الحمد والتمجيد

الحمد والتمجيد

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن الحمد والتمجيد، ودورهما في التزكية والترقية، وفي التخلق والتحقق، وسر ما ورد حولهما في النصوص المقدسة، والجوانب العملية المرتبطة بكل ذلك.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الحمد والتمجيد من الأركان الضرورية للتزكية والترقية، مثلهما مثل التسبيح والتقديس، والتكبير والتهليل.. ذلك أن من يكتفي بتوحيد الله، أو تنزيهه عما لا يليق به، ثم لا يثبت له المحامد، ولا الكمالات لم يسبحه ولم يقدسه ولم يكبره.. لأن كمال الله ليس مرتبطا بتنزيهه فقط، وإنما بإثبات جميع صفات الكمال له.

بل إن التمجيد والحمد مندرج في التقديس والتنزيه؛ فلا يمكن أن يكون الله تعالى قدوسا وسبوحا ما لم يكن حميدا مجيدا.. ومثل ذلك التمجيد والتحميد، فهما مفتقران للتقديس والتنزيه؛ فلا يمكن ثبوت الكمال ما لم يثبت نفي النقص.

ولهذا يجتمع في القرآن الكريم كلا المعنيين: التقديس والتمجيد، كما قال تعالى: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ﴾ [الحجر: 98]، وقال: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: 44]، وقال: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ ﴾ [الفرقان: 58]، وقال: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ﴾ [غافر: 55]، وقال: ﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ [الطور: 48]، وقال: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ [النصر: 3]، وغيرها من الآيات الكريمة.

ولذلك، فإن أكثر ما ورد في الأحاديث الشريفة من الثناء على التسبيح وبيان فضله والأجور المرتبطة به، له علاقة بالحمد والتمجيد، ذلك أنهما مقترنان في أكثر ما ورد من صيغ الذكر.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن حمد الله وتمجيده لا يعني ما نفهمه من المديح والتزلف والتملق والثناء الذي يقوم به الخلق بعضهم تجاه بعض، ليستفيد بعضهم من بعض، ويتقرب بعضهم من بعض.. كلا.. فما ذلك إلا تملق وتودد، وهو يجانب الحقائق في أكثره، وقد عرفت في رسائلي إليك سر نهي الشرع عن المبالغة في المدح، والأمر باجتناب المادحين.

أما تمجيد الله والثناء عليه؛ فهو تذكير للنفس بعظمة خالقها، ودعوتها للجوء إليه، وعدم تضييع الفرصة في التواصل معه، ولذلك فإن مصلحته المجردة تعود على العبد، أما الله، فهو غني بذاته عن أن يصل إليه النفع منه؛ فكيف يصله من غيره.

وذلك يشبه ـ أيها المريد الصادق ـ من يبحث عن طبيب أو مهندس أو خبير في أي شأن من الشؤون.. فإذا وجده، وسجل اسمه وعنوانه في دفتره.. لا يفعل ذلك إلا لحاجته إليه.

وهكذا ـ ولله المثل الأعلى ـ تذكير النفس بكون الله قادرا أو مريدا أو رحيما أو لطيفا أو عليما، أو غيرها من معاني عظمة الله ومجده، فهي إشعار للنفس بأنها في كنف إله يغنيها في كل حاجاتها، ويدعوها إلى التواصل معه، وعدم الاحتجاب عنه بأي حجاب.

وهو ما يدعوها إلى الابتعاد عن كل العيوب والمثالب التي تحول بينها وبينه، فالكريم لا يقبل بصحبة البخيل، والصادق لا يقبل صحة الكاذب، والعدل لا يقبل صحبة الظالم الجائر، والرحيم لا يقبل صحبة القاسي، والعليم لا يقبل صحبة الجاهل.

وهكذا فإن حمد الله ومجده لا يرتبط فقط بالجوانب الروحية، وإنما يرتبط أيضا بالجوانب الأخلاقية والتربوية، ذلك أن كل معنى من المعاني التي يُمجد بها الله تعالى له تأثيره في النفس بالدعوة للتخلق بأخلاقه، والتأدب بعظيم صفاته.

ولهذا؛ كان القرآن الكريم كتاب التمجيد والحمد الأعظم؛ فلا تكاد تخلو سورة أو آية من آياته من تمجيد الله وعظمته، ولذلك كانت تلاوته أعظم وسيلة للتزكية والترقية والتحقق بكل القيم الروحية والتربوية، بالإضافة إلى كونه تعبيرا عن الحقائق الوجودية العظيمة، والتي لا يمكن الاستفادة منها من دون معرفتها.

ولهذا، فإن أول وأعظم سورة في القرآن سورة الفاتحة، والتي جعل الله تعالى تلاوتها ركنا في الصلاة، تقرأ في كل ركعة، افتتحت بالثناء على الله تعالى، قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 2 – 4]

وقد ورد في الحديث القدسي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (قال الله عز وجل: قَسَمْتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة: 2)، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ (الفاتحة: 3)، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (الفاتحة: 4)، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ (الفاتحة: 5)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿اهدنا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة: 6، 7)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل) ([1])

ونلاحظ ـ كما ورد في الحديث القدسي ـ كيف أن الله تعالى بدأ بذكر تمجيده، وحمده، ثم رتب عليه الدعاء والطلب، وهو يشبه ذلك الذي يذهب إلى الطبيب، ويقول له: بما أنك طبيب ومختص في كذا وكذا؛ فإني أطلب منك أن تعالجني بما هو في دائرة اختصاصك.

ولذلك، يرد الحمد والتمجيد في القرآن الكريم مقترنا بالطلب والدعاء، كما في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [آل عمران: 191، 192]

ويذكر الله تعالى كيف قدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله قبل دعائه، فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: 38، 39]، ثم ذكر طلبه بعدها، فقال: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم: 40، 41]

وهكذا نجد في السنة المطهرة اقتران الأدعية النبوية، وما ورد عن أئمة الهدى من أدعية بالتمجيد والثناء على الله، لأنه أعظم وسيلة لتحقيق المطلوب، بل نراهم في بعض الأدعية يكتفون بالثناء وحده، لأنه كاف في تحقيق المطلوب.

وهذا لا يعني أن الغرض من تمجيد الله هو تحقيق المطالب.. كلا.. فالله تعالى مقصود لذاته، ومطلوب لذاته.. ولذلك كان تمجيده مقصودا بالأصالة، لأنه يعبر عن الحقائق، والنفس الكاملة لا تفرح بشيء كما تفرح بالحقائق.

ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن آية الكرسي أنها أعظم آي القرآن الكريم لكونها كلها ثناء على الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255]

وهكذا مثلها من آيات القرآن الكريم المتعلقة بحمد الله والثناء عليه وبيان صفاته العظيمة، فهي لا شك أولى من غيرها من الآيات المتعلقة بالأحكام أو القصص أو المواعظ، وإن كان القرآن الكريم كله كلام الله، ولكن موضوع الكلام له تأثيره في الأفضلية.

ولهذا اعتبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سورة الإخلاص ثلث القرآن الكريم، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوما: (أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثُلثَ القرآن؟)، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: (قل هو الله أحد، تعدِلُ ثلث القرآن) ([2])

 ولهذا؛ فإن لآيات الحمد والثناء منزلة خاصة في القرآن الكريم، ولهذا افتتحت به أول سورة، كما افتتحت به أربع سور غيرها، وهي الأنعام، قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1]، والكهف، قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ﴾ [الكهف: 1]، وسبأ، قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [سبأ: 1]، وفاطر، قال تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فاطر: 1]

ومثل ذلك ما ورد بصيغة التبريك، وهو مثل الحمد، والذي افتتحت به سورتا الفرقان والملك، قال تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 1- 2]، وقال: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ﴾ [الملك: 1 – 3].

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن القرآن الكريم هو كتاب التمجيد الأعظم، فاحرص عليه، وتدبر آياته؛ ففيها كل ما يعرفك بربك، ويملأ قلبك بالمحبة له.

لكن الظفر بذلك قد يستدعي منك بعض المجاهدات والرياضات التي تمكن للمعاني القرآنية من التأثير في نفسك، وهي تشمل عقلك وقلبك وجوارحك.

تمجيد العقل:

فأول ما عليك ـ أيها المريد الصادق ـ لاستعمال هذه الوسيلة العظيمة من وسائل التزكية والترقية أن تبدأ بتنوير عقلك بالهدايات المرتبطة به؛ فعقلك جزء منك، ولا يمكنك تجاهله أو تجاهل تساؤلاته، أو الشبهات التي يعرضها عليك.

ولذلك خاطبه باللغة التي يفهمها، والأدلة التي يستوعبها، فقناعته بالحقائق ستسري لكل كيانك، وتؤثر فيه تأثيرا بليغا، بخلاف ذلك الذي يكتفي بأن يلهج لسانه بالمجد والثناء من غير تحقيق ولا تفكير ولا تأمل.

ولذلك إن قرأت قوله تعالى: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ (الأعلى: 1)، فلا تكتف بالقراءة، وإنما تأمل وتدبر بعقلك عن حقيقة العلي الأعلى، وكيف كان الله تعالى وحده الحقيق بها، وسيدلك عقلك على أن العلي الأعلى هو الذي لا رتبة فوق رتبته، وجميع المراتب منحطة عنه.. وأنه الذي لا يقدر الخلائق كلهم أن يحيطوا ببعض معاني صفة واحدة من صفاته.. وأنه ليس كمثله شيء في كل نعوته.. وأنه الذي قهر بعزته وعلوه الخلق كلّهم، فنواصيهم بيده، وما شاء كان لا يمانعه فيه ممانع، وما لم يشأ لم يكن.. فلو اجتمع الخلق على إيجاد ما لم يشأه الله لم يقدروا، ولو اجتمعوا على منع ما حكمت به مشيئته لم يمنعوه.

وهكذا إن قرأت قوله تعالى: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 1 – 3]

فتأمل في هذه الآيات الكريمة بعين عقلك، وسترى كيف أنه سيردد من حيث لا يشعر ما قاله الشاعر الصالح:

الله قل وذر الوجود وما حوى… إن كنت مرتاداً بلوغ كمال

فالكل دون الله أن حققته… عدم على التفصيل والإجمال

واعلم بأنك والعوالم كلها… لولاه في محو وفي اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته… فوجوده لولاه عين محال

والعارفون بربهم لم يشهدوا… شيئاً سوى المتكبر المتعال

ورأوا سواه على الحقيقة هالكا… ً في الحال والماضي والاستقبال

وهكذا إن قرأت قوله تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ (الحشر:24)، وقال: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (الأنعام:102)، وقال: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (الزمر:62)

فلا تكتف بالقراءة المجردة، وإنما تأمله بعين عقلك، وسترى كيف يجعلك ترى كل شيء من تصميم الله وصناعته وخلقه.. فلا شيء إلا من الله.. ولا شيء إلا بالله.

وهكذا يمكنك أن تستعين بكل المعارف والعلوم؛ فكلها قطرات من بحر العلم الإلهي والقدرة الإلهية.. ولذلك تعلم علومها بهذه النية، ولا تكتف بما تفيدك به من شؤون الدنيا، وإنما اعبر منها إلى ربك.. فالذي خلق ما تراه قادر على خلق غيره.. فلا تحتجب بما تراه عما لا تراه، وإنما اعبر مما تراه إلى ما لا تراه.. فلا خير فيمن سكن في الحضيض، وهو قادر على أن يرتقي إلى سموات الكمال.

تمجيد القلب:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واطمأنت به نفسك، فانتقل من تمجيد العقل لربه إلى تمجيد القلب.. الذي هو محل مشاعرك وعواطفك؛ فانظر إلى آثار نعم الله عليك، وتأمل فيها، وتأمل في النعم التي لا تزال تنتظرك في دار السعادة العظمى التي أعدها لك، وسترى كيف يمتلئ قلبك بالتمجيد الحقيقي، والحمد الحقيقي، وقد قال الشاعر معبرا عن آثار النعم في النفس:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة… يدي ولساني والضمير المحجبا

ولهذا، فإن حمد القلب وتمجيده ينطلق من تصور النعمة، والاعتراف بها للمنعم، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له) ([3])

ولا تكتف ـ أيها المريد الصادق ـ بالشكر والتمجيد الخاص بما تراه من نعم خصك الله بها فقط، بل اعتبر كل شيء نعمة من النعم العظمى، وأولها وأعظمها ربك الذي خلقك، وهدايته لك إليه، فذلك أكبر النعم، لأنه سبيل السعادة الوحيد.

ولهذا ذكر الله تعالى عن المؤمنين حمدهم على نعمة الهداية عندما يرون ثمارها في الجنة، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 42، 43]

واذكر عند حمدك لله تعالى على هذه النعمة، قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56]، وقوله: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99]، وقوله: ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [السجدة: 13]، لتعرف أن تلك النعمة ليست بحولك ولا قوتك، وإنما هي فضل عظيم من الله عليك، فاحرص عليه، واشكره، واحذر من أن يسلب منك.

فإذا امتلأ قلبك شعورا بمنن الله عليك، ثم رحت بمرآة قلبك تطالع جميل صفاته؛ فإن ذلك سينقلك من الهداية العامة إلى الهداية الخاصة، ومن عوام الناس إلى خواصهم، أولئك الذين وصفهم الله تعالى، فقال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ: 13)

وذلك ما يملؤك بالرضا عن ربك، وهو من أعظم مقامات السالكين، قال تعالى: ﴿ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]

ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن لم تكن فيه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا، من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضّله به عليه كتبه الله شاكرا صابرا، ومن نظر في دينه إلى من هو دونه، ونظر في دنياه إلى من فوقه فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرا ولا صابرا)([4])

وقال: (عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير. وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن إن أصابته سرّاء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضرّاء صبر. فكان خيرا له)([5])

وقال: (أول من يدعى إلى الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله في السراء والضراء)([6])

تمجيد الجوارح:

فإذا حمدت الله تعالى بكل قلبك، وامتلأت رضا عنه، تحركت كل جوارحك بالشكر لله وتمجيده وتعظيمه، وعدم استعمال نعمه في معصيته.

وأول تلك الجوارح وأعظمها تأثيرا لسانك؛ ذلك أنه وسيلة من الوسائل العظمى التي جعلها الله لك لتنتقل الحقائق منه إلى قلبك، وتؤثر فيه تأثيرها العظيم.. فالحمد والتمجيد الذي ينطق به قد يكون ثمرة للمعارف، وقد يكون وسيلة إليها.

ولذلك أمر الله تعالى بشكره وتمجيده، حتى يعبر الشكر من اللسان إلى القلب، ومن القلب إلى كل اللطائف، قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة:152)، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (البقرة:172)، وقال: ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (النحل:114)

وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشّربة فيحمده عليها)([7])

ولهذا ورد في السنة المطهرة الكثير من صيغ الحمد والتمجيد، والتي هي قبس من وظيفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العظمى المرتبطة بالتزكية، والتي تسري في الأمة في جميع عصورها، ولا ينالها إلا من اهتدى بهديه، واستن بسنته، ولم يرغب عنها، ولم يتكبر عليها، ولم يقل: حسبنا كتاب الله.

ومن تلك الأحاديث ما ورد من الحمد والتمجيد في الصلاة، وهي كثيرة جدا، ومنها قوله عند الاستفتاح بالصلاة ما بين تكبيرة الإحرام والقراءة: (الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، والحمد لله كثيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا) ([8])

ويقول: (اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم حق، والساعة حق اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت. فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت أنت إلهي لا إله إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بالله) ([9])

وكان يقول عند الرفع من الركوع: (ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه)([10])، ثم يضيف: (ملء السموات وملء الأرض، وما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد. أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد) ([11])

وكان من دعائه بعد التشهد الأخير في الصلاة: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار) ([12])

ومن الأذكار التي كان يقولها بعد السلام: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [ثلاثا]، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)([13])

ويقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) ([14])

ويقول: (سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر (ثلاثا وثلاثين) لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) ([15])، ويرغب فيها قائلا: (من قال ذلك دبر كل صلاة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)

وهكذا كان إذا استيقظ من النوم يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) ([16])

ويقول: (الحمد لله الذي رد علي روحي، وعافاني في جسدي، وأذن لي بذكره) ([17])

وكان يحث على الدخول إلى البيوت بصحبة الحمد والتمجيد، ويعتبر ذلك وقاية وحجابا للبيت، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل الرجل بيته، أو أوى إلى فراشه ابتدره ملكٌ وشيطانٌ، فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بشر، فإن ذكر الله طرد الملك الشيطان وظل يكلؤه، فإذا انتبه من منامه ابتدره ملكٌ وشيطانٌ، فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بشر، فإن هو قال: الحمد لله الذي رد إلي نفسي بعد موتها ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك السموات السبع أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إلى آخر الآية، فإن هو خر من فراشه فمات كان شهيدا، وإن هو قام يصلي صلى في فضائل) ([18])

وهكذا كان يدعو إلى حمد الله عند الطعام والشراب، ويذكر الأجر العظيم المرتبط بذلك، فيقول: (إن المؤمن يشبع من الطعام والشراب فيحمد الله، فيعطيه الله من الاجر ما يعطي الصائم، إن الله شاكر يحب أن يحمد) ([19])

وكان يقول إذا فرغ من طعامه: (الحمد لله الذي كفانا وأروانا، غير مكفي ولا مكفور.. الحمد لله ربنا، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى، ربنا) ([20])

وكان يقول في الصباح: (أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده، وأعوذ بك من شر ما في هذا اليوم وشر ما بعده، رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر) ([21])

ويذكر فضل حمد الله في الصباح والمساء، فيقول: (من قال حين يصبح: اللهمّ ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك. فلك الحمد ولك الشّكر. فقد أدّى شكر يومه، ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدّى شكر ليلته)([22])

وهكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى حمد الله عند كل نعمة، فيقول: (أربع من كن فيه كتبه الله من اهل الجنة: من كانت عصمته شهادة ان لا اله الا الله، ومن إذا انعم الله عليه النعمة قال: (الحمد لله، ومن إذا أصاب ذنبا قال: (استغفر الله، ومن إذا أصابته مصيبة قال: (انا لله وانا إليه راجعون) ([23])

وقد أخبر القرآن الكريم عن حمد إبراهيم عليه السلام لربه عندما رزقه إسماعيل عليه السلام، فقال: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم: 39]

وأخبر عن داود وسليمان عليهما السلام، ومسارعتهما لحمد الله كل حين، فقال: ﴿) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل: 15]

وغيرها من النصوص الكثيرة التي تحث على الحمد، وتبين مواضعه، ومثلها غيرها من النصوص الممتلئة بتمجيد الله من غير تحديد أوقات بعينها، فالتمسها ـ أيها المريد الصادق ـ واجتهد في الالتزام بها، ففيها من الحقائق ما يملأ قلبك باليقين والإيمان.

وإياك أن تكتفي بها، وترغب عما تركه أئمة الهدى من تمجيد وحمد لله، فكما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نستن بسنته، أمرنا أن نستن بسنة أئمة الهدى من بعده، فقال: (عليكم بسنتي وسنه الخلفاء المهديين الراشدين([24]) تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ) ([25])

ومن تلك التمجيدات الشريفة ما روي عن الإمام السجاد أنه كان يقول: (الحمد لله الأول بلا أول كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده الذي قصرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين. ابتدع بقدرته الخلق ابتداعا، واخترعهم على مشيته اختراعا. ثم سلك بهم طريق إرادته، وبعثهم في سبيل محبته، لا يملكون تأخيرا عما قدمهم إليه، ولا يستطيعون تقدما إلى ما أخرهم عنه. وجعل لكل روح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقه، لا ينقص من زاده ناقصٌ، ولا يزيد من نقص منهم زائدٌ. ثم ضرب له في الحياة أجلا موقوتا، ونصب له أمدا محدودا، يتخطى إليه بأيام عمره، ويرهقه بأعوام دهره، حتى إذا بلغ أقصى أثره، واستوعب حساب عمره، قبضه إلى ما ندبه إليه من موفور ثوابه، أو محذور عقابه، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. عدلا منه، تقدست أسماؤه، وتظاهرت آلاؤه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون)

ويقول: (الحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة، لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه، وتوسعوا في رزقه فلم يشكروه. ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيمية فكانوا كما وصف في محكم كتابه: ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44])

ويقول: (الحمد لله على ما عرفنا من نفسه، وألهمنا من شكره، وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيته، ودلنا عليه من الإخلاص له في توحيده، وجنبنا من الإلحاد والشك في أمره. حمدا نعمر به فيمن حمده من خلقه، ونسبق به من سبق إلى رضاه وعفوه. حمدا يضيء لنا به ظلمات البرزخ، ويسهل علينا به سبيل المبعث، ويشرف به منازلنا عند مواقف الأشهاد، يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون. حمدا يرتفع منا إلى أعلى عليين في كتاب مرقوم يشهده المقربون. حمدا تقر به عيوننا إذا برقت الأبصار، وتبيض به وجوهنا إذا اسودت الأبشار. حمدا نعتق به من أليم نار الله إلى كريم جوار الله. حمدا نزاحم به ملائكته المقربين، ونضام به أنبياءه المرسلين في دار المقامة التي لا تزول، ومحل كرامته التي لا تحول. والحمد لله الذي اختار لنا محاسن الخلق، وأجرى علينا طيبات الرزق. وجعل لنا الفضيلة بالملكة على جميع الخلق، فكل خليقته منقادةٌ لنا بقدرته، وصائرةٌ إلى طاعتنا بعزته)

ويقول: (الحمد لله الذي أغلق عنا باب الحاجة إلا إليه، فكيف نطيق حمده أم متى نؤدي شكره.. والحمد لله الذي ركب فينا آلات البسط، وجعل لنا أدوات القبض، ومتعنا بأرواح الحياة، وأثبت فينا جوارح الأعمال، وغذانا بطيبات الرزق، وأغنانا بفضله، وأقنانا بمنه. ثم أمرنا ليختبر طاعتنا، ونهانا ليبتلي شكرنا، فخالفنا عن طريق أمره، وركبنا متون زجره، فلم يبتدرنا بعقوبته، ولم يعاجلنا بنقمته، بل تأنانا برحمته تكرما، وانتظر مراجعتنا برأفته حلما.. والحمد لله الذي دلنا على التوبة التي لم نفدها إلا من فضله، فلو لم نعتدد من فضله إلا بها لقد حسن بلاؤه عندنا، وجل إحسانه إلينا وجسم فضله علينا فما هكذا كانت سنته في التوبة لمن كان قبلنا، لقد وضع عنا ما لا طاقة لنا به، ولم يكلفنا إلا وسعا، ولم يجشمنا إلا يسرا، ولم يدع لأحد منا حجة ولا عذرا. فالهالك منا من هلك عليه، والسعيد منا من رغب إليه)

ويقول: (الحمد لله بكل ما حمده به أدنى ملائكته إليه وأكرم خليقته عليه وأرضى حامديه لديه حمدا يفضل سائر الحمد كفضل ربنا على جميع خلقه. ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا وعلى جميع عباده الماضين والباقين عدد ما أحاط به علمه من جميع الأشياء، ومكان كل واحدة منها عددها أضعافا مضاعفة أبدا سرمدا إلى يوم القيامة. حمدا لا منتهى لحده، ولا حساب لعدده، ولا مبلغ لغايته، ولا انقطاع لأمده حمدا يكون وصلة إلى طاعته وعفوه، وسببا إلى رضوانه، وذريعة إلى مغفرته، وطريقا إلى جنته، وخفيرا من نقمته، وأمنا من غضبه، وظهيرا على طاعته، وحاجزا عن معصيته، وعونا على تأدية حقه ووظائفه. حمدا نسعد به في السعداء من أوليائه، ونصير به في نظم الشهداء بسيوف أعدائه، إنه وليٌ حميدٌ)([26])

ومن تمجيدات الإمام الصادق لله قوله: (الحمد لله الذي نعمته تغدو علينا وتروح، ونظل نهارا ونبيت فيها ليلا فنصبح فيها برحمته مسلمين، ونمسي فيها بمنه مؤمنين من البلوى معافين الحمد لله المنعم المفضل المحسن المجمل ذي الجلال والاكرام ذي الفواضل والنعم، الحمد لله الذي لم يخذلنا عند شدة، ولم يفضحنا عند سريرة، ولم يسلمنا بجريرة.. الحمد لله على علمه، والحمد لله على فضله علينا وعلى جميع خلقه، وكان به كرم الفضل في ذلك ما الله به عليم) ([27])

وغيرها من الأدعية والمناجيات والأذكار التي تقتبس من هدي القرآن الكريم، ونور النبوة، فالتزمها، وتدبر فيها؛ فلعل الله تعالى أن ينقلها من لسانك إلى عقلك، ومن عقلك إلى قلبك، ومن قلبك إلى روحك، ومن روحك إلى سرك.. ولعل الله أن ينقلك بها من درك الجاحدين لنعمه إلى درجات الشاكرين لها؛ فلا يمكن أن ينال أحد تلك المراتب الرفيعة من دون أن يستعمل كل الوسائل المؤدية لها، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]

وإن عجزت عن كل ذلك، أو لم تسمح لك أشغالك وأوقاتك به؛ فيمكنك أن تردد بلسانك تلك الكلمة المختصرة التي لن تكلفك أي عنت، وهي قولك [الحمد لله]، فأدمن عليها، ولو من دون تحريك شفتيك، واستشعر وأنت ترددها كل معاني الفرح والسرور بالله وبفضله العظيم الذي وصلك، والذي ينتظرك.

واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك لن تظفر بالمزيد حتى تؤدي حق ما أعطيته من النعم؛ فقد رتب الله المزيد عليها، فقال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]

وإياك أن تغتر بالمزيد الذي يُزود به الجاحدون؛ فهو ليس مزيدا مباركا، بل هو مزيد مسموم، ولم يقصد منه النعمة، وإنما قصد به الابتلاء والاختبار، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55]

فاحذر ـ أيها المريد الصادق ـ أن تكون من أهل الاختبار، لا من أهل النعيم الحقيقي؛ والعلامة التي تجعلك منهم حمدك الدائم لله، وفرحك بفضله، وعدم استخدام نعمه في معصيته.. فما أشد حسرة من يستعمل نعم الله في غضب الله.


([1] )  رواه البخاري ومسلم.

([2] )  رواه مسلم: 1886.

([3] )  رواه مسلم.

([4]) الترمذي(2512) وبعضه في مسلم (2963) وابن ماجة(4142)

([5]) مسلم(2999)

([6] )  مكارم الاخلاق ص 354.

([7]) مسلم(2734)

([8] )  أبو داود، 1/ 203، وابن ماجه، 1/ 265، وأحمد، 4/ 85، برقم 16739.

([9] )  البخاري مع الفتح، 3/ 3، ومسلم مختصرا بنحوه، 1/ 532، برقم 769.

([10] )  البخاري مع الفتح، 2/ 284، برقم 796.

([11] )  مسلم، 1/ 346، برقم 477.

([12] )  أبو داود، برقم 1495، والترمذي، برقم 3544، وابن ماجه، برقم 3858، والنسائي، برقم 1299.

([13] )  البخاري، 1/ 255، برقم 844، ومسلم، 1/ 414، برقم 593

([14] )  مسلم، 1/ 415 برقم 594.

([15] )  مسلم، 1/ 418، برقم 597

([16] )  البخاري:6325

([17] )  الترمذي (3401)، والنسائي في (عمل اليوم والليلة) (866)، وابن السني في (عمل اليو والليلة) (9)

([18] )  ابن أبي الدنيا في (التهجد والقيام) (515)، وابن السني في (عمل اليوم والليلة) (12)

([19] )  مشكاة الانوار ص 28.

([20] )  البخاري:5459

([21] )  مسلم، 4/ 2088، برقم 2723.

([22]) أبو داود(5073) والنسائي في اليوم والليلة(7)

([23] )  تفسير العياشي ج 1 ص 69.  

([24]) بالمفهوم النبوي الذي تدل عليه وعلى مصاديقه الكثير من الأحاديث النبوية، لا بالمفهوم التاريخي..

([25] )  رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وابن ماجة.

([26] )  الصحيفة السجادية.

([27] )  قرب الاسناد ص 6.

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *