أولا ـ تصريحات ابن تيمية الدالة على التجسيم

أولا ـ تصريحات ابن تيمية الدالة على التجسيم

 تقدم الميلاني، وقال: ليسمح لي سيدي القاضي أن أذكر الدليل الأول.. وهو تصريحات ابن تيمية الدالة على التجسيم.

وقفت، وقلت: أنت تعلم ـ سيدي القاضي ـ أن هناك كتبا دست على ابن تيمية، وهو ليس من مؤلفيها.. ولذلك أرجو من المتحدث ألا ينقل لنا إلا من الكتب المشهورة التي لم يشكك أحد في نسبتها إليه.

قال الميلاني: أنا أعلم ذلك.. ومعاذ الله أن أقوله ما لم يقل.. وسأورد لك النصوص مع أسماء الكتب التي وردت فيها، فإن رأيت أن الكتاب منسوب إليه سحبت الدليل، فلي بحمد الله من الأدلة في هذا ما يغنيني عن الجدل.

قلت: ما دام الأمر كذلك.. فأنا في الاستماع إليك.. لكن اذكر لنا أي مرجع تعود إليه حتى أتأكد منه.

قال الميلاني: إن شئت ذكرت لك المرجع والصفحة وكل معلومات النشر..

قلت: لا تتعب نفسك بذلك.. كان ذلك في العصور السالفة.. أما الآن فنحن في عصر المعلوماتية مجرد أن تذكر جملة واحدة أصل إلى المحل من غير حاجة إلى تعب في البحث.. لدي برنامج متطور أنشأه أصحاب ابن تيمية، وهو يجمع جميع كتبه، بل يجمع كتب تلاميذه أيضا على مدار التاريخ.

قال الميلاني: ما دام الأمر كذلك.. فاسمح لي، وليسمح لي – سيدي القاضي – أن أذكر له بأن الأدلة التي يدندن حولها المدافعون عن ابن تيمية في نفي التجسيم عنه هي كونه يذكر في كتبه كثيرا الاختلاف في وصف الله بالجسم.. وأنه يرجح أنه ليس له صفة اسمها (الجسم)، لأن النصوص لم ترد بها.. ولكن هذا لا ينفي أبدا أن يكون الله عنده متصفا بجميع معاني الجسمية من الحدود والحيز والتركيب والثقل ونحو ذلك.. وهذا هو الذي نريده، لا مجرد نفي اللفظ.. فالمهم في اللفظ معناه وحقيقته لا حروفه.

قال القاضي: صدقت في هذا.. وهو ما نريده.

قال الميلاني: بناء على هذا.. فقد أورد ابن تيمية الكثير من النصوص الدالة على عدم الحرج في وصف الله بكونه جسما من الأجسام، بناء على المعنى لا على اللفظ..

منها قوله في كتابه)موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)، أو ما يسمى (درء تعارض العقل والنقل)([1])  في تفسير قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وقوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]: (فإنّه لا يدلّ على نفي الصفات بوجه من الوجوه، بل ولا على نفي ما يسمّيه أهل الاصطلاح جسماً بوجه من الوجوه).. ومراده من الصفات اليد والوجه والساق، وغيرها، فهو يعتقد أنّ الجميع يوصف به سبحانه من غير تأويل ولا تعطيل، بل بنفس المعنى اللغوي.

وورد في نفس الكتاب: (وأمّا ذكر التجسيم وذمّ المجسّمة، فهذا لا يعرف في كلام أحد من السلف والأئمّة، كما لا يعرف في كلامهم أيضاً القول بأنّ الله جسم أو ليس بجسم)([2])

وذكر في كتابه (الجواب الصحيح) أنه لم يُنقل في الشرع ولا عن الأنبياء السابقين ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين ومن تبعهم من سلف الأمة إثبات هذا اللفظ أو نفيه، فقال: (وأما الشرع فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر ولا إنه ليس بجوهر، لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء هو بما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء)(91).

وقال في شرح حديث النزول: (وأما الشرع: فمعلوم أنه لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أن الله جسم، أو أن الله ليس بجسم، بل النفي والإثبات بدعة في الشرع)(93)

وقال – أيضاً -: (وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم كأئمة الحديث، والتفسير، والتصوف، والفقه، مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم، وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة، ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهؤلاء ليس فيهم من يقول: إن الله جسم، وإن كان أيضاً: ليس من السلف والأئمة من قال: إن الله ليس بجسم)(94)

وعندما راح يبين سبب عدم إطلاق السلف لفظ الجسم لا نفياً ولا إثباتاً لله تعالى لم يذكر أن ذلك لتناقضه مع العقل أو مع القرآن، وإنما ذكر لذلك وجهين: (أحدهما: أنه ليس مأثوراً لا في كتاب ولا سنة، ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا غيرهم من أئمة المسلمين، فصار من البدع المذمومة.. الثاني: أن معناه يدخل فيه حق وباطل، فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل، والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل)([3])

ومراد ابن تيمية من التعطيل والتحريف – كما سيوضح زملائي سيادة القاضي – هو تنزيه الله عن لوازم الجسمية كالحيز والحدود ونحوها..

قلت: كلامك واضح.. ولكن أصحاب ابن تيمية وخصوصا المتأخرين منهم يدافعون عنه، وينفون عنه التجسيم بكل الوجوه.

قال الميلاني: إن هؤلاء يمارسون التقية بهذا، ويخالفون شيخهم وما تطفح به كتبه.. إن ابن تيمية – كما ذكرت لكم – لم ينف التجسيم عن الله، وإنما نفى لفظ التجسيم.. بينما كل كتبه تدل على أنه يقول بالتجسيم..

اسمع إلى قوله مثلا في كتابه (منهاج السنّة): (وقد يراد بالجسم ما يشار إليه، أو ما يرى، أو ما تقوم به الصفات، والله تعالى يُرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم.. فإن أراد بقوله: (ليس بجسم) هذا المعنى قيل له: هذا المعنى ـ الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ ـ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلاً على نفيه.. وأمّا اللفظ فبدعة نفياً وإثباتاً، فليس في الكتاب ولا السنّة، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها إطلاق لفظ (الجسم) في صفات الله تعالى، لا نفياً ولا إثباتاً)([4])

فقد عرّف الله في هذا النص بأنه يُشار إليه.. وأنّه يُرى كما ترى الأجسام.. وأنّه تقوم به الصفات فيكون مركّباً.. وأنّ له مكاناً وجهة، بدليل رفع الناس أيديهم عند الدعاء إلى الأعلى..

فالإله بهذا المعنى عنده ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول..

وقال في كتابه (شرح حديث النزول): (فمن قال إنّ الله جسم، وأراد بالجسم هذا المركّب فهو مخطئ، ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله فقد أصاب في نفيه)([5]

وهذا إقرار منه بأنّ الله تعالى جسم، ولكنّه ـ كما يعتقد ـ لا يماثل سائر الأجسام، من حيث إنّ تركيبها حادث. فهو لا ينفي الجسمية عن الله تعالى، وإنّما ينفي عنه هذا التركيب الحادث، ويدلّ على ذلك قوله:(ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله، فقد أصاب في نفيه) لهذا التركيب، وحسْب!!

بل إنه يحاول بكل ما أوتي من قوة المنطق أن يبرهن على ضرورة أن يكون الله جسما حتى يكون موجودا.. فالوجود عنده يقتضي الجسمية، يقول في ذلك:(فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجوداً معيناً مخصوصاً قائماً بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه، وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز، كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.. فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه. ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم.. فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره.. ومن قيل له هل تعقل شيئاً قائماً بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكماً بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود)([6]

هل رأيت سيدي تصريحا أكثر من هذا؟.. وهل الجسم غير هذا؟

إن ابن تيمية يضعنا بين أمرين: إما أن نجسم الله، أو نقول بعدمه.. فالوجود عنده قاصر على الأجسام.

وهو يطبق جميع أوصاف الأجسام على كل الموجودات، لا يفرق في ذلك بين الله سبحانه وتعالى واجب الوجوب، وبين الممكنات التي خلقها، فيقول: (الوجه السادس أن يقال ما عُلم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزاً أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يُعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك.. فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا)([7])

وهو لا يكتفي بهذه التصريحات فقط، بل إنه في كتابه (بيان تلبيس الجهمية) يكاد يدافع عن لفظ (الجسم) بعينه، فيقول: (وليس في كتاب الله، ولا سنّة رسوله، ولا قول أحد من سلف الأُمّة وأئمتها أنّه ليس بجسم، وأنّ صفاته ليست أجساماً وأعراضاً)([8])

أراد الميلاني أن يجلس، فقلت: انتظر لدي شبهة  أريد عرضها عليك..

قال الميلاني: هلم بها..

قلت: لقد سمعت بعض أصحاب ابن تيمية يعترض عليكم أنكم تقولون ما لا تفعلون.. فبينما تنكرون كون الباري سبحانه جسماً لا كالأجسام، تثبتون أنه شيء لا كالأشياء؟

ابتسم الميلاني، وقال: سأورد لك في هذا ردا لعلم كبير من أعلام التنزيه هو القاضي أبو بكر الباقلاني، فقد أورد السؤال الذي ذكرته، ثم أجاب عليه بقوله: (إنّ قولنا (شيء) لم يبن لجنس دون جنس، ولا لإفادة التأليف، فجاز وجود شيء ليس بجنس من أجناس الحوادث وليس مؤلَّفا، ولم يكن ذلك نقضاً لمعنى تسميته بأنّه شيء. وقولنا (جسم) موضوع في اللغة للمؤلَّف دون ما ليس بمؤلَّف، كما أنّ قولنا: (إنسان) و(مُحدَث) اسم لما وُجد من عدم، ولما له هذه الصورة دون غيرها، فكما لم يجز أن نثبت القديم سبحانه محدَثاً لا كالمحدثات وإنساناً لا كالناس، قياساً على أن لا شيء كالأشياء، لم يجز أن نثبته جسماً لا كالأجسام، لأنّه نقض لمعنى الكلام، وإخراج له عن موضوعه وفائدته)([9])


([1])  درء تعارض العقل والنقل، 1/100.

([2])  درء تعارض العقل والنقل:1/189..

(91) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/432.

(93)  شرح حديث النزول ص258.

(94)  منهاج السنة النبوية 2/105.

([3])  منهاج السنة النبوية 2/225

([4])  منهاج السنّة: 1 / 180.

([5])  شرح حديث النزول: 237.

([6])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 364)

([7])  بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (2/ 370)

([8])  بيان تلبيس الجهمية:1/101.

([9])  تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل:113ـ

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *