الافتقار والاضطرار

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الافتقار والاضطرار اللذين يتحدث عنهما علماء التربية والتزكية كثيرا، ويعتبرون أنهما من المناهج التي لا يمكن لأحد أن يتخلص من رعونات نفسه، أو يصل إلى الله من دونها، ولذلك يلقبون السالك بالفقير إلى الله؛ فلا يكتفون بكونه مريدا لله، حتى يضموا إليها افتقاره إلى الله.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن هذا المعنى ليس من إبداع علماء التزكية والترقية، ولا من المناهج التي سنوها لأنفسهم، وإنما هو منهج قرآني لا يمكن لمن يريد السير إلى الله إلا أن ينتهجه؛ فلا يمكن أن يكون السالك مريدا لله، ما لم يشعر بفاقته وفقره إلى الله.. فالفقر هو الذي يولد الإرادة، وينهض الهمة، وهو الذي يجعل السالك في حركة دؤوبة لطلب الكمال؛ فإن شعر بالكفاية، واستغنى، توقف سيره، وتوقفت حركته، وتوقف معهما كماله.
وحين يتوقف الكمال يبدأ النقص، ويبدأ معه الانحدار، والنزول إلى أسفل سافلين، ذلك أنه لا ثبات في الكون، بل كل ما في الكون بين حالين إما الصعود، وإما النزول، ومن توقف عن الصعود، فسيجد نفسه نازلا، شعر أو لم يشعر.
وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فهي تشير إلى أن قانون الصدقات واحد؛ فكما أنه لا يعطى من مواهب الدنيا إلى من أظهر فقره وحاجته، فكذلك مواهب الآخرة وكمالاتها لا تعطى إلا لمن أبدى ذلك.
ولا يتوقف ذلك على مواهب الآخرة، بل إن الله تعالى أخبر أن مواهب الدنيا مرتبطة بالشعور بالافتقار، كما قال تعالى عن قانون النصر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [آل عمران: 123]
وقال في التمكين والتعزيز وتكثير السواد: { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]
وفي المقابل ذكر قانون الاستغناء وسننه الحاكمة فيه، فقال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25]
ولذلك اتفق الحكماء على أن (الأشياء كامنة في أضدادها؛ فالعز كامن في الذل، والغنى في الفقر، والقوة في الضعف، والعلم في الجهل) ([1])
بل إن الله تعالى أشار إلى ذلك، وصرح به، فقال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) } [القصص: 5]
وأشار إلى ذلك في قوله ـ عند الحديث عن قوانين الفرج الإلهي ـ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح: 5، 6]، والذي فسره صلى الله عليه وآله وسلم بقوله لابن عباس: (واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العسر يسرا) ([2])
وقد اتفق الحكماء على أنه كلما اتصف العبد بأوصافه، كلما من الله تعالى عليه بما هو أهله من الكرم والجود والفضل.. وقد قال بعضهم في ذلك: (تحقّق بأوصافك يمدّك بأوصافه، وتحقّق بذلّك يمدّك بعزّته، وتحقق بعجزك يمدّك بقدرته، وتحقق بضعفك يمدك بحوله وقوّته)
وقال آخر: (من أراد أن يمده الله بالعز الذي لا يفنى فليتحقق بالذل لله والتواضع بين خلقه، فمن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره، ومن أراد أن يمده الله بالقدرة الخارقة للعوائد فليتحقق بعجزه، ويتبرأ من حوله وقوته، ومن أراد أن يمده الله بالقوة على طاعة مولاه ومجاهدة نفسه وهواه فليتحقق بضعفه، ويسند أمره إلى سيده، فبقدر ما تعطي تأخذ، وبقدر ما تتخلق تتحقق، وبقدر ما تتحقق بوصفك يمدك بوصفه) ([3])
وقد قال الشاعر معبرا عن ذلك:
تحقق بوصف الفقر في كل لحظة… فما أسرع الغنى إذا صحح الفقر
و إن تردن بسط المواهب عاجلا… ففي فاقة ريح المواهب ينشر
و إن تردن عزّا منيعا مؤيدا… ففي الذل يخفى العز بل ثم يظهر
و إن تردن رفعا لقدرك عاليا… ففي وضعك النفس الدنية يحضر
و إن تردن العرفان فافن عن الورى… وعن كل مطلوب سوى الحقّ تظفر
ترى الحق في الأشياء حين تلطّفت… ففي كل موجود حبيبي ظاهر
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الافتقار والاضطرار، وإن كانا يشتركان في الحاجة والضعف والقصور، إلا أنهما يختلفان في المدى الذي يكون فيه ذلك.
أما الفقر؛ فهو يعني الحاجة، ولو كانت محدودة ضعيفة قاصرة، كالحاجة إلى الكمالات التي لا يضر غيابها، وأما الاضطرار؛ فمقصور على الحاجات الضرورية التي يؤدي افتقادها إلى ضرر كبير.
وإلى المعنيين الإشارة بما حصل لموسى عليه السلام عند ذهابه المدين، وافتقاره للطعام، وعند فراره من فرعون، وملاقاته للبحر، وقد لجأ في كلا الحالين إلى الله، فقال في حال افتقاره: { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]، وقال في حال اضطراره: { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن للتحقق بكلا المعنيين وسائل عليك مراعاتها، ومعارف عليك إقناع نفسك بها؛ فالمشاعر والمواجيد لا يمكن فرضها على النفس من غير أن تقتنع بها، وتسلك السبل المؤدية لها.
الافتقار والتزكية:
أما الافتقار ـ أيها المريد الصادق ـ والذي يعني شعورك بالحاجة الدائمة إلى الله، وفي الصغير والكبير، فكل الحقائق تدل عليه؛ ذلك أن الفقر هو سمة الكون جميعا.. أما الغني الوحيد في هذا العالم فهو الله تعالى، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15)
والعقل ـ كالنقل ـ يقول بذلك، فالفقر في حقيقته هو الحاجة، وهي ليست مختصرة فيما اصطلح عليه الناس من أصناف الحاجات، بل هي كل شيء وهبه الله تعالى لعباده ابتداء من وجودهم، وانتهاء بالأرزاق التي تفاض عليهم في كل حين.
وبما أن في الإنسان من الحاجات بحسب عدد خلاياه.. بل بحسب عدد الذرات التي يتشكل منها بنيانه، فإن فيه لذلك من الفقر بحسب عدد تلك الذرات.. ذلك أن في كل ذرة حاجة من الحاجات.. وفاقة تستدعي أن تسد([4]).
وغفلة الإنسان هي التي تجعله يتصور أنه مستغن، مع أن أي مصيبة تحل به قد تذكره بفقره الشديد، وحاجته الدائمة، وقد روي في المواعظ أن حكيما دخل على بعض الملوك، وبيده كوز ماء يشربه، فقال له: (عظنى) فقال: (لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل جميع أموالك وإلا بقيت عطشان، فهل كنت تعطيه؟ قال: نعم فقال: (لو لم تعط إلا بملكك كله، فهل كنت تتركه؟ قال: نعم قال: (فلا تفرح بملك لا يساوى شربة ماء)
ولذلك يعلمنا ربنا أن نعدد نعمه علينا، لنشعر بفقرنا وفاقتنا إليه، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (ابراهيم: 34)، وفي الحديث القدسي قال تعالى: (يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم) ([5])
وهو يبين أن سبب الغفلة عن تلك النعم هو الشعور بكونها ذاتية لنا، لا هبة من الله إلينا؛ فيقول: { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53، 54]
لذلك كان الافتقار هو الشعور المعبر عن الحقيقة الواقعية.. والمفتقر مثل ذلك الذي ينام على سرير المرض، وقد ركبت له كل الأجهزة التي تمده بالحياة، ولو قطع عنه واحد منها لمات.. فهل يمكن لذلك المريض أن يستعلي أو يتصور أن بإمكانه الاستغناء عن تلك الأجهزة، أم أنه يشعر أنها سبب حياته وبقائه، ويشعر بفضل الأطباء عليه بسبب إغاثتهم له بها.
ولذلك كان الافتقار مدرسة تربوية وأخلاقية عظيمة، لا تربطك بالله فقط، وإنما تحسن علاقتك مع خلقه، وتجعلك أكثر أدبا معهم، ذلك أن أصل العدوان الذي يمارسه المعتدون نابع من شعورهم الزائد بذواتهم، واستكبارهم بها، ولو علموا فاقتهم وحاجتهم، وأن كل شيء يملكونه هبة من الله لهم، لاستحيوا من أنفسهم، وتأدبوا مع الخلق.
وحتى تيسر على نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ استشعار هذه المعاني، والتأدب بآدابها؛ فعليك بالقرآن الكريم، فقراءته وتدبره تجعلك تشعر بفقرك وحاجتك إلى الله، وفي كل نفس من أنفاسك.. ذلك أن كل شيء بيد الله، ولو قطع الله عنك مدد لطفه وفضله في أي لحظة من اللحظات لعانيت كل ألوان العناء التي لا يخرجك منها إلا جوده وإغاثته وفضله.
ومثله عليك بأنوار النبوة والولاية؛ فاستمسك بها، وردد ما ورد عنها من أنواع الأدعية التي تشعرك بفقرك وحاجتك إلى الله، وفي كل الأحوال والأوقات، حتى تلك التي تتوهم فيها غناك، كما يروى في دعاء يوم عرفة: (إلهي، أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرا في فقري؟! إلهي، أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولا في جهلي؟!)([6])
ومن تلك الأدعية وأكثرها جمعا للمعاني التي تربي فيك ـ أيها المريد الصادق ـ معاني الافتقار إلى الله ما ورد في مناجاة المفتقرين، والتي يقول فيها الإمام السجاد: (إلهي كسري لا يجبره إلا لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلا عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكنها إلا أمانك، وذلتي لا يعزها إلا سلطانك، وأمنيتي لا يبلغنيها إلا فضلك، وخلتي لا يسدها إلا طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرجها سوى رحمتك، وضري لا يكشفه غير رأفتك وغلتي لا يبردها إلا وصلك، ولوعتي لا يطفئها إلا لقاؤك، وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك، وقراري لا يقر دون دنوي منك، ولهفتي لا يردها إلا روحك، وسقمي لا يشفيه إلا طبك، وغمي لا يزيله إلا قربك، وجرحي لا يبرئه إلا صفحك، ورين قلبي لا يجلوه إلا عفوك، ووسواس صدري لا يزيحه إلا أمرك)
وبعد أن يذكر نفسه بهذه الحقائق العظيمة، يمد يده بالسؤال إلى الله، ذاكرا صفاته التي تغني المفتقرين، وتسد كل حاجاتهم قائلا: (فيا منتهى أمل الآملين، ويا غاية سؤل السائلين، ويا اقصى طلبة الطالبين ويا أعلى رغبة الراغبين، ويا ولي الصالحين، ويا أمان الخائفين، ويا مجيب المضطرين، ويا ذخر المعدمين، ويا كنز البائسين، ويا غياث المستغيثين، ويا قاضي حوائج الفقراء والمساكين، ويا أكرم الاكرمين، ويا ارحم الراحمين، لك تخضعي وسؤالي، وإليك تضرعي وابتهالي. أسألك أن تنيلني من روح رضوانك وتديم علي نعم امتنانك، وها أنا بباب كرمك واقف، ولنفحات برك متعرض وبحبلك الشديد معتصم، وبعروتك الوثقى متمسك، إلهى ارحم عبدك الذليل ذا اللسان الكليل، والعمل القليل، وامنن عليه بطولك الجزيل، واكنفه تحت ظلك الظليل، يا كريم يا جميل يا ارحم الراحمين)([7])
وهكذا تجد الأدعية الكثيرة في مدرسة النبوة والولاية، والتي يكفيك التأمل فيها، والتزامها، والشعور بمعانيها، في أن تستشعر فقرك وحاجتك إلى الله، حتى يصير ذلك ملكة في نفسك، لا يمكن لأي غنى يصيبك أن يسلبها منك.
الاضطرار والتزكية:
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الاضطرار هو تلك الحالات الشديدة التي يمر بها الإنسان، والتي قد يبتليه الله بها ليعلم فقره وحاجته، ويخرجه من الغفلة التي تجعله يتوهم أنه مالك للنعم، وليس مستفيدا منها.
ولذلك، لا تتوهم أن الغرض مما ينزل من البلاء على الخلق ـ حتى لو كانوا كفارا ـ عقوبة أو انتقاما، وإنما هو في حقيقته تأديب وتربية وتنبيه إلهي، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } [الأعراف: 94]
ولهذا اعتبر الله تعالى إجابته المضطرين من دلائل توحيده، فقال:{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]
وهكذا ذكر الله تعالى دور الضرورة والاضطرار في التربية والهداية، فقد ذكر في قصة صاحب الجنتين الفرق الكبير بين حال الغنى الذي كان عليه، وحال الفقر الذي آل إليه، فقال ـ عن الحال الأول ـ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [الكهف: 35، 36]
وقال عن الحال الثاني بعد أن {أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } [الكهف: 42] أنه صار يردد: { يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا } [الكهف: 42]
ومثل ذلك ذكر عن أصحاب الجنة، الذين {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ } [القلم: 17، 18]، و{ انْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } [القلم: 23 – 25]
لكن بعد أن {رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } [القلم: 26 – 32]
وهكذا كان لذلك البلاء دوره الكبير في تنبيههم وتوجيههم وتربيتهم، ولذلك ذكر بعضهم أن السبب الذي حمل فرعون على قوله: {أَنَا رَبُّكُمْ الْأَعْلَى} (النازعات:24) طول العافية والغنى، ذلك أنه لبث مدة طويلة لم يتصدع رأسه، ولم يضرب عليه عرق، ولو أخذته الشقيقة ساعة واحدة لشغله ذلك عن دعوى الربوبية.
ولهذا كان من رحمة الله بعباده إنزاله العافية بعد البلاء، ذلك أنه لا يستشعر قيمة العافية من لم يذق خطر البلاء، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى:28)، وقال: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (الروم:49)، وقال: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الروم:50)
ولهذا، فإن المتوسمين من عباد الله يستدلون بوجود الفاقات على قرب الصدقات، لأن الفاقة تحقق صاحبها بالافتقار والاضطرار، وهما يؤهلان صاحبهما لكل ألوان الفضل الإلهي.
ولهذا يعتبرون أفعال الله تعالى فيهم وفي غيرهم رسائل رحمة ومودة.. ولا يفهمون من تلك البلايا التي تصيبهم إلا أنها حروف من الله تشهدهم وجود فاقتهم، وتشعرهم بحقيقتهم، لتشغلهم بالله عن أنفسهم.
لقد أشار بعضهم إلى هذا فقال: (خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجود فاقتك، وترد فيه إلى وجود ذِلتك)
وأشار إليه في حكمة أخرى بقوله: (فاقتك لك ذاتية، وورود الأسباب مذكرات لك بما خفي عليك منها، والفاقة الذاتية لا ترفعها العوارض)
وأشار آخر إلى ذلك، فقال ـ متحدثا عن حكم الأمراض والمصائب ـ: (دار الدنيا هذه ما هي إلّا ميدانُ اختبار وابتلاء، وهي دارُ عمل ومحل عبادة، وليست محلَّ تمتّع وتلذذ ولا مكان تسلّم الأجرة ونيل الثواب.. فمادامت الدنيا دارَ عمل ومحلَّ عبادة، فالأمراضُ والمصائب عدا الدينية منها وبشرط الصبر عليها تكون ملائمةً جداً مع ذلك العمل، بل منسجمةً تماماً مع تلك العبادة، حيث إنها تمد العملَ بقوة وتشدّ من أزر العبادة، فلا يجوز التشكّي منها، بل يجب التحلي بالشكر لله بها، حيث إن تلك الأمراضَ والنوائب تحوّل كلَّ ساعة من حياة المصاب عبادةً ليوم كامل) ([8])
ثم ذكر أن العبادة قسمان: قسم إيجابي، وقسم سلبي.. أما الأول فهو تلك الشعائر التعبدية المعروفة، وأما الثاني، (فإن البلايا والضر والأمراض تجعل صاحبَها يشعر بعَجزه وضَعفه، فيلتجئ إلى ربه الرحيم، ويتوجّه إليه ويلوذ به، فيؤدي بهذا عبادة خالصة.. هذه العبادة خالصةٌ زكيّةٌ لا يدخل فيها الرياءُ قط.. فإذا ما تجمّل المصابُ بالصبر وفكّر في ثواب ضرّه عند الله وجميلِ أجره عنده، وشكَر ربَّه عليها، تحولت عندئذ كلُّ ساعة من ساعات عمره كأنها يومٌ من العبادة، فيغدو عمرُه القصير جداً مديداً طويلاً، بل تتحول عند بعضهم كلُّ دقيقة من دقائق عمره بمثابة يوم من العبادة)
ثم ذكر حاله مع بعض أصحابه، فقال: (لقد كنتُ أقلق كثيراً على ما أصاب أحد إخوتي في الآخرة وهو (الحافظ احمد المهاجر) بمرض خطير، فخطر إلى القلب ما يأتي: (بشّره، هنّئه، فإن كلَّ دقيقة من دقائق عمره تمضي كأنها يومٌ من العبادة) ([9])
ومما يروى في هذا المعنى أن بعضهم كان يطوف حول الكعبة، ويقول:
مؤتزر بشملتي كما تري… وصبية باكية كما ترى
وامرأتي عريانة كما تري… يا من يرى الذي بنا ولا يرى
أما ترى ما حل أما ترى
فسمعه بعضهم، فجمع له كسرا ودفعها إليه، فقال له: إليك عني لو كان معي شيء لما أمكنني أن أقول هذا القول.
ولهذا يعتبر الصالحون الفاقات أعيادا لهم، وقد قال بعضهم في ذلك:
قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه… فقلت خلعة ساق حبه جرعا
فقر صبرهما ثوباي تحتهما… قلب يرى ألفه الأعياد والجمعا
أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به… يوم التزاور في الثوب الذي خلعا
وقال آخر:
قالت هنا العيد بالبشرى فقلت لها… العيد والبشر عندي يوم لقياك
الله يعلم أن الناس قد فرحوا… فيه وما فرحتي إلا برؤياك
ومما يعينك على استشعار هذه المعاني ـ أيها المريد الصادق ـ ترديدك لما ورد من الأدعية المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورثته من أئمة الهدى، فكلها ممتلئة بألوان الاستغاثة والافتقار والاضطرار إلى الله.
ومنها ما روي عن بعضهم أنه كان يقول في بداية دعائه: (يا الله يا الله يا الله، يا مجيب دعوة المضطرين، يا كاشف كرب المكروبين، يا غياث المستغيثين، ويا صريخ المستصرخين، يامن هو أقرب إلى من حبل الوريد ويا من يحول بين المرء وقلبه، يامن هو بالمنظر الاعلى، وبالأفق المبين، ويامن هو الرحمن الرحيم، ويا من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.. ويامن لا تخفى عليه خافيه، ويامن لا تشتبه عليه الاصوات، ويامن لا تغلطه الحاجات، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، يا مدرك كل فوت، ويا جامع كل شمل، ويا بارئ النفوس بعد الموت.. يا من هو كل يوم في شان، يا قاضي الحاجات، يا منفس الكربات، يا معطى السؤالات، يا ولي الرغبات، يا كافي المهمات. يامن يكفى من كل شئ ولا يكفى منه شئ في السموات والأرض) ([10])
ثم
يبدأ دعاءه بعدها، وهذا هو الأدب الرفيع مع الله؛ فالعاقل هو الذي يجعل من دعائه
وسيلة تقربه إلى ربه، وتملؤه روحانية وسموا، وليس ذلك الذي يستعجل حاجته، ويكتفي
بذكرها، من دون أن يجعل من حاجته وضرورته وفاقته وسيلة يطهر بها نفسه، ويزكي بها
روحه، ويرتقي بها إلى سموات الحقائق التي هي أعظم من كل الحاجات التي يطلبها.
([1] ) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 245.
([2] ) رواه الطبراني في الكبير( 11/ 123)، والحاكم في المستدرك( 3/ 624)، و البيهقي في الشعب( 2/ 28)
([3] ) إيقاظ الهمم فى شرح الحكم، ص: 377.
([4] ) ذكرنا ذلك بتفصيل، وعلى شكل حوار في كتاب: كنوز الفقراء (ص: 250)
([5] ) رواه مسلم.
([6] ) هذه المناجاة مروية عن الإمام الحسين، وعن ابن عطاء الله السكندري .. ولا حاجة للتحقيق في الأصح منهما، لأن المعاني الواردة فيها معان ورد مثلها عن أهل البيت .. والعبرة بالمعاني لا بكسوة الألفاظ.
([7] ) بحار الأنوار (94/ 149)
([8] ) اللمعات لبديع الزمان النورسي، ص13.
([9] ) اللمعات لبديع الزمان النورسي، ص13.
([10] ) بحار الأنوار (101/ 296)