التهمة (1): التجسيم والتشبيه

التهمة الأولى.. التجسيم والتشبيه

كان اليوم الأول من المحاكمة خاصا بالتهمة التي حاول جميع المدافعين عن ابن تيمية أن يخلصوه منها، وهي (تهمة التجسيم والتشبيه)، وقد كنت أقرأ عنها من الفريقين جميعا، ومترددا في إثباتها لابن تيمية مع كثرة من ادعاها عليه..

ولهذا فقد كنت مشتاقا لسماع الأدلة من الخصوم أنفسهم.. أما المدافعون عنه، فلم أكن محتاجا إليهم لسببين:

الأول: أني قرأت كتبت ابن تيمية، وعرفت منهجه فيها، وصرت أستطيع التمييز بين آرائه التي ينتصر لها بكل الطرق، وبين الآراء التي يتوقف فيها، أو يقف في وجهها.

الثاني: أني أعرف المدافعين عن ابن تيمية، وتلاعبهم بالألفاظ، وخلطهم للأمور، فلا يستطيع أن يجني من يستمع لهم شيئا.. نعم يسمع جعجعة، ولكن لا يرى أي طحين.

عقدت الجلسة، وقعد القاضي على كرسي كبير في أعلى مكان في المحكمة.. وبعد أن استقرت القاعة بمن فيها، قلب القاضي بعض الأوراق التي كانت بجانبه، ثم قال: التهمة التي سنبحث فيها اليوم هي تهمة (التجسيم والتشبيه).. وأنا أريد من المدعين على ابن تيمية أن يوضحوا لي مرادهم منها قبل أن يذكروا الأدلة المثبتة لدعاواهم.

تقدم الكوثري، وقال: ليسمح لي – سيادة القاضي – أن أشرح له كلا المصطلحين بالمنهج العلمي الذي اعتدنا عليه، ولا يعتبرني بذلك أتصرف وكأنني في المدرسة بين تلاميذي.

قال القاضي: تكلم بحرية.. فالمحاكمة التي نجريها محاكمة علمية.. ولا يمكن أن تكون كذلك ما لم يتحدث المدعون والمدافعون بلغة العلم.. ولا تقلق على الوقت، فأنا لا أؤمن بالقاضي الذي يطلب من المدعي أو الخصم أن يسكت أو يختصر.. أحيانا فهم الحقائق يحتاج إلى تفاصيل.. والقاضي العادل لا يمكنه أن يعرف الحقيقة إلا بعد سماعها جميعا.

قال الكوثري: بورك فيك.. وهذا اعتقادنا فيك.. ولهذا لجأنا إليك.. التجسيم – سيدي القاضي – كلمة (جسَّم) مشتقة من (الجسم)، وهي تعني بذلك نسبة الجسم إلى المفعول.. وذلك مثل: فسَّقته أي نسبته إلى الفسق، وكفرته إذا نسبته إلى الكفر([1]).

قال القاضي: هذا جيد.. فماذا تريدون بالجسم؟

قال الكوثري: هو ما نعرفه في واقعنا من كونه ذلك الذي يحتل حيزا محدودا، ويكون مركبا، وقابلا للقسمة، وغير ذلك من خصائص الأجسام التي تدرس في الفيزياء والكيمياء والطب ونحوها.

وقد عرفه سلفنا المتكلمون بقولهم: (الجسم هو المتحيز بالذات، القابل للقسمة)([2])

قال القاضي: فما تعنون بالمتحيز بالذات؟

قال الكوثري:: هو من يكون له مكان محدد يقبل الإشارة الحسية إليه بأنه في هذا الموضع، أو ذاك الموضع..

قال القاضي: فما تعنون بالقابل للقسمة؟

قال الكوثري: نريد به كون الجسم مركبا من أجزاء حقيقية، بحيث يمكن أن نأخذ كل جزء على حدة..

قال القاضي: هذا يعني أن هناك تقسيما غير حقيقي؟

قال الكوثري: أجل.. ونحن نسميه التقسيم الوهمي.. والفرق بينهما أن قسمة الكل إلى أجزائه إذا أوجبت انفصال هذه الأجزاء فعلاً فهي قسمة فعلية وتسمى انفكاكية أيضاً، وإذا لم توجب انفصالاً، بل كانت مجرد فرض شيء في المنقسم يغاير شيئاً آخر منه فهي قسمة ذهنية وتسمى قسمة وهمية أيضا([3]).

قلت: اسمح لي سيدي القاضي.. أظن أن هناك تعريفا آخر للتجسيم لم يشأ أستاذنا الفاضل أن يذكره.. ولست أدري لم؟

قال القاضي: تفضل.. هاته.

قلت: لقد قرأت عن بعضهم أنه عرف الجسم بأنه (القائم بنفسه)([4])

ضحك الكوثري، وقال: لو طبقنا هذا التعريف، فستكون كل الأمة مجسمة، بل يكون القرآن الكريم نفسه مجسما.. فالله سبحانه وتعالى من أسمائه القيوم، وهو المستغني في قيامه عن محل أو حيز يقوم به، وعن فاعلٍ يكون قيامه به.. وهو يدل على أن لله الغنى المطلق في مقابلة الاحتياج اللازم لأجسام العالم وأعراضه، فإن العرض يحتاج إلى محل يقوم به فيكون قيامه بغيره، ويحتاج إلى فاعل أيضاً، والجسم وإن قام بنفسه لكنه يحتاج إلى فاعل يقيمه وحيز يقوم فيه.

قال القاضي: لا يهمنا المصطلحات ومعانيها.. ولنترك اللفظ ونهتم بالمعنى.. فما وجه التهمة في التجسيم؟

قال الكوثري: وجه التهمة فيها واضح.. وهو افتقار الله وعدم قيوميته وشبهه بخلقه في ذلك.. ولهذا فإن كل من جسم سيشبه الله بخلقه لا محالة.. إذ لو كان جسماً لاحتاج إلى مكان، فالمكان إمّا أن يكون قديماً فيكون إلهاً ثانياً، وإن كان حادثاً أحدثه سبحانه، فأين كان هو قبل إحداث هذا المكان؟

قال القاضي: لم أفهم..

قال الكوثري: إذا قلنا بأن الله تعالى يحتاج إلى مكان يكون فيه.. أليس هذا قصورا وضعفا وفقرا؟

قال القاضي: بلى..

قال الكوثري: وإذا قلنا بأن الله تعالى مركب من أجزاء وأعضاء ألا يكون كل جزء من أجزائه مفتقرا إلى غيره.. بل يكون هو بذاته مفتقرا إلى كل جزء من أجزائه.

قال القاضي: هذا صحيح.

قال الكوثري: فهذا ما ينادي به ابن تيمية ويعتبره العقيدة الصحيحة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. وأن خلاف ذلك بدعة.

قال القاضي: تقصد أنه يبدع كل من لا يقول بأن لله مكانا وتركيبا.

قال الكوثري: أجل.. ولو طبقنا مقاييسه التي ذكرها، أو العلماء الذين رجع إليهم وأثنى عليهم لكان قائلا بالتكفير لا بمجرد التبديع.

قال القاضي: فهمت القضية.. لكني أحتاج إلى الأدلة القوية المثبتة للدعوى.

قال الكوثري: لقد رجعت مع أصحابي إلى كتب ابن تيمية، وقرأناها بتفصيل وتدقيق وتمعن، واستخرجنا منها أربعة أدلة، كل دليل منها كاف لإدانة ابن تيمية في هذه المسألة.. وسيتقدم أصحابي واحدا واحدا لإيرادها عليك.

قال القاضي: قبل ذلك أريد أن توضح لي وجه المنطقية فيها.

قال الكوثري: أرأيت لو أن شخصا أقر وصرح بين يديك بأن الله جسم من الأجسام.. ثم راح يعظم ويثني على كل من قال بالتجسيم.. ثم راح يبدع كل من سكت ولم يؤيد المجسمة.. ثم راح يبدع من نزهوا الله عن التجسيم.. ثم راح يقيد الله بالحيز والحدود.. ثم راح يصف الله بالحركة والانتقال.. ثم راح يضع لله صورة بكل تفاصيلها.. ألا يعتبر من فعل كل هذا مجسما؟

قال القاضي: بلى.. ولو أثبتم هذا وفق المنهج العلمي تكونون قد أثبتم التهمة حقيقة..

قال الكوثري: لك ذلك سيدي القاضي.. ومحامي المتهم بين أيدينا، وهو يرد علينا إن وجد أننا ننقل نصا من كتبه لم يقله..

قلت: ليس ذلك فقط.. بل حتى لو بترتم النص عن سياقه، فإنني سأتدخل.. الشهادة لله تقتضي مني أن أكون صادقا معه، كما أكون صادقا معكم.


([1])  استفدنا في هذا المبحث وفي هذا الجزء من الكتاب برسالة علمية رائعة بعنوان (التجسيم في الفكر الإسلامي) للدكتور صهيب السقار.

([2]) المواقف للجرجاني 6/302.

([3])  انظر التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا التعريف في (التجسيم في الفكر الإسلامي)..

([4]) انظر الملل والنحل للشهرستاني10

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *