا يستعظم عفوك إن عفوت عنه ورحمته؛ لأنك الرب الكريم الذي لا يتعاظمه غفران الذنب العظيم)([10])

إلى آخر الدعاء الذي يقول في خاتمته: (اللهم إن يكن الندم توبة إليك فأنا أندم النادمين، وإن يكن الترك لمعصيتك إنابة فأنا أول المنيبين، وإن يكن الاستغفار حطة للذنوب فإني لك من المستغفرين. اللهم فكما أمرت بالتوبة وضمنت القبول وحثثت على الدعـاء ووعدت الاجابة، فصل على محمد وآله واقبل توبتي ولا ترجعني مرجع الغيبة من رحمتك إنك أنت التواب على المذنبين، والرحيم للخاطئين المنيبين. اللهم صل على محمد وآله كما هديتنا به وصل على محمد وآله كما استنقذتنا به، وصل على محمد وآله صلاة تشفع لنا يوم القيامة ويوم الفاقة إليك، إنك على كل شيء قديرٌ وهو عليك يسيرٌ)

 الاستغفار والتزكية:

أما الاستغفار ـ أيها المريد الصادق ـ فهو مثل الإنابة، له مراتب مختلفة بحسب المحل الذي تحل فيه النفس.. وأرقى تلك المراتب وأشرفها المرتبة التي وصف الله تعالى بها خيرة عباده الذين لا سلطان للشيطان أو الأهواء عليهم.. ولكنهم مع ذلك يستغفرون الله، لا لذنوب اقترفوها، أو خطايا اقترفوها، وإنما لمعرفتهم بعظمة ربهم، وأنه لا يمكن لأحد أن يقدر على طاعته حق الطاعة، أو شكره حق الشكر؛ فلهذا يلجؤون إلى الاستغفار معترفين بالتقصير في حق الله.

وقد وصف الله تعالى بذلك الربانيين من الأنبياء عليهم السلام وأصحابهم وورثتهم، فقال:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 146، 147]، ثم ذكر الجزاء العظيم المعد لهم بسبب قولهم هذا، فقال: { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 148]

ووصف به أولي الألباب {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 191]؛ فذكر أنهم يقولون في دعائهم: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ } [آل عمران: 193]

وأخبر عن نوح عليه السلام أنه قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [هود: 47]

وأخبر عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 78 – 83]

وأخبر عن موسى عليه السلام أنه قال في دعائه: { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [الأعراف: 155]

وفي موقف آخر من مواقفه ذكر أنه قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16]

وأخبر عن داود عليه السلام ومسارعته للاستغفار، فقال: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } [ص: 24، 25]

ومثله سليمان عليه السلام، فقد قال عنه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [ص: 34، 35]

وهكذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان سيد المستغفرين، وقد وردت الروايات الكثيرة الدالة على كثرة استغفاره لله، فقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (والله إنى لأستغفر الله وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة) ([11])، وفي حديث آخر قال:(إنه ليغان على قلبى، وإنى لأستغفر الله فى اليوم مائة مرة) ([12])

وروي عن الإمام الصادق أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر الله عزّ وجلّ في كلّ يوم سبعين مرّة، ويتوب إلى الله عزّ وجلّ سبعين مرّة.. كان يقول: أستغفر اللّه، أستغفر الله سبعين مرّة، ويقول: وأتوب إلى اللّه، وأتوب إلى الله سبعين مرّة) ([13])

ومع كون الاستغفار ـ أيها المريد الصادق ـ هو درجة الصالحين والصديقين من أولياء الله إلا أن أصحاب النفوس اللوامة يمكنهم أن يستفيدوا منه في تطهير قلوبهم، والتحقق بالإنابة إلى ربهم.

ولهذا ورد في النصوص المقدسة الكثيرة الترغيب في الاستغفار وفي كل الأحوال، وبيان دوره العظيم في التزكية والترقية، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلكم على دائكم ودوائكم.. ألا إن داءكم الذنوب، ودواءكم الاستغفار) ([14])

وقال: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكره الله تعالى:﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين:14) ([15])

وقال: (إن للقلوب صدأ كصدإ النحاس، وجلاؤها الاستغفار) ([16])

وقال: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفار كثير) ([17])

وقال: (من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار) ([18])

وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن إقبال الله تعالى على المستغفرين، ومحوه لذنوبهم، فقال في الحديث القدسي حاكيا عن ربه تبارك وتعالى: (يا ابن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم.. وكلكم فقير إلا من أغنيت، فاسألوني أعطكم.. وكلكم ضال إلا من هديت، فاسألوني الهدى أهدكم.. ومن استغفرني، وهو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى رجل واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة.. ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون) ([19])

وفي حديث قدسي آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاكيا عن ربه تبارك وتعالى:(يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي.. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي.. يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) ([20])

وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قال إبليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) ([21])

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن آثار المغفرة لا تمتد فقط لصحائف الأعمال، ولا لمحال المعصية من النفس، وإنما تمتد لجميع مناحي الحياة، فتطهرها من كل آثار المحق التي سببتها المعصية، وتملؤها بكل آثار البركة التي سببها العودة إلى الله والإنابة إليه؛ ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من أكثر من الإستغفار جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب)([22])

وقال: (من ظهرت عليه النعمة فليكثر ذكر (الحمد للّه)، ومن كثرت همومه فعليه بالاستغفار، ومن ألحّ عليه الفقر فليكثر من قول: (لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم) ينفي عنه الفقر) ([23])

وروي عن الإمام الصادق أنه قال: (ما ضاع مال في برّ ولا بحر إلّا بتضييع الزكاة، فحصّنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا نوائب البلايا بالاستغفار، الصاعقة لا تصيب ذاكرا، وليس يصاد من الطير إلّا ما ضيّع تسبيحه) ([24])

وروي أن رجلا أتى الإمام الحسن فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن: (استغفر اللّه)، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له: (استغفر اللّه)، وأتاه آخر فقال له: ادع الله أن يرزقني ابنا، فقال له: (استغفر اللّه)، فقلنا له: أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلّهم بالاستغفار، فقال: (ما قلت ذلك من ذات نفسي، إنّما اعتبرت فيه قول اللّه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 – 12]) ([25])

ولم تكتف النصوص المقدسة بكل ذلك، بل ورد فيها الكثير من الصيغ التي تعلمنا كيفية الاستغفار، وأفضلها أن يبدأ العبد بالثناء على ربه.. ثم يثنى بالإعتراف بذنبه.. ثم يسأل الله المغفرة.. فهذا ما وردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(سيد الإستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك وأنا على عهدك، ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك على وأبوء بذنبى فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ([26])

ومنها ما ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فر من الزحف) ([27])

ومنها الصيغ المختصرة التي يمكن استعمالها في كل حين، ومنها قول المستغفر: (أستغفر الله العظيم الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه).. فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أن من قاله غفر له وإن كان فر من الزحف) ([28])

ومنها: (أسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب)([29])

وفي حديث آخر سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف نستغفر؟ فقال: قل (اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)([30])

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن أدنى درجات الاستغفار وأقبحها تلك الدرجة التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة الهدى وسموها درجة المستهزئين، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه) ([31])

وعن الإمام الرضا أنه قال: (مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرّك فيتناثر، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربّه) ([32])

وقال: (سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل الله الجنّة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوّذ بالله من النار ولم يترك الشهوات فقد استهزأ بنفسه، ومن ذكر الله ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه) ([33])

وعن الإمام الصادق أنه قال: (رحم الله عبدا لم يرض من‏ نفسه أن يكون إبليس نظيرا له في دينه، وفي كتاب الله نجاة من الردى، وبصيرة من العمى، ودليل إلى الهدى، وشفاء لما في الصدور فيما أمركم الله به من الاستغفار مع التوبة، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران: 135]، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، فهذا ما أمر الله به من الاستغفار، واشترط معه بالتوبة والإقلاع عمّا حرّم اللّه، فإنّه يقول: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وهذه الآية تدلّ على أنّ الاستغفار لا يرفعه إلى الله إلّا العمل الصالح والتوبة) ([34])

وشبه الإمام علي المستغفر بالمستعمل للدواء؛ فإذا كان يستعمله، ويسرف على نفسه بما يسبب له المرض، فإنه لن يشفى أبدا، لأن غرض الاستغفار هو العودة إلى الله، لا مجرد حركة اللسان، فقد روي عنه أنه قال: (الذنوب الداء والدواء الاستغفار، والشفاء أن لا تعود) ([35])

وروي أن بعضهم قال بحضرته (أستغفر اللّه)، فقال له الإمام علي: (ثكلتك أمّك، أ تدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين، وهو اسم واقع على ستّة معان: أوّلها النّدم على ما مضى، والثّاني: العزم على ترك العود إليه أبدا، والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها، والخامس: أن تعمد إلى اللحم الّذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر اللّه) ([36])

وهذا ما نص عليه القرآن الكريم وصرح به، فقد قال الله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)﴾ (آل عمران)

فقد قرن الله تعالى في الآية الكريمة الاستغفار بعدم الإصرار، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) ([37])

وذلك لا يعني العصمة من الذنوب، أو عدم العودة إليها؛ فقد يصر الشخص على شيء ويعزم عليه، ولكنه ينكث عزمه.. فالمراد هو أن يعاهد الله أن لا يقع في الذنب بجزم وتأكيد، فإن قدر ووقع في الذنب عاد إلى الاستغفار من جديد..

لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال: (ما أصر من استغفر وإن عاد فى اليوم سبعين مرة) ([38])

وأخبرنا (أن عبدا أذنب ذنبا فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفر لى، قال الله تعالى: علم عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدى. ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين) ([39])


([1] )  رواه أبو داود والترمذي وصححه.

([2] )  عرفها في [جامع السعادات، ج 3 ص 88 ] بقوله: (الإنابة هو الرجوع عن كلّ شي‏ء ممّا سوى الله، والإقبال على اللّه تعالى بالسرّ والقول والفعل، حتّى يكون دائما في فكره وذكره وطاعته، فهو غاية درجات التوبة، وأقصى مراتبها، إذا التوبة هو الرجوع عن الذنب إلى اللّه، والإنابة هو الرجوع عن المباحات أيضا إليه سبحانه، فهو من المقامات العالية، والمنازل السامية)

([3]) البخاري [فتح الباري]، 13(7385)، ومسلم(769)

([4]) أحمد(3/ 332)

([5]) معنى الأواه: كثير التأوّه، وغلب على معنى التضرع إلى اللّه في العبادة والندم على الذنوب.

([6]) مخبتا: متواضعا خاشعا سائرا في الطريق المطمئن الواسع.

([7]) حوبتي: إثمي وخطيئتي.

([8]) سخيمة: حقد وضغينة.

([9]) أبو داود(1510)، وابن ماجة(3830) واللفظ له، والترمذي(3551)

([10]) الصحفية السجادية، ص141.

([11])  رواه البخارى.

([12])  رواه مسلم.

([13] )  اصول الكافي ج 2 ص 504.

([14])  رواه البيهقي.

([15])  رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.

([16])  رواه البيهقي.

([17])  رواه ابن ماجه بإسناد صحيح والبيهقي.

([18])  رواه البيهقي بإسناد لا بأس به.

([19])  رواه مسلم والترمذي وحسنه وابن ماجه والبيهقي واللفظ له.

([20])  رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

([21])  رواه أحمد والحاكم، وقال الحاكم صحيح الإسناد.

([22])  رواه أبو داود، و رواه في (عدّة الداعي): ص 265، ونقله عنه في (البحار): ج 90 ص 284.

([23] )  روضة الكافي ج 1 ص 133

([24] )  المحاسن ص 294

([25] )  مجمع البيان ج 10 ص 361

([26])  رواه البخارى.

([27])  رواه أبو داود والترمذي.

([28])  رواه أبو داود والترمذى.

([29])  رواه الترمذي والنسائي والحاكم وصححه.

([30])  رواه النسائى في عمل اليوم والليلة.

([31])  رواه ابن أبى الدنيا، قال ابن رجب: ورفعه منكر ولعله موقوف.

([32] )  اصول الكافي ج 2 ص 504.

([33] )  كنز الكراجكي ج 1 ص 330

([34] )  تفسير العيّاشي ج 1 ص 198

([35] )  غرر الحكم ص 79

([36] )  نهج البلاغة حكمة 409 ص 1281

([37])  رواه أحمد.

([38])  رواه أبو داود والترمذى.

([39])  رواه البخاري ومسلم.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *