علماء المذاهب الأربعة (الحنابلة)

أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل آخر كان يبدو ذا وقار وحزم وشدة، وقال: هذا الرجل الذي تراه هو قال القاضي شرف الدين عبدالغني بن يحيى الحراني قال الحنبلي…. وهو ممثل الحنابلة في هذا المجلس.
قلت: أهلا وسهلا ومرحبا.. وكيف لا أعرفه.. إنه قاضي الحنابلة المعاصر لابن تيمية.. لكني إلى الآن لا أعرف هل أنت كما وصفك ابن كثير بقوله: (إن القاضي شرف الدين كان قليل العلم، مزجي البضاعة)([1]).. أو أنك كما وصفك الذهبي فقال: (القاضي الشيخ الإمام قاضي القضاة شرف الدين عبدالغني بن يحيى… من كبار الرؤوس… وكان متوسطاً في المذهب، محمود السيرة، كثير المكارم)([2])
قال الحنبلي: أنا عبد الله.. ويهمني وصف الله لي لا وصف الناس.. لكني أقول لك فقط: لا تأخذ مواقفك من الناس من كلام أعدائهم.. فعين العدواة لا تبدي إلا المساوئ.
قلت: وهل كان ابن كثير معاديا لك؟
قال: ابن كثير وضع مقياسا طبقه على جميع الأعلام الذين ترجم لهم.. لقد اعتبر كل من أحب ابن تيمية وتبعه عالما صالحا.. واعتبر من اختلف معه مزجي البضاعة في العلم منحرفا..
قلت: ومن أين له هذا المقياس الفاسد؟
قال: لقد قاسه على ما ورد في الحديث عن علي بن أبي طالب: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم، إلي أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق)([3])
قلت: بئس هذا القياس الذي قاسه.. أيقاس ابن تيمية بأمير المؤمنين ويعسوب الدين وباب مدينة العلم؟
قال: ليت الأمر وقف على ذلك.. الأمر أخطر بكثير.
قلت: ألهذا كنت من العلماء الذين واجهوا ابن تيمية، وكنت سببا مع غيرك من العلماء لدخوله السجن([4]).
قال: أجل.. وأنا نادم على ذلك.
قلت: الحمد لله.. فما أبشع أن يكون الشخص سببا في سجن الناس.
قال: أنا لست نادما على ما كتبته وفعلته.. نادم على ما لم أكتبه وما لم أفعله.
قلت: وما ذاك؟
قال: لم أكن أعلم أن تلك الأفكار التي حبسناها في القمقم سينفخ فيها الشيطان في يوم من الأيام، وتملأ الدنيا بالصراع.. وإلا لو فطنا لذلك لاجتمعنا وكتبنا ردودا علمية مفصلة تحمي الأمة من آثار ذلك الفكر التخريبي الذي دمر حياة المسلمين.
قال ذلك، ثم قدم لي وثيقة فيها أسماء لبعض الأعلام الكبار، وبجانب كل اسم منها توقيع وختم.. وقد رأيت أن الحنابلة الذين رفعوا شكواهم على ابن تيمية أقل بكثير من إخوانهم من سائر المذاهب، فسألته عن ذلك، فقال: صدقت.. فأكثر الحنابلة للأسف.. وبسبب غلوهم في الإمام أحمد حتى (جعلوا محبته دليلاً على الإسلام وبغضه دليلًا على الكفر والزندقة) سرت إليهم الكثير من الضلالات والانحرافات التي أضرت بالأمة([5]) كالتكفير، والظلم، والشتم، والكذب، والقسوة في المعاملة، والذم بالمحاسن، والأثر السيئ في الجرح والتعديل، والتجسيم الصريح، أو التأويل بالبالطل، وإرهاب المتسائلين، وتفضيل الكفار على المسلمين، وتفضيل الفسقة والظلمة على الصالحين، والمغالطة، والانتصار بالأساطير والأحلام، وتجويز قتل الخصوم، والاسرائيليات، والتناقض، والتقوّل على الخصوم، وزرع الكراهية الشديدة مع عدم معرفة حق المسلم، والأثر السيء على العلاقات الاجتماعية، واستثارة العامة والغوغاء، والتزهيد من العودة للقرآن الكريم مع المبالغة في نشر أقوال العلماء الشاذة.. مع انتشار عقائد ردود الأفعال كالنصب وذم العقل، والتركيز على الجزئيات وترك الأصول، وإطلاق دعاوى الاجماع، واطلاق دعاوى الاتفاق مع الكتاب والسنة والصحابة، وتعميم معتقد البعض أو بعض الأفراد على جميع المسلمين، مع إرجاع أصول المخالفين كل فرقة أصول الفرقة الأخرى لأصول غير مسلمة يهودية أو نصرانية أو مجوسية.
وكل هذه الانحرافات سرت لابن تيمية.. أو تضخمت عنده.. ولذلك لا أمانع مع كوني حنبلي المذهب أن أعتبر حنبلية ابن تيمية – بالإضافة الى نفسه المحبة للصراع – سببا فيما نجتمع هنا لأجله.
قلت: ولكن مع ذلك أسمع عن بعض الحنابلة من الصوفية والمتكلمين وغيرهم؟
قال: أجل.. ذلك صحيح.. وكل من ترى تواقيعهم هنا منهم.. فالحنبلي الذي يتخلص من رعونة نفسه بالتصوف.. ويتخلص من بلادة عقله وتعصبه بالنظر الكلامي العقلي.. يصبح إنسانا سويا بريئا من ذلك الغلو الذي وقع فيه الكثير من أصحابنا([6]).
رحت أنظر في الأسماء، وقد تعجبت إذ وجدت من بينها اسم الذهبي، فقلت له: ما بالك يا رجل.. أراك أخطأت في هذا الاسم.. فالذهبي من أصدقاء ابن تيمية المقربين.. وقد سمعت البارحة أحاديث له في فضله..
قال الحنبلي: صدقت في ذلك.. فلا مانع أن يثنى المرء على شخص معين في بادىء الأمر اعتمادا على حسن الظن به، ثم بعدما يتبين له حاله يقدحه ويذمه، وهذا أمر مشاهد ومعروف، ومن قال غير ذلك، فليراجع كتب التواريخ والطبقات.
لقد كان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمَّد بن الحريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء انقلب بعد ذلك.. وتخلى عنه هؤلاء جميعهم.
قلت: أجل.. لقد طالعت أمثال ذلك.. ولكن ليس مع الذهبي.. إنه شخص مختلف تماما.. وثناؤه على ابن تيمية يدل على كونه صادقا في ذلك.
قال الحنبلي: صدقت.. ومن قال لك غير ذلك.. لكن لم يقبل التيميون الثناء، ويعرضون عن الهجاء.. أليس الذي صدق في الثناء يصدق في الهجاء.. لقد ذكر الذهبي نفسه ذلك في رسالته (بيان زغل العلم والطلب).. فقد ورد فيها قوله: (فوالله ما رمقت عيني أوسع علمًا ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت أَخَّرَهُ بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفَّروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رياسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله المسامحة، فقد قام عليه أناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وآثام أصدقائهم، وما سلَّطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقّون، فلا تكن في ريب من ذلك)
وقال في موضع آخر من رسالته: (فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة وآراء الأوائل ومحارات العقول، واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسُّنّة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقاربها، وقد رأيتَ ما آل أمره إليه من الحطّ عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحقّ وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منوَّرًا مضيئًا على مُحَيَّاه سِيْمَا السلف، ثم صار مظلما مكسوفا عليه قتمة عند خلائق من الناس، ودجّالاً أفّاكًا كافرًا عند أعدائه، ومبتدعًا فاضلاً محقّقًا بارعًا عند طوائف من عقلاء الفضلاء)
قلت: شوقتني إلى هذه الرسالة، فهلا قرأت لي بعض ما فيها.
قال الحنبلي: أجل.. فما اجتمعنا هنا إلا لأجل ذلك حتى نتفق على التهم التي نقدمها للقاضي لمحاكمة ابن تيمية.
فمما جاء في هذه الرسالة([7]) قوله – وهو يخاطب ابن
تيمية -: (إلى كم ترى القذاة في عين أخيك
وتنسى الجذع في عينك!.. إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع
عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تذكروا موتاكم إلا
بخير، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) بلى أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك: (إنما
الوقيعة في هؤلاء الذين ما شموا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى الله
عليه وآله وسلم وهو جهاد).. بلى والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به العبد فقد
فاز وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.. يا
رجل بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام. إياكم والغلوطات
في الدين كره نبيك صلى الله عليه وآله وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال
وقال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)، وكثرة الكلام بغير زلل
تقسي القلوب إذا كان في الحلال والحرام، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية
والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمى القلوب.. يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة
والانحلال، لا سيما إذا كان قليل العلم والدين.. فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط
خفيف العقل أو عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح عديم
الفهم، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل، يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك..
إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار.. إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار.. إلى كم تعظمها
وتصغر العباد. إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد.. إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح
– والله – بها أحاديث الصحيحين.. يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت
تغير عليها بالتضعيف والاهدار أو بالتأويل والإنكار، أما آن لك أن ترعوى؟ أما حان
لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل.. بلى – والله – ما أذكر
أنك تذكر الموت بل تزدري بمن يذكر الموت فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي
بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر
حتى أقول: وألبتة سكت.. فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد فكيف حالك
عند أعدائك.. وأعداؤك – والله – فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم
فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر.. قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي
سرا (فرحم الله امرؤا أهدى إلي عيوبي) فإني كثير العيوب غزير الذنوب)
([1]) البداية والنهاية، ابن كثير ، ص 2126،
([2]) ذيل تاريخ الإسلام، ص 92.
([3]) رواه مسلم رقم (78)، والترمذي رقم (3737)، والنسائي 8 / 117.
([4]) الدرر الكامنة، أحمد بن حجر العسقلاني، ج1 ص 147.
([5]) انظر تفاصيل هذه الصفات في كتاب (قراءة في كتب العقائد – المذهب الحنبلي نموذجاً) للشيخ حسن بن فرحان المالكي.
([6]) سنرى في الرسالة الكثير من الأمثلة عن غلو الحنابلة وأثره في ابن تيمية.
([7]) انظر نص الرسالة كاملا في (السيف الصقيل رد ابن زفيل) السبكي – هامش ص 211- 219 – مكتبة زهران – ومعه تكملة الرد على نونية ابن القيم بقلم: محمد زاهد بن الحسن الكوثري – تقديم: لجنة من علماء الأزهر.. ونحن لا نعتمد عليها في المحاكمة، لأن الشخص يحاكم على أفعاله وأقواله لا على مواقف الناس منه.. ولهذا فقد ذكرناها باعتبارها وثيقة قد تكون صحيحة وقد لا تكون صحيحة.. لأن الكثير من المغرمين بابن تيمية يتركون القضية الأساسية ويجادلون في التفاصيل.. ولهذا فإن أحسن جواب لمن كذب هذه الرسالة أن نسلم له ولا نجادله..