إحصاء الأسماء

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عما ورد في القرآن الكريم من الدعوة إلى التعرف على أسماء الله الحسنى، ودعاء الله تعالى بها، وما ارتبط بذلك من إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفضل إحصائها، وعلاقة ذلك بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن أسماء الله الحسنى هي المعارف التي أذن الله تعالى فيها لوسائل إدراكنا البسيطة أن تتعرف بها على كمالات الألوهية، من غير تحديد أو تقييد لها، ذلك أن أسماء الله تعالى لا نهاية لها، وما كشف لنا منها ليس سوى قطرة من بحر كمال الله الذي لا حدود له.
ولكنها ـ مع ذلك ـ هي المنافذ الوحيدة التي تتيح لنا التعرف على الله تعالى وعظمته، حتى نتجنب كل تلك الضلالات التي وقعت بسبب الإلحاد في أسماء الله، وتحريفها، وتغييرها، ليتحول الله تعالى بموجبها إلى إله غير الإله الحقيقي الذي دعت إليه الرسل، وعرفت به كلماته المقدسة، ودل عليه الكون جميعا.
ولذلك أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن وجود تسعة وتسعين اسما حقيقيا من أسماء الله الحسنى، من عرفها وفهمها وتواصل معها وتخلق بأخلاقها نال الفوز والفلاح، فقال: (إن لله تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة) ([1])
وبما أنك سألتني ـ أيها المريد الصادق ـ عن حقيقة الإحصاء، وسر ما ورد فيه من الأجر، وعلاقته بالتزكية والترقية؛ فإني سأذكر لك أربعة مراتب له، لا يتحقق الإحصاء من دونها.
وهي تبدأ بالبحث عن أسماء الله الحسنى، ثم فهمها، ثم التأثر والانفعال الوجداني لها، ثم السلوك بحسب مقتضياتها.. وهي بذلك تجعل من أسماء الله الحسنى مدرسة من أعظم المدارس الروحية والتربوية.
إحصاء البحث:
أما الإحصاء الأول ـ أيها المريد الصادق ـ فيبدأ من البحث عنها، والتحقيق فيها، حتى لا نسمي الله تعالى بما لم يسم به نفسه، كما حصل لأولئك الغافلين الجهلة الذين سموا الله مخادعا ومستهزئا وماكرا، لمجرد نسبة هذه الكلمات لله تعالى، من غير معرفة منهم للمقتضيات اللغوية الداعية لذلك.
وهكذا لا يصح تسميه الله تعالى بما نعتقده كمالا فينا، لأن كمالنا قد يكون نقصا لله تعالى، ولهذا لا يُطلق على الله تعالى اسم [العفيف] مع كون دلالته حسنة بالنسبة لنا، ذلك أن فيه من شوائب النقص ما لا يليق بالله.. فالعفيف لا يكون كذلك إلا كان يملك غريزة وشهوة، ثم يحاربها وينتصر عليها.. ومعاذ الله أن ينسب لله تعالى كل ذلك النقص.
وهكذا لا يطلق عليه اسم [الشجاع] مع كون دلالته حسنة بالنسبة لنا، ذلك أن الشجاعة تقتضي إقدام الأجسام على المخاطر والمهالك من دون خوف، ويستحيل على الله تعالى الجسمية ومقتضياتها.
ولهذا كان من الأدب مع الله ألا نسميه إلا بما سمى نفسه به، أو سماه رسوله وورثة الهداية الذين اكتفوا بنبع النبوة، ولم يخلطوا معه غيره، ولذلك فإن كل ما عندهم قبس من مشكاة النبوة.
ولهذا، فإن أول الإحصاء ـ أيها المريد الصادق ـ أن تطهر دينك من تلك الأسماء المبتدعة والصفات التي لا تليق بربك، والتي حصرته في الحدود والقيود والأمكنة والأزمنة، وجعلته جرما كالأجرام.
وقد قال الإمام الكاظم محذرا من تلك الأسماء المبتدعة: (إنّ الله أعلى وأجلّ وأعظم من أن يبلغ كنه صفته، فصفوه بما وصف به نفسه، وكفّوا عمّا سوى ذلك) ([2])
وقال الإمام الرضا: (إنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به، جلّ عمّا وصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون) ([3])
إذا عرفت ـ أيها المريد الصادق ـ هذا؛ فابدأ في إحصائك لأسماء ربك من القرآن الكريم، فهو كتاب المعرفة الأعظم، فقد ذكر الله تعالى فيه أسماءه الحسنى ودعا إلى دعائه بها، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]
وذكر بعض تلك الأسماء، ودعا إلى ذكره بها، فقال: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء: 110]
وذكر أسماء أخرى، فقال: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 23، 24]
وهكذا؛ فإنك ـ أيها المريد الصادق ـ تجد القرآن الكريم، وفي فواصل أكثر آياته، أسماء كثيرة لله تعالى([4])، وهي أمهات أسماء الله الحسنى، وعليها يعرض كل ما ورد من الأسماء التي وردت بها الروايات.
ومثل ذلك ما ورد في السنة المطهرة من الأحاديث التي تعرف بأسماء الله الحسنى، ومنها ما ورد تعقيبا على حديث الإحصاء، فمما ورد في بعض رواياته من أسماء الله الحسنى، كما حدث بذلك الإمام الصادق عن آبائه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلّا واحداً، من أحصاها دخل الجنّة وهي: (الله، الإله، الواحد، الأحد، الصمد، الأوّل، الآخر، السميع، البصير، القدير، القاهر، العلي، الأعلى، الباقي، البديع، البارئ، الأكرم، الظاهر، الباطن، الحيّ، الحكيم، العليم، الحليم، الحفيظ، الحقّ، الحسيب، الحميد، الحفي، الربّ، الرحمن، الرحيم، الذارئ، الرزّاق، الرقيب، الرؤوف، الرائي، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، السيّد، السبّوح، الشهيد، الصادق، الصانع، الطاهر، العدل، العَفُوّ، الغفور، الغني، الغياث، الفاطر، الفرد، الفتّاح، الفالق، القديم، الملِك، القدّوس، القوي، القريب، القيّوم، القابض، الباسط، قاضي الحاجات، المجيد، المولى، المنّان، المحيط، المُبين، المُقيت، المصوّر، الكريم، الكبير، الكافي، كاشف الضرّ، الوِتْر، النور، الوهّاب، الناصر، الواسع، الودود، الهادي، الوفي، الوكيل، الوارث، البرّ، الباعث، التوّاب، الجليل، الخبير، الخالق، خير الناصرين، الديّان، الشكور، العظيم، اللطيف، الشافي) ([5])
ومنها ما روي عن طريق غيره، وهي (هو الله الّذي لا إله إلّا هو الرّحمن الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار، القهّار، الوهّاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المُعِزّ، المُذِلّ، السميع، البصير، الحكم، العَدْل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المُقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المُجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدِّم، المؤخِّر، الأوّل، الآخر، الظاهر، الباطن، البَرّ، التوّاب، المنتقم، العفوّ، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، الوالي، المتعال، المُقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضّارّ، النّافع، النّور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور) ([6])
وهكذا يمكن أن تجد في السنة المطهرة الموافقة للقرآن الكريم الكثير من الأحاديث التي تذكر أسماء الله الحسنى، والتي تبين أنها أعظم من أن تقيد في الأعداد والحدود، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما قال عبد قط، إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحا) ([7])
وحتى تعرف قيمة هذا النوع من الإحصاء ـ أيها المريد الصادق ـ أذكر لك أن المريض الذي لا يعرف أن فلانا من الناس طبيب، وله القدرة على علاج كل الأمراض، لن يستفيد منه، ولو صاحبه عشرات السنين، ذلك أنه يجهل كونه مختصا بالطب، فهو يسميه باسمه، وربما يثني عليه بأسماء أخرى، لكن لجهله باسمه الطبيب، ضاعت منه فرصة العلاج على يديه.
فاعبر من هذا المثال إلى معرفتك بربك؛ فأكثر القانطين واليائسين والمحبطين لا يعرفون أسماء الله الحسنى، ولو أنهم اجتهدوا في البحث عنها، كما يجتهدون في البحث عن العقاقير التي تخلصهم من كآبتهم وإحباطهم، لحققوا أغراضهم، وبأقصر الطرق.
إحصاء الفهم:
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الإحصاء الثاني هو التأمل في تلك الأسماء التي أحصيتها وجمعتها، لتبحث في حقائقها، والمعاني الدالة عليها.
واعلم أن كل معنى سليم موافق للغة العربية، يمكنه أن يكون شرحا لذلك الاسم، حتى لو كثرت معاني الاسم الواحد؛ بشرط واحدة، وهو أن تكون معاني حسنة.
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكر الحكماء في اسم الله العزيز، فقد قال بعضهم عنه: (هو الخطير الذي يقل وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه.. فما لم يجتمع عليه هذه المعاني الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز.. فكم من شيء يقل وجوده، ولكن إذا لم يعظم خطره، ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا، وكم من شئ يعظم خطره، ويكثر نفعه، ولا يوجد نظيره ولكن إذا لم يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزا، كالشمس مثلا فإنه لا نظير لها، والأرض كذلك والنفع عظيم في كل واحد منهما، والحاجة شديدة إليهما، ولكن لا يوصفان بالعزة لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما.. ثم في كل واحد من المعاني الثلاثة كمال ونقصان.. فالكمال في قلة الوجود أن يرجع إلى واحد إذ لا أقل من الواحد، ويكون بحيث يستحيل وجود مثله) ([8])
ثم بين انطباق هذه المعاني على الله تعالى، فقال: (وليس هذا إلا الله تعالى، فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليست واحدة في الإمكان، فيمكن وجود مثلها في الكمال والنفاسة.. وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء حتى في وجوده وبقائه وصفاته وليس ذلك على الكمال إلا لله عز وجل.. والكمال في صعوبة المنال أن يستحيل الوصول إليه على معنى الإحاطة بكنهه، وليس ذلك على الكمال إلا لله عز وجل، فلا يعرف الله إلا الله، فهو العزيز المطلق الحق لا يوازيه غيره)
وقال آخر في اسم الله [الحكيم]: (للحكمة معنيان: معنى علمي، ومعنى عملي.. أما المعنى العلمي، فهو معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.. وأجل الأشياء هو الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف كنه الله غير الله، ولذلك فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم.. إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي الدائم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء ولا شبهة، ولا يتصف بذلك إلا علم الله سبحانه وتعالى.. وأما المعنى العملي، فإنه يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها حكيم، وكمال ذلك أيضا ليس إلا لله تعالى فهو الحكيم الحق الذي دل على حكمته كل شيء)([9])
الإحصاء الوجداني:
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الإحصاء الثالث هو الانفعال والتأثر لها، نتيجة التعمق في معانيها، وهو ما يجعلك تتعامل بكل اسم بحسب ما يقتضيه من تعظيم وإجلال.
ولهذا ارتبط ذكر أسماء الله تعالى بالسجود الدال على التعظيم، كما قال تعالى في اسم الله [الرحمن]، ونفور المشركين منه لعدم إيمانهم به، وإحصائهم له: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]
والسجود يعني الانفعال الأعظم، والتأثر الأكبر، والذي لا يكتفي بالقلب، وإنما يسري إلى الجوارح، ويجعلها خاشعة خاضعة مستكينة ذليلة لخالقها.. ولذلك كان السجود علامة القرب، كما قال تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]
ومن آثار الانفعال ـ أيها المريد الصادق ـ أن يجعلك غنيا بربك عمن سواه، ذلك أنك تجد في أسمائه الحسنى كل الطلبات التي تريدها.
ولذلك كان من الإحصاء دعاء الله بأسمائه الحسنى المرتبطة بالحاجات المختلفة، كما قال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ (الأعراف:180)
وذلك لأن الدعاء ـ في أصله ـ مقتضى من مقتضيات المعرفة بالله، فالمعرفة بأسماء الله وصفاته العليا هي التي تدعو إلى الثقة فيه، وهي التي تدعو إلى سؤاله، ولهذا نرى امتزاج أدعيته صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء الله.
ومما يروى في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا ورجل يصلي، ثم دعا قائلا: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لقد دعا الله باسمه العظيم)([10])
وقد علم صلى الله عليه وآله وسلم من أصابه هم أو حزن أن يقول:(اللهم إني عبدك، ابن عبدك ابن أمتك في قبضتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء حزني، وذهاب غمي)([11])، ثم بين أثر ذلك في نفسه، فقال:(فما قالها عبد قط إلا أبدله الله بحزنه فرحا)
وعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته أن تقول إذا وافقت ليلة القدر:(اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنى)([12])
ولهذا؛ فإن من آداب الدعاء أن يذكر العبد ما يرتبط بأسماء الله الحسنى مما يتعلق بحاجته، فإذا كانت حاجته الرزق، قال: (يا رزاق، يا وهاب، يا جواد، يا مغني، يا منعم، يا مفضل، يا معطي، يا كريم، يا واسع، يا مسبب الأسباب، يا منان، يا رزاق من يشاء بغير حساب)
وإن كانت حاجته (المغفرة والتوبة)، قال: (يا تواب، يا رحمن، يا رحيم، يا رؤوف، يا عطوف، يا صبور، يا شكور، يا عفو، يا غفور، يا فتاح، يا ذا المجد والسماح، يا محسن، يا مجمل، يا منعم)
وإن كانت حاجته صد أعدائه الظلمة المستكبرين قال: (يا عزيز، يا جبار، يا قهار، يا منتقم، ياذا البطش الشديد، يا فعال لما يريد، يا قاصم المردة، يا طالب، يا غالب، يا مهلك، يا مدرك، يا من لا يعجزه شيء)
وإن كانت حاجته طلب العلم والفهم والمعرفة، قال: (يا عالم، يا فتاح، يا هادي، يا مرشد، يا معز، يا رافع)
ولهذا يختم كل مقطع من مقاطع دعاء الجوشن الكبير بهذه الخاتمة (سبحانك يا لا الـه إلا انت الغوث الغوث خلصنا من النار يا رب)
وهذا الدعاء ـ أيها المريد الصادق ـ يشبه دعاء الذي يكاد يغرق؛ فهو يستعمل كل الوسائل لنجاته، ولهذا روي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام: (ادعني دعاء الحزين الغريق الذي ليس له مغيث، يا عيسى، سلني ولا تسأل غيري، فيحسن منك الدعاء ومني الإجابة)
ولذلك كان ذلك الدعاء العظيم الذي يحتوي على مائة مقطع، وكل مقطع يحتوي على عشرة أسماء من أسماء الله الحسنى تنتهي بطلب الإغاثة من أحسن وسائل الإحصاء والتعرف على الله والتواصل معه.
ففيه يقول العبد المتلهف مستغيثا بربه: (اللـهم اني اسألك باسمك يا الله يا رحمن يا رحيم يا كريم يا مقيم يا عظيم يا قديم يا عليم يا حليم يا حكيم سبحانك يا لا الـه إلا انت الغوث الغوث خلصنا من النار يا رب) ([13])
وفيه يقول: (يا سيد السادات يا مجيب الدعوات يا رافع الدرجات يا ولي الحسنات يا غافر الخطيئات يا معطي المسألات يا قابل التوبات يا سامع الاصوات يا عالم الخفيات يا دافع البليات)
وفيه يقول: (يا خير الغافرين يا خير الفاتحين يا خير الناصرين يا خير الحاكمين يا خير الرازقين يا خير الوارثين يا خير الحامدين يا خير الذاكرين يا خير المنزلين يا خير المحسنين)
وفيه يقول: (يا من تواضع كل شيء لعظمته يا من استسلم كل شيء لقدرته يا من ذل كل شيء لعزته يا من خضع كل شيء لهيبته يا من انقاد كل شيء من خشيته يا من تشققت الجبال من مخافته يا من قامت السماوات بأمره يا من استقرت الارضون بإذنه يا من يسبح الرعد بحمده يا من لا يعتدي على اهل مملكته)
إلى آخر الدعاء الذي يمكنك التزامه، والتأمل في الأسماء الحسنى الواردة فيه، والانفعال لها؛ فهو من أحسن طرقك إلى ربك، ومن أكثر الأدعية اشتمالا على أسماء الله الحسنى.
ولا يغرنك عن نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ من يزهدك فيه لعدم ورود أحاديثه من طرق بعينها.. فدين الله أعظم من أن يحتكره أحد من الناس.. والعبرة بالمعنى، وبالحقائق، لا بتلك الطرق التي خلطت الحق بالباطل، والتنزيه بالتجسيم، والسنة بالبدعة.
الإحصاء التخلقي:
إذا وعيت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الإحصاء الرابع هو التخلق بأخلاقها، والانصياع العملي لمقتضياتها، وقد اتفق على اعتبار هذا إحصاء كل الحكماء والعلماء وقد قال بعضهم معبرا عن ذلك:(فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات)([14])
ثم يقول مفصلا أسباب ذلك:(ذكرُ الله بأوصاف الجمال موجب للرحمة، وبأوصاف الكمال موجب للمهابة، وبالتوّحد بالأفعال موجب للتوكل، وبسعة الرحمة موجب للرجاء، وبشدة النقمة موجب للخوف، وبالتفرّد بالإنعام موجب للشكر)
ويبين آخر تأثير أسماء الله الحسنى في كل عبادة من العبادات الظاهرة والباطنة: (لكل صفة عبوديةٌ خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح)([15])
ثم يذكر الأمثلة الموضحة لذلك، فيقول:(فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضرّ والنفع، والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة: يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه يعلم السر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور: يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه على كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك: الحياء باطناً، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء… وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه، تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة، هي موجباتها.. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات)
ويبين أثر التعبد بأسماء الله تعالى في الوقاية من الأمراض القلبية، كالحسد، والكبر، اللذين هما منبع كل أمراض القلوب، فيقول:(لو عرف ربّه بصفات الكمال ونعوت الجلال، لم يتكبر ولم يحسد أحداً على ما آتاه الله؛ فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله؛ فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، ويحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته)([16])
ويبين أثر التعبد بأسماء الله تعالى وصفاته في الوقوف الصلب أما المحن والبلايا، فيقول:(من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما كره أعظم منها فيما يحب)([17])، ويقول:(فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم، فالمسلط له أعدل العادلين، كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً﴾ (الاسراء:5)
وذكر آخر سر الوصول إلى هذه الدرجة من هذه الإحصاء، فقال: (ولن يتصور أن يمتلئ القلب باستعظام صفة واستشرافها إلا ويتبعه شوق إلى تلك الصفة وعشق لذلك الكمال والجلال وحرص على التحلي بذلك الوصف إن كان ذلك ممكنا للمستعظم بكماله فإن لم يكن بكماله فينبعث الشوق إلى القدر الممكن منه لا محالة)
وذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يشبه التلميذ النجيب المتأثر بأستاذه؛ فإنه إذا شاهد كمال أستاذه في العلم انبعث شوقه إلى التشبه والاقتداء به، وهكذا في كل الشؤون يكون الشوق هو الحادي الذي يدفع إلى السلوك، فالجوارح تبع للقلب، وبقدر إعجابه وتعظيمه وتأثره وانفعاله يكون انقيادها.
فاحرص ـ أيها المريد الصادق ـ على أن تتحقق بهذه المراتب؛ فهي وسيلتك إلى ربك في الدنيا والآخرة، وبقدر اهتمامك بها، وإرادتك لها، بقدر ما يهبك الله من فضله.
واحذر من أن يكون
غرضك من إحصاء أسماء الله الحسنى ما يفعله الملحدون فيها والجاهلون بقدرها، أولئك
الذين حولوها إلى طلاسم يصطادون بها الدنيا وأهواءها، بدل أن يصطادوا بها الحقائق وآثارها.
([1]) رواه الترمذي وابن ماجة.
([2]) الكافي، ح 6، ص 102.
([3]) بحار الأنوار، ج 4، ص 290.
([4]) ذكر بعض الباحثين أنه ورد في القرآن الكريم مائة وثمانية وعشرون اسماً لله تعالى وهي: الإله، الأحد، الأوّل، الآخر، الأعلى، الأكرم، الأعلم، أرحم الراحمين، أحكم الحاكمين، أحسن الخالقين، أهل التقوى، أهل المغفرة، الأقرب، الأبقى، البارئ، الباطن، البديع، البرّ، البصير، التوّاب، الجبّار، الجامع، الحكيم، الحليم، الحيّ، الحقّ، الحميد، الحسيب، الحفيظ، الحَفِيّ، الخبير، الخالق، الخلّاق، الخير، خير الماكرين، خير الرازقين، خير الفاصلين، خير الحاكمين، خير الفاتحين، خير الغافرين، خير الوارثين، خير الراحمين، خير المنزلين، ذو العرش، ذو الطّوْل، ذو الانتقام، ذو الفضل العظيم، ذو الرحمة، ذو القوّة، ذو الجلال والإكرام، ذو المعارج، الرّحمن، الرحيم، الرؤوف، الربّ، رفيع الدرجات، الرزّاق، الرقيب، السميع، السلام، سريع الحساب، سريع العقاب، الشهيد، الشاكر، الشكور، شديد العقاب، شديد المِحال، الصمد الظاهر، العليم، العزيز، العَفوّ، العليّ، العظيم، علّام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، الغني، الغفور، الغالب، غافر الذنب، الغفّار، فالق الأصباح، فالق الحبّ والنوى، الفاطر، الفتّاح، القوي، القدّوس، القيّوم، القاهر، القهّار، القريب، القادر، القدير، قابل التوب، القائم على كلّ نفس بما كسبت، الكبير، الكريم، الكافي، اللطيف، المَلِك، المؤمن، المهيمن، المتكبّر، المصوّر، المجيد، المجيب، المبين، المَوْلى، المحيط، المقيت، المتعال، المحيي، المتين، المقتدر، المستعان، المبدئ، المعيد، مالك الملك، النّصير، النور، الوهّاب، الواحد، الولي، الوالي، الواسع، الوكيل، الودود، الهادي.
([5]) التوحيد للصدوق، ص ۱۹٤، ح ۸.
([6]) رواه الترمذي، وابن المنذر، وابن حبان، وابن مندة، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي، انظر: الدرّ المنثور: ۳ / ٦۱٤.
([7]) رواه ابن حبان.
([8]) المقصد الأسنى (ص: 73)
([9]) الباحثون عن الله (ص: 451)
([10]) رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجة وغيرهم.
([11]) رواه ابن السني وابن حبان.
([12]) رواه ابن النجار.
([13]) انظر الدعاء في المصباح، الكفعمي، ص 246.
([14]) شجرة المعارف والأحوال، ص 1.
([15]) مفتاح دار السعادة: 2/ 90 باختصار، وانظر: طريق الهجرتين، ص 43.
([16]) الفوائد، ص 150.
([17]) الفوائد، ص 85.