علماء المذاهب الأربعة (المالكية)

أشار صاحبي الوهابي التائب إلى رجل منهم، كان ممتلئا سلاما وصفاء ونورا، وقال، وهو يخاطبني: لاشك أنك سمعت بهذا الرجل، وقرأت له، وأحببته قبل أن تراه إنه الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري المالكي.. وهو ممثل المالكية في هذا المجلس.
قلت، وقد امتلأ قلبي فرحا وسرورا: أهلا وسهلا بك سيدي، لقد استفدت من حكمك كثيرا، بل من جميع كتبك.. لكن المعاصرين من قومك ينفرون منك بحجة أنك لم تكن على علاقة طيبة بابن تيمية.. لقد قال عنك الذهبي: (رأيته بالإسكندرية فيما أرى، وكان يتكلم على الناس ويقول أشياء نافعة وله عبارة عذبة وفيه صدق، وله مشاركة في الفضائل، ولكنه كان من كبار القائمين على الشيخ تقي الدين ابن تيمية)([1]).. وقال عنك الشوكاني: (وهو ممن قام على الشيخ تقي الدين بن تيمية، فبالغ في ذلك وكان يتكلم على الناس وله في ذلك تصانيف)([2])
قال ابن عطاء الله: أجل يا بني.. لقد فعلت ذلك..
قلت: الحمد لله أنك تبت منه.
قال ابن عطاء الله: وهل يتوب المرء من حسناته.. بل أنا أتوب إلى الله من تقصيري في تأليف الكتب في الرد عليه والتحذير منه، واكتفائي بدل ذلك بالمناظرة الشفاهية التي لا يستفيد منها إلا من حضرها.
قال ذلك، ثم أخرج وثيقة من محفظته، وقدمها لي، وقال: خذ هذه الوثيقة، ففيها أسماء من قدرت على الالتقاء به من علماء المالكية في مختلف المجالات، وفيها تواقيعهم، وهم يطالبون جميعا بالوقوف بقوة في وجه التحريفات التي قام بها ابن تيمية وأتباعه نحو الإسلام.. الذي حولوه من دين رحمة للعالمين إلى دين قسوة للعالمين.. ومن دين عدالة إلى دين جور.. ومن دين محبة وسلام إلى دين بغض وصراع.
قدم لي الوثيقة، وقد دهشت من كثرة الأعلام الواردين فيها.. وكان من بينهم الإمام الحافظ الشيخ أبي الفيض أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي أنه من أكابر علماء المغرب، بل العالم الإسلامي، وأنه كان شديداً على ابن تيمية في مصنفاته الكثيرة، ومنها (قطع العروق الوردية)، و(حصول التفريج)، و(هداية الصغراء)، ورسالتـه الأخيـرة لعبدالله التليدي المغربي التي طبعت بعنوان (در الغمام الرقيق).. ومن أقواله في ابن تيمية: (وكتب ابن القيم كلها نافعة مباركة عليها نور وفيها إفادة وهداية بخلاف كتب شيخه ابن تيمية فإنها مظلمة بخبث طوية صاحبها وكبريائه وأنانيته، بل ما ضل من ضل عن الصراط المستقيم إلا بكتبه ويكفيك أن قرن الشيطان النجدي وأتباعه ومذهبه الفاسد وليد أفكار ابن تيمية وأقواله، أما ابن القيم فهو وإن كان على مذهب شيخه إلا أنه كان معتدلاً من جهة، وطيب القلب منوره من جهة، فلذلك يحصل الانتفاع بكتبه دون كتب شيخه .. وبعد فلسنا نقول إن كل ما يذهب إليه ابن القيم في كتبه وما يقرره من آرائه وإن كان مؤيداً بدليله في نظره هو الحق، بل نوجب على مبتغي الحق وطالب السلامة أن لا يقلد مخلوقاً كائناً من كان، وأن يتبع الدليل بحسب نظره، ونظر أهل الحق إن عجز هو عن الاستقلال بإدراكه، فإن لابن القيم والحنابلة هنات وأوهـاماً وطامات)([3])
وكان من بينهم المحدث الفقيه الشريف الشيخ عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي أنه مثل سائر العلماء الغماريين ممن جمعوا بين الحديث والفقه والتصوف مع حب عظيم للعترة الطاهرة، وأن من كتبه في ذلك كتابه (أفضل مقول في مناقب أفضل رسول صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن أقواله فيه قوله: (وانحراف ابن تيمية عن علي وأهل البيت معروف، وحتى حُكم عليه بالنفاق لأجل ذلك)([4])
وقال في كتابه (سمير الصالحين): (ويدلّ أيضاً على أن علياً رضي الله عنه كان ميمون النقيبة، سعيد الحظ، على نقيض ما قال ابن تيمية في منهاجه عنه أنه كان مشئوماً مخذولاً، وتلك كلمة فاجـرة، تنبئ عمـا في قلب قائلها من حقد على وصيّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخيـه كرم الله وجهه)([5])
وكان من بينهم الحافظ الشريف الشيخ محمد عبدالحي بن عبدالكبير الكتاني المغربي، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي أنه كان من كبار المحذرين من ابن تيمية، ومن تصريحاته في ذلك قوله: (فإني أرى هذه الضلالات وما يتبعها من الشناعات التي كان أول مذيع لها وموضح لظلامها الشيخ أحـمد بن تيميـة رحمه الله تعالى وعفـا عنـه قد كادت الآن أن تشيع وفي كل بلاد أهل السنة تذيـع…)([6])
وقوله في كتابه الشهير (فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمسلسلات): (ومن أبشع وأشنع ما نقل عنه رحمه الله قوله في حديث ينزل ربنا في الثلث الأخير من الليل كنزولى هذا قال الرحالة ابن بطوطة في رحلته وشاهدته نزل درجة من المنبر الذي كان يخطب عليه وقال القاضي أبو عبدالله المقري الكبير في رحلته نظم اللآلي في سلوك الأمالي حين تعرض لشيخيه ابني الإمام التلمساني ورحلتهما ناظرا تقي الدين ابن تيمية وظهرا عليه وكان ذلك من أسباب محنته، وكان له مقالات شنيعة من إمرار حديث النزول على ظاهره وقوله فيه كنزولي هذا، وقوله فيمن سافر لا ينوي إلا زيارة القبر الكريم لا يقصر لحديث لا تشد الرحال اه، ونقله عنه حفيده أبو العباس المقري في أزهار الرياض وأقره مع أن تآليفه المتداولة الآن بالطبع ليس فيها إلا التوريك في مسألة إبقاء المتشابه على ظاهره مع التنزيه والتنديد بالمؤولين وهو على الإجمال مصيب في ذلك، وأما مسألة الزيارة فإنه انتدب للكلام معه فيها جماعة من الأئمة الأعلام وفوقوا إليه فيها السهام كالشيخ تقي الدين السبكي والكمال ابن الزملكاني وناهيك بهما وتصدى للرّد على ابن السبكي ابن عبد الهادي الحنبلي ولكنه ينقل الجرح ويغفل عن التعديل وسلك سبيل العنف والتشديد وقد ردّ عليه وانتصر للسبكي جماعة منهم الإمام عالم الحجاز في القرن الحادي عشر الشمس محمد علي بن علان الصديقي المكي له (المبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي) ومن أهل عصرنا البـرهان إبراهيم بن عثمان السمنودي المصري سماه (نصرة الإمام السبكي بردّ الصارم المنكي) وكذا الحافظ ابن حجر له (الإنارة بطرق حديث الزيارة) وانظر مبحثها من فتح الباري والمواهب اللدنية وشروحها…)([7])
وكان من بينهم الشيخ أحـمد زروق المالكي، وقد سألت ابن عطاء الله عنه، فذكر لي قوله: (ابن تيمية رجل مسلم له باب الحفظ والإتقان، مطعون عليه في عقائد الإيمان، مثلوب بنقص العقل فضلاً عن العرفان…)([8])
وكان من بينهم الشيخ محمد البرلسي الرشيدي المالكي، وقد سألت ابن عطاء
الله عنه، فذكر لي قوله: (وقد تجاسر ابن تيمية عامله الله بعدله وادعى أن السفر
لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم محرم بالإجماع، وأن الصلاة لا تقصر فيه
لعصيان المسافر به، وأن سائر الأحاديث الواردة في فضل الزيارة موضوعة، وأطال بذلك
بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع، وقد عاد شؤم كلامه عليه حتى تجاوز إلى الجناب
الأقدس المستحق لكل كمال أنفس وحاول ما ينافي العظمة والكمال بادعائه الجهة
والتجسيم، وأظهر هذا الأمر على المنابر، وشاع وذاع ذكره في الأصاغر والأكابر وخالف
الأئمة في مسائل كثيرة، واستدرك على الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة، فسقط
من عين أعيان علماء الأمة، وصار مُثله بين العوام فضلاً عن الأئمة، وتعقب العلماء
كلماته الفاسدة وزيفوا حججه الداحضة الكاسدة وأظهروا عوار سقطاته، وبينوا قبائح
أوهامه وغلطاته، حتى قال في حقه العز بن جماعة: إن هو إلا عبد أضله الله وأغواه،
وألبسه رداء الخزى وأرداه…)([9])
([1]) ذيل تاريخ الإسلام، الذهبي، ص 86.
([2]) البدر الطالع بمحاسن القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني، ج1 ص 74.
([3]) الجواب المفيد، أحمد الغماري، ص 11.
([4]) أفضل مقول، عبدالله الغماري، ص 25.
([5]) سمير الصالحين، عبدالله الغماري، ص77.
([6]) شواهد الحق، ، ص 14.
([7]) فهرس الفهارس والأثبات، ج1 ص 227.
([8]) شواهد الحق، ص 453.
([9]) شواهد الحق، ص 15.