علماء المذاهب الأخرى

أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كان يرتدي عمامة سوداء مثل العمائم التي يرتديها علماء الشيعة، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو آية الله السيد علي الحسيني الميلاني.. وهو ممثل الشيعة الإمامية في هذا المجلس.
توجهت إليه ببرودة قائلا: مرحبا بك.. ولكن ما الذي وضعك بين علماء أهل السنة؟
قال: أولست من علماء أهل السنة؟
قلت: أنت من الشيعة الرافضة.. وشتان ما بينكم وبين أهل السنة.
قال: في أي شيء ترى الفوارق بيننا؟
قلت: في أمور كثيرة لا تعد ولا تحصى.. بل كأن بيننا وبينكم جبالا من نار.. أو كأن لكم دينكم ولنا ديننا.
ابتسم الميلاني، ثم قال: هذا كله من تأثيرات ابن تيمية فيكم.. وإلا فإن المسافة بيننا وبينكم لا تبلغ كل هذا الحد، بل لا تبلغ دونه بكثير.. أجبني على أسئلتي، وربما ستقتنع بما أقول.
قلت: لا بأس.. ولو أني أعلم قدرتكم على قلب الحقائق.
ضحك الميلاني ملء فيه، ثم قال: لا تخف.. لن أقلب الحقائق.. سأتكلم مع عقلك وفطرتك.. أخبرني عن الوظيفة التي كلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها؟
قلت: لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أرسل سائر الرسل لتعريفنا بربنا وبمصيرنا وبوظيفتنا في هذه الحياة.. ويعرفنا بحقائق الوجود كما هي عليه.
قال: فنحن نتفق معكم في كل ذلك.. بل نتفق مع من تراهم معي أكثر من اتفاقهم مع من يسمون أنفسهم الفرقة الناجية أو يحتكرون لقب أهل السنة لأنفسهم دون غيرهم من الناس.
قلت: تقصد التيميين والوهابيين والسلفيين.
قال: أجل.. فالمسافة التي بيننا وبين أصحاب المذاهب الأربعة في هذه المسائل أقرب من المسافة التي بينهم وبين التيميين والسلفيين.
قلت: كيف ذلك؟
قال: لأننا وإياهم نتفق على تنزيه ربنا عن الجسمية ومتطلباتها المختلفة.. والسلفيون والتيميون يجسمون ويشبهون، ويجعلون ربهم جرما من الأجرام السماوية العليا لا يختلف عنها إلا في كيفيته التي لم يروها بعد.. أليس هذا كافيا للتفريق؟
قلت: بلى.. وأنا أعلم أن الخلاف بين الطائفتين الكبيرتين في المسيحية من الكاثوليك والأرثوذكس قائم على أساس الخلاف بينهما في طبيعة المسيح وعلاقتها بالله.
قال: ليس ذلك فقط هو محل الاتفاق بيننا.. نحن نتفق مع أصحاب المذاهب الأربعة في تعظيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرة واعتبارهم وسيلة إلى الله، وتعظيم كل ما يرتبط بهم والتبرك بهم.. بينما السلفيون والتيميون يعتبرون ذلك معصية.. بل يعتبرونه شركا.
قلت: صدقت في هذا.. ولكن المشكلة أننا نختلف معكم في الصحابة؟
قال: هل يمكنك أن تقرأ لي الآية التي تنص على وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
قلت: بلى.. لقد نص القرآن الكريم على وظائف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164]
قال: فما الوظائف التي كلف بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية الكريمة؟
قلت: هي تلاوة القرآن الكريم والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة.
قال: فأين الصحابة فيها؟
قلت: الصحابة هم الواسطة التي تصلنا بها الآيات والحكمة فإذا قطعناها فلن يصلنا شيء؟
قال: أنت ترى أن الدين جميعا قد وصلنا بأصوله وفروعه.. فالقرآن الذي نقرؤه هو نفسه قرآنكم.. وصلاتنا هي صلاتكم.. وجميع شعائرنا التعبدية لا تختلف عن شعائركم.. بل إن أكثر الأحاديث التي لديكم توجد لدينا.. لا نختلف إلا في أن راويها عندنا هم آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وروايها عندكم هو أبو هريرة أو ابن عمر.. فهل ترى أن المطلوب في الحديث نصه أم سنده؟
قلت: لاشك أن المطلوب هو نصه..
قال: فنحن نتفق في أكثر النصوص.. ولا نختلف إلا في أسانيدها.. أتستحق الأسانيد كل هذا الخلاف؟ أم أنك تعتبر أن الأسانيد الواردة عن الصحابة أعظم حرمة من الأسانيد الواردة عن أهل البيت؟
قلت: صدقت في هذا.. وقد قرأت الكثير من كتب الرواية عندكم، فوجدتها ممتلئة بالأحاديث التي في كتبنا.. وقد تعجبت لذلك عجبا شديدا.
قال: لا تتعجب يا بني.. فكل ما ينشره الطائفيون المثيرون للفتن في الأمة ليسوا سوى تلاميذ لمدرسة ابن تيمية وسلفه.. وإلا فإننا نحترم الصحابة مثلما تحترمونهم.. والخلاف بيننا لا يعدو المصاديق.. فنحن نعظم بلالا وعمارا والمقداد وأبا ذر وغيرهم من الذين وقفوا في وجه الفئة الباغية، وأنتم تعظمون آخرين.. والله يحكم بيننا يوم القيامة فيما نختلف فيه.
قلت: فهل كتبت كتبا في ابن تيمية؟
قال: أجل.. ولهذا تراني هنا بينكم.. لقد تتبعت ما كتبه ابن تيمية حول العترة الطاهرة، وفندته من خلال المصادر المعتمدة عند أهل الحديث، وذلك في كتابي (ابـن تيميـة وإمامـة علـي بـن أبـي طالـب عليـه السـلام)
قال ذلك، ثم قدم لي وثيقة بأسماء علماء الإمامية الذين ردوا على ابن تيمية، وقد وجدت من بينهم الكثير من الأعلام الكبار..
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كان يرتدي ثيابا يمانية، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو السيد الحسن بن إسحق بن المهدي الزيدي الصنعاني([1])، وهو ممثل الزيدية في هذا المجلس.
قلت: أهلا وسهلا ومرحبا.. لقد سمعنا الناس يذكرون أنكم أقرب الفرق إلى السنة.
ابتسم، وقال: أتريد أن أكرر لك ما قال السيد الميلاني.. السنة حق الأمة جميعا.. ولا يحق لأحد من الناس أن يقرب من يشاء أو يبعد من يشاء..
قلت: صدقت.. لقد أغرقتنا الطائفية، فصرنا لا نميز بين الحق والباطل..
قال: لا عليك.. سيأتي اليوم الذي تطفأ فيه نارها.
قلت: إن نارها لن تنطفئ حتى تأتي على الأخضر واليابس.
قال: هذه سنة الله.. الله تعالى وضع لعباده أنواع البلاء ليختبر نفوسهم.. فمن كان صادقا هدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.. ومن كان غير ذلك، لن ينال غير ذلك.
قلت: أأنتم معشر الزيدية أيضا تختلفون مع ابن تيمية؟
قال: وهل هناك من العقلاء من لا يختلف معه.. إننا نختلف معه في كل ما يختلفون فيه إخواننا من أصحاب المذاهب.. نختلف معه في تجسيمه لله، فنحن بحمد الله من المنزهة.. ونختلف معه في نصبه وعداوته لآل بيت النبوة، فنحن بحمد الله من الموالين لهم.. ونختلف معهم في الصراع الذي نشره في الأمة، فنحن دعاة وحدة وسلام.
قلت: فهل كتبتم في الرد عليه؟
قال: كل كتبنا ترد عليه.. كتبنا التي ترد على التجسيم ترد عليه.. وكتبنا التي تنتصر لآل بيت النبوة ترد عليه.. وهكذا يمكنك الرجوع لأي كتاب ألفه أعلامنا ستجد الردود القوية الواضحة عليه سمته أو لم تسمه.
قلت: أظن أنهم اختاروك ممثلا للزيدية لأن لك ردودا خاصة على ابن تيمية.
قال: أجل.. أنا مثل إخواني ضقت ذرعا بجرائم ابن تيمية في حق الأمة، ولهذا كتبت رسالة في الرد عليه..
قلت: على أي موضوع قصرتها؟
قال: رددت فيها على منهج ابن تيمية العام، لكني تحدثت فيها بتفصيل حول مخاريقه وأكاذيبه في كتابه (منهاج السنة)([2])
أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كنت أتابع محاضراته أحيانا على بعض القنوات الفضائية، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو..
قاطعته قائلا: أنا أعرفه إنه الخليلي.. وهو ممثل الإباضية في هذا المجلس.. وقد تعجبت لدخوله مع علماء المذاهب الأربعة مع كونه إباضيا.
ابتسم الخليلي، وقال: لن أكرر لك ما ذكره أخي وصديقي الميلاني، فكل ما تراه من تفريق للأمة واحتكار للسنة هو من آثار الطائفية التي نشرها ابن تيمية.. وإلا فإن المسافة بيننا وبين أصحاب المذاهب الأربعة في القضايا الكبرى للدين أقرب من المسافة التي بيننا وبين ابن تيمية وأتباعه.. ولهذا تراه يضعنا جميعا في سلة واحدة.
قلت: أجل.. وأنا أكبر فيك وفي أصحابك حرصكم على الوحدة الإسلامية وعلى السلام الذي جاء به الدين.. ولكني أتعجب أن يكون لكم موقف سلبي من ابن تيمية وأنتم الذين يغلب عليكم السلام والسماحة.
قال: السلام والسماحة هي التي دعتنا لمواجهة هؤلاء الذين جعلوا من الدين الإلهي وسيلة للعنف والفتنة التفرقة والطائفية.
قلت: فهل كتبت وأصحابك ردودا على ابن تيمية؟
قال: كل كتبنا ترد عليه سواء باسمه أو بغير اسمه.. فنحن نعتبر عقائد ابن تيمية في الله عقائد ضلالة، لأن الله أعظم من أن يحصر في حد أو يجري عليه ما يجري على الأجسام.. وقد قلت في بعض كتبي: (ومن بين أئمة الحشوية الذين ضللهم أتباع المذاهب الأربعة، وهم -كما قلت- يلزون أنفسهم بهذه المذاهب الأربعة، ويلصقونها بهم، من بينهم مجدد النحلة الحشوية ابن تيمية الحراني فقد ضلله العدد الكثير من أئمة المذاهب الأربعة.. من بين هؤلاء العلامة ابن حجر الهيثمي، فقد قال في كتابه (الفتاوى الحديثية): (وإياك أن تصغي إلى ما في كتب ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وغيرهما ممن اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟! وكيف تجاوز هؤلاء الملحدون الحدود وتعدوا الرسوم، وخرقوا أسياج الشريعة والحقيقة، فظنوا بذلك أنهم على هدى من ربهم، وليسوا كذلك)
وقلت: (ومن بين هؤلاء الذين ردوا هذه الروايات شيخا الحشوية اللذان جددا نحلتها ابن تيمية وابن القيم..)
وقلت: (ولكن ابن تيمية يرفض ذلك لأجل موافقته لمذهب أرسطو، ويحاول أن يلوي الأدلة، ويرد بعضها بكونها غير متواترة، ويؤول بعضها بما يتفق مع هواه في هذه القضية..)
قال ذلك، ثم قدم لي وثيقة عن أعلام
الإباضية الذين وقفوا معه هذا الموقف.. فوجدتهم جميعا على ذلك.
([1]) الحسن بن إسحاق [ ١٠٩٣ ١١٦٠ ه ]: عالم كبير، ومحقق شهير وشاعر أديب، بليغ، مولده بالغراس ونشأ في حجر أبيه وعنه أخذ وعن أخيه، ومشاهير علماء عصره حتى فاق الأقران وبلغ الغاية في العلم وفي الإجتهاد. (انظر: أعلام المؤلفين الزيدية: ج ١/308).
([2]) الرسالة مطبوعة ضمن مجموع يحوي عدة رسائل زيدية في الإمــامة، تقع الرسالة في الصفحات بين (157) و(191) من المجموع.