التسبيح والتقديس

التسبيح والتقديس

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن التسبيح والتقديس، ودورهما في السير والسلوك، وفي التخلق والتحقق، وسر ما ورد حولهما في النصوص المقدسة، والجوانب العملية المرتبطة بكل ذلك.

وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن التسبيح والتقديس من أركان السير إلى الله التي وردت الدعوة إليها في النصوص المقدسة، ولا يمكن لأي سالك، أو طالب لمعرفة الله أو التواصل معه، أو التخلق بأخلاق الأولياء والصديقين إلا أن يسبح الله ويقدسه في كل حين، وبكل لطائفه؛ والتقصير في ذلك انحدار وسقوط وبعد وحجاب.

ذلك أن التسبيح والتقديس يتعلق بأعظم حقائق الوجود، وهو الله تعالى، والذي لا يمكن معرفته من غير تنزيهه عن كل ما لا يليق به، وقد ورد في الحديث أن رجلا من اليهود سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن الكلمات التي اختارهن الله لإبراهيم عليه السلام، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، فسأله اليهودي عن تفسيرها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (علم الله جل وعز أن بني آدم يكذبون على الله، فقال: سبحان الله، تبريا مما يقولون، وأما قوله: الحمد لله، فإنه علم أن العباد لا يؤدون شكر نعمته، فحمد نفسه قبل أن يحمدوه، وهو أول الكلام، لولا ذلك لما أنعم الله على أحد بنعمته، وقوله: لا إله إلا الله يعني وحدانيته لا يقبل الله الأعمال إلا بها، وهي كلمة التقوى، يثقل الله بها الموازين يوم القيامة، وأما قوله: الله أكبر فهي أعلى الكلمات، وأحبها إلى الله عز وجل، يعني أنه ليس شئ أكبر مني لا تفتتح الصلوات إلا بها لكرامتها على الله) ([1])

ولهذا يقترن التسبيح بذكر مقولات الذين كذبوا على الله، قال تعالى مخبرا عن تنزهه عما يقوله المشركون: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: 100]

وأخبر عن أولئك الذين تصوروا الله جاهلا لا يعلم ما لا يعلمون، فقال: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].

وهكذا يقترن التسبيح بالشرك وبكل ما لا يليق بالله تعالى مما يذكره الجاهلون بقدر الله، قال تعالى في معرض رده على مقولات المشركين، وبعدها عن مقتضيات العقول: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } [الإسراء: 40 – 43]

ولهذا تقترن كلمة التسبيح بكلمة (تعالى)، والتي تعني تعالي الله وتقدسه وتنزهه، كما قال تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 1]، وقال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]

وتقترن ـ كذلك ـ بكلمة التقديس، كما في قوله تعالى عند ذكره لقول الملائكة عليهم السلام: { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]

كما تقترن بالتعجب من العقول وجهلها وعدم استعمالها في إدراك الحقائق، كما قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [يونس: 68]

وهذا يدل على أن التسبيح والتقديس علامة نضج العقل واكتماله، لأن كل البراهين العقلية مرشدة لذلك، ودالة عليه، ولذلك كان المشبه والمشرك وكل من يصف ربه بما لا يليق به ممتلئا بالغفلة والغباء، حتى لو اشتهر بالعبادة والزهد والتقوى.

ومما يروى في هذا أنه وُصف للإمام الصادق بعض الناس، وذكر له من عبادته ودينه وفضله، لكن الإمام لم يلتفت لذلك، وإنما راح يسأل عن عقله، فقال الواصف: لا أدري، فقال الإمام: (إن الثواب على قدر العقل، إن رجلا من بني إسرائيل كان يعبد الله في جزيرة من جزائر البحر خضراء نضرة كثيرة الشجر ظاهرة الماء، وإن ملكا من الملائكة مر به فقال: يا رب أرني ثواب عبدك هذا فأراه الله تعالى ذلك، فاستقله الملك فأوحى الله تعالى إليه: أن اصحبه؛ فأتاه الملك في صورة إنسي فقال له: من أنت؟ قال: أنا رجل عابد بلغني مكانك وعبادتك في هذا المكان فأتيتك لأعبد الله معك فكان معه يومه ذلك، فلما أصبح قال له الملك: إن مكانك لنزه وما يصلح إلا للعبادة فقال له العابد: إن لمكاننا هذا عيبا فقال له: وما هو؟ قال: ليس لربنا بهيمة فلو كان له حمار رعيناه في هذا الموضع فان هذا الحشيش يضيع، فقال له [ ذلك ] الملك: وما لربك حمار، فقال: لو كان له حمار ما كان يضيع مثل هذا الحشيش؛ فأوحى الله إلى الملك إنما اثيبه على قدر عقله) ([2])

ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا بلغكم عن رجل حسن حال فانظروا في حسن عقله، فإنما يجازي بعقله) ([3])

وإن شئت أن تعتبر بذلك ـ أيها المريد الصادق ـ فتوهم صديقا من أصدقائك، يبالغ في إكرامك، والثناء عليك، ثم تراه بعد ذلك يتهمك بأي تهمة، أو يظن بك ظنون السوء؛ فهل يمكن أن تعتبر مثل هذا صديقا؟

 وهل يمكن أن يكون إكرامه لك ببعض الطعام أو الهدايا ناسخا لتلك التهم التي رماك بها، وأشاعها عنك؟

وهكذا؛ فإن التسبيح والتقديس ليسا مرتبطين بالمعارف الإلهية فقط، وإنما يرتبطان بالقيم الأخلاقية؛ فالذي لا ينزه الله عما لا يليق به لا يختلف عن ذلك الذي يقذف الناس بما ليس فيهم؛ فيبهتهم ويظلمهم، وقد قال الله تعالى في توجيهاته للذين وقعوا في الإفك: { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، بل إنه ربط ذلك بالتسبيح، فقال: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ليشير بذلك إلى أن الذي ينزه لسانه عن الكذب والافتراء على الخلق، أولى أن ينزهه عن الافتراء والكذب على الله.

ولهذا يذكر الله تعالى فداحة جرم من ينسبون له الولد، قال تعالى: { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 4 ـ 5]

بل ذكر في آيات أخرى تأثر الكون جميعا بتلك الاتهامات التي يتهم بها الله، قال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } [مريم: 88 – 93]

ولهذا ترد الإشارات القرآنية الكثيرة إلى أن الكون كله أعظم معرفة بالله من أولئك المشركين أو الغافلين الذين يصفون الله تعالى بما لا يليق به، قال تعالى يذكر تسبيح السموات والأرض، وما فيها من الكائنات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}[الإسراء: 44]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[النور: 41]، وقال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}[ الجمعة: 1]

وقال عن تسبيح الرعد والملائكة: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}[الرعد: 13]

وقال عن تسبيح الجبال والطير: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء: 79]

ولهذا؛ فإن تسبيح الله وتقديسه من الأمور الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، ولا تجاهلها، ولا السير إلى الله من دونها..

بل إن السائرين إلى الله في الحقيقة لا يقومون سوى بتطهير عقولهم وقلوبهم ونفوسهم من كل تلك المعارف والظنون التي كانوا يتوهمون أنهم يثنون بها على الله، ثم يكتشفون أن جلال الله أعظم من أن يعبر عنه بذلك الثناء، ولذلك يرد التسبيح والتقديس بصيغة المضارع الدالة على الاستمرار.

وإلى هذا المعنى الإشارة بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه كان يقول في دعائه: (اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) ([4])

وقد ذكر بعض الحكماء سر التدرج الوارد في الحديث، فقال: (نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الصفات، فاستعاذ ببعضها من بعض، فإن الرضا والسخط وصفان، ثم زاد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات، فقال أعوذ بك منك، ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب، فالتجأ إلى الثناء، فأثنى بقوله لا أحصي ثناء عليك، ثم علم أن ذلك قصور، فقال أنت كما أثنيت على نفسك) ([5])

وهذه الإشارة العرفانية تدل على الحقيقة التي ذكرها القرآن الكريم بصيغ مختلفة، ومنها قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، وقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50]

وإليها الإشارة بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله) ([6])، وقد قال بعض الحكماء في تفسيره: (لما كانت روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب تستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج، فمما نهضت به الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تتقطع علاقة النفس عنه، فيبقى العباد محرومين فكان صلى الله عليه وآله وسلم يفزع إلى الاستغفار، لقصور النفس عن ترقي القلب)

ولذلك؛ فإن التسبيح والتقديس ـ أيها المريد الصادق ـ لا ينقطع أبدا حتى في الجنة، ذلك أن المؤمن يكتشف فيها كل يوم قصوره في معرفة ربه، وأنه أعظم من أن يحاط به، وقد قال تعالى يذكر ذلك: ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ ﴾ [يونس: 10]

وروي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ أهل الجنّة يأكلون فيها ويشربون‏، ولا يتفلون ولا يبولون، ولا يتغوّطون ولا يمتخطون). قالوا: فما بال الطّعام؟، قال: (جشاء([7]) ورشح كرشح المسك، يلهمون التّسبيح والتّحميد، كما يلهمون النّفس)([8])

ولهذا كله يذكر الله تعالى تسبيح الملائكة الدائم مع معرفتهم بالله، للدلالة على عدم محدودية تنزيه الله، قال تعالى: ﴿ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 20]، وقال: ﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ﴾ [فصِّلت: 38]

ومثل ذلك الرسل عليهم السلام، الذين يذكر القرآن الكريم تسبيحهم لله مع عظم معرفتهم به، أو للدلالة على معرفتهم به، فقد أخبر الله تعالى عن يونس عليه السلام أنه قال: ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ﴾ [الأنبياء: 87]، وأخبر عن موسى عليه السلام أنه قال: ﴿ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143]، وأخبر عن المسيح عليه السلام أنه قال: ﴿ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾ [المائدة: 116]، وأخبر أنه أمر زكريا عليه السلام بالتسبيح، فقال: ﴿ وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 41]، وأخبر أن زكريا عليه السلام أمر قومه بالتسبيح، فقال: ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 11]

تسبيح العقل:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن التسبيح والتقديس مثل سائر الأذكار التي يعرج بها السالك إلى الله، لا يكفي فيه ترديد اللسان، ولا كثرة أعداد التسبيحات، بل ينبغي أن يشمل كل اللطائف، وأولها العقل؛ فهو أول المسبحين والمقدسين، ومن لم يسبح عقله ربه، وقع في مستنقعات التشبيه والتجسيم والشرك والضلالة، ولو سبح بلسانه ملايين المرات.

وإياك أن تتوهم أن كونك مسلما، كاف في تنزهك عن رمي ربك بما لا يليق به، أو أنه كاف في تخلصك من التشبيه والتجسيم وكل أنواع الضلالات التي وقعت فيها الأمم السابقة؛ فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيقع لهذه الأمة من الانحراف ما وقع في الأمم السابقة.

وقد صدق ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حيث دخلت الكثير من الضلالات المسيئة لتنزيه الله، والتي حولت الله تعالى إلى وثن من الأوثان، وجرم من الأجرام.

وقد روي أن الإمام الصادق ذكرت له بعض الروايات التجسيمية التي كانت تنتشر في عصره، وخاصة بين المحدثين، فقال: (سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلا هو، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]،لا يحد ولا يحس ولا يجس ولا تدركه الأبصار ولا الحواس ولا يحيط به شئ ولا جسم ولا صورة ولا تخطيط ولا تحديد)([9])

وقال: (إن الله تعالى لا يشبهه شيء، أي فحشٍ أو خنى أعظمُ من قولٍ من يصف خالق الأشياء بجسم أو صورة أو بخلقة أو بتحديد وأعضاء، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)([10])

وقال: (من زعم أن الله في شيء، أو من شيء، أو على شيء فقد أشرك. إذ لو كان على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصورا، ولو كان من شيء لكان محدثا- أي مخلوقا)([11])

ومثله قال الإمام الكاظم لما ذكر له بعض المجسمة ممن يزعمون صحبته: (قاتله الله أما علم أن الجسم محدود والكلام غير المتكلم، معاذ الله وأبرأ إلى الله من هذا القول، لا جسم ولا صورة ولا تحديد وكل شيء سواه مخلوق، إنما تكون الأشياء بإرادته ومشيئته من غير كلام ولا تردد في نفس ولا نطق بلسان)([12])

وهكذا قال الإمام الرضا: (إنه ليس منا من زعم أن الله عز وجل جسم، ونحن منه برآء في الدنيا والآخرة، إن الجسم محدث، والله محدثه ومجسمه)([13])

ولهذا؛ فإن التأمل والتدبر والتفكير وحده كاف في حماية عقلك ـ أيها المريد الصادق ـ من كل تلك التشويهات والتحريفات التي أساءت بها بعض الطوائف من هذه الأمة إلى الله؛ فجعلته جرما كالأجرام وجسما كالأجسام؛ فاحذر أن تسلك سبيلهم، أو أن تسلم عقلك لعقولهم، فهم لا يختلفون عن ذلك العابد الذي حكى الإمام الصادق، والذي راح يشبه الله بنفسه.

وكذلك أولئك الذين انحرفوا عن التنزيه والتقديس الذي جاء به القرآن الكريم، وراحوا ينسبون لله تعالى المكان والأعضاء والحدود والمقادير، مع أن كل ذلك يؤدي إلى الشرك، بل هو الشرك عينه.

وقد روي عن الإمام علي أنه قال: (من زعم أنّ إله الخلق محدود فقد جهل الخالق المعبود) ([14])، وقال: (من حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله) ([15])

وروي أن بعضهم طلب من الإمام الرضا أن يحدّ الله تعالى له، فقال له الإمام: لا حدّ له. قال الرجل: ولم؟ قال الإمام: لأنّ كلّ محدود متناه إلى حدّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة. وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان. فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزئ) ([16])

وإن كنت ترى أن عقلك ـ أيها المريد الصادق ـ أقل من أن يستنبط الحجج الدالة على التنزيه والتقديس، ورأيت أن التشبيه والتجسيم قد غلباك على أمرك، بحيث استحال عليك أن تعقل موجودا ليس له صفات الأجسام، فعليك بكتب المتكلمين، وحججهم، فانظر فيها، واستعن بها، من غير أن تكتفي بما فيها.. فمعرفة الله أعظم من أن تحد بأي حدود، أو تقيد بأي قيود.

تسبيح القلب:

إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ وانسجم عقلك مع تنزيه الله تعالى، وصرت تضحك على تلك العقول التي توهمت أن لله تعالى حدودا ومقادير ومكانا وأعضاء، وغير ذلك؛ فلا تكتف بذلك؛ فالتسبيح والتقديس أعظم من أن يحصر في دوائر الذهن والعقل.

ولذلك؛ فانتقل إلى قلبك، الذي هو محل مشاعرك ومواجيدك وأذواقك؛ فتذوق ذلك المعنى الجليل الذي يدل عليه التسبيح والتقديس، واستشعره بكل كيانك، وامتلئ بالانبهار والدهشة، وأنت تطالع صفحات الكمال الإلهي المنزه عن كل نقص وقصور.

فتسبيح الله الأعظم هو تسبيح قلبك، الذي هو حقيقتك، وليس تسبيح لسانك فقط، والذي ليس سوى جارحة من جوارحك؛ فإياك أن تتوهم اقتصار التسبيح عليه؛ فتظلم نفسك، وتظلم هذه العبادة العظيمة التي اشتغل بها الكون جميعا([17]).

ولذلك يذكر الصادقون في سيرهم إلى الله انبهارهم بتلك المعاني التي تلوح على قلوبهم كل حين، وهم يطالعون قدوسية الله وجلاله، كما عبر عن ذلك الشاعر بقوله:

ومع تفنن واصفيه بحسنه…  يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

وعبر آخر عن ذلك، فقال:

زدني بفرط الحب فيك تحيُّرا… وارحم حشى بلظى هواك تسعَّرَا

وتلك الحيرة والانبهار هي الوحيدة التي تملأ النفس بالطمأنينة والسعادة، ذلك أن النفس لا تستقر عند المحدود المقيد، بل هي تطلب العظمة المطلقة المنزهة عن كل نقص، والتي لا تجدها إلا عند الله.

ولذلك يرتبط ذكر الله بالطمأنينة، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]

وبين آثار الذكر على القلب، فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال: 2]

ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يلجأ للتسبيح حتى يصد تلك الحملات الظالمة التي كانت موجهة إليه، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } [الحجر: 97، 98]

بل إن الله تعالى علق الرضى بالتسبيح، واعتبره وسيلة من وسائله، فقال:{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]

ولهذا يقترن التسبيح بالصبر، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39، 40]، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48، 49]

ومن أسرار ذلك أن الشيطان قد ينفخ في قلب الإنسان حال غفلته، وبسبب البلاء الذي تعرض له، بتلك الوساوس التي تملأ النفس بالكدر، فتتوهم ما يتوهمه الغافلون من أن الكون مؤسس على الظلم والجور والشر، وأنها هي المتحكمة فيه.. ولذلك كان تنزيه الله، تذكيرا لها بالعدالة المطلقة التي لا يشوبها أي ظلم، وبالرحمة المطلقة التي لا تختلط بأي قسوة، وذلك كله مما يعين على الصبر، بل على الرضى.

ولهذا يذكر الله تعالى عن يونس عليه السلام قوله عندما حصل له ذلك البلاء العظيم: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء: 87]

وقد أخبر الله تعالى عن إنقاذه من ذلك البلاء الذي وقع فيه بسبب تسبيحه، فقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، وقال: { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 142 – 144]

وهذا يدل على أن التسبيح ليس وسيلة للتعرف على الله تعالى فقط، وإنما هو حبل ممدود من الله تعالى لعباده، لإنقاذهم من كل ما قد يلم بهم من ألوان المصائب، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له) ([18])

والتسبيح ـ بذلك ـ ليس مجرد ألفاظ تردد، وإنما يمتد أثره للحياة جميعا، فيملأها بالعبودية الصادقة المضمخة بعطر كل القيم الجميلة.

تسبيح الجوارح:

 إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ واندمج عقلك مع قلبك في تسبيح الله، وامتلأت جميع مشاعرك بالتقديس والتعظيم؛ فإن آثار ذلك لا محالة ستسري إلى جوارحك، وتجعلها ممتلئة بالعبودية.

ولذلك كانت الأعمال الصالحة ثمرة من ثمار تسبيح الله، ذلك أن من يعرف الله، وينزهه، يستحيل عليه أن يعصي أمره، أو يتعدى حدوده، أو يقع فيما يقع فيه المغترون من الجمع بين المعاصي والدعاوى.

ذلك أن من ضروريات تسبيح الله معرفة صدقه في وعده ووعيده، وأن كلماته لا تبدل ولا تغير، وأن كل ما جاء به أنبياؤه عليهم السلام حق لا باطل فيه، وواقع لا فرار منه، وذلك ما يدعو إلى الحذر والخشية، وهما المحركان للتقوى والورع، وهما الجامعان لكل الفضائل.

ولذلك كان في تكرار تسبيح الله تذكيرا للنفس بهذه المعاني، حتى لا تحدث نفسها بالآثام الظاهرة والباطنة، وحتى لا تتسرب إليها وساوس الشياطين، وما يدلون به من حبال الغرور.

وقد كان من رحمة الله تعالى بعباده أمره لهم بتسبيحه بألسنتهم، ذلك أن الظاهر يؤثر في الباطن، وما تكرر ذكره على اللسان تقررت حقيقته في القلب.. ولذلك يلجأ العقلاء إلى ما يطيقونه، وهو جوارحهم، ليتحكموا بها في قلوبهم.

ولهذا اقترن الحث على التسبيح في القرآن الكريم بتطهير الله لقلوب عباده، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } [الأحزاب: 41، 42]، ثم بين عاقبة من يلتزم بذلك، فقال: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]

وبما أن الباطن لا يتأثر بالظاهر إلا بتكرره الكثير، مع الاستمرارية والدوام؛ فقد دعا القرآن الكريم إلى التسبيح في كل الأوقات التي يمكن أن يكون له فيها من التأثير ما ليس لغيره.

ومن أهم تلك الأوقات الغدو والآصال، أو حين يبدأ الإنسان يومه، ليبدأ صحبته فيه لله، أو حين يكاد ينهيه، لينشغل فيه بربه، كما قال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } [الشرح: 7، 8]

ومن الآيات الكريمة التي تحث على ذلك، بل تدعو إلى قيام مجالسه في المجتمع، حتى يتنور، وتتنزل عليه بركات الله قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36، 37]، ثم ذكر الجزاء الذي وفره لهم على هذه العبودية؛ فقال: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38]

ومن تلك الأوقات ما حدده الله تعالى مواقيت للصلاة، كما قال تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17، 18]، وهي تشبه مواقيت الصلاة الواردة في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وكأن التسبيح يهيئ النفس للصلاة، أو يجعلها أكثر قابلية لآثارها.

وهكذا نرى اهتمام النصوص المقدسة بصيغ التسبيح، والذي تكفلت به الكثير من الأحاديث النبوية مع بيان أعدادها والجزاء المرتبط بها، ليكون في ذلك الترغيب الشديد في المداومة عليها.

ومن تلك الصيغ [سبحان الله]، أو [سبحان ربي]، وهي من الصيغ المختصرة التي لا ترهق من يريد حفظها أو تكرارها وترديدها، وقد روي في فضلها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل أصحابه: (أيعجز أحدكم أن يكسب، كل يوم ألف حسنة؟)، فقالوا: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: (يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة) ([19])

ومنها [سبحان الله وبحمده]، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر)([20])

وقال في حديث آخر: (من قال: حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، لم يأت أحدٌ يوم القيامة، بأفضل مما جاء به، إلا أحدٌ قال مثل ما قال أو زاد عليه)([21])

ومنها [سبحان الله العظيم وبحمده]، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلةٌ في الجنة) ([22])

ومنها [سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم]، ومما ورد في فضلها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) ([23])

ومنها [سبحان الله والحمد لله]، والتي ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنها (تملأ ما بين السماوات والأرض) ([24])

ومنها [سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر]، والتي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) ([25])

ومنها [سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته]، ومما ورد في فضلها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أنها تعدل وقتا طويلا من الذكر، فقد قال لمن رآه يذكر من بعد صلاة الصبح إلى الضحى: (لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) ([26])

 وهذا من فضل الله العظيم على عباده، ذلك أنه أتاح للمقصرين أن يستدركوا بمثل هذه الصيغ ما قد فاتهم من الفضل، ومما يروى في هذا أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لبعض أصحابه: (ألا أخبرك بأكثر أو أفضل من ذكرك الليل مع النهار، والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق، وسبحان الله ملء ما خلق، وسبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه، وسبحان الله عدد كل شيء، وسبحان الله ملء كل شيء، وتقول الحمد مثل ذلك) ([27])

ومما له علاقة بهذا أنه بينما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي، إذ قال رجلٌ: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من القائل كلمة كذا وكذا؟) قال رجلٌ من القوم: أنا، يا رسول الله، فقال: (عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء)، قال الراوي: (فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ذلك) ([28])

وهذا الحديث يدل على أنه يمكن أن يسبح المؤمن بأي صيغة يخترعها أو ينشئها من عند نفسه، ما لم تكن مصادمة للحقائق الشرعية، وأن ذلك ليس بدعة، لأن الله تعالى أمر بمطلق التسبيح والذكر، ومن غير تحديد أي صيغة.

ولم تكتف الشريعة الحكيمة بالحث على تسبيح الله في تلك المواقيت، وبتلك الصيغ، وإنما أضافت إليها ربطها بالشعائر التعبدية، وخصوصا الصلاة.

ومن تلك الصيغ ما ورد الأمر بقوله عند الركوع والسجود، والتي ذكر الإمام الرضا سرها، فقال: (إنّما جُعل التسبيح في الركوع والسجود ليكون العبد مع خضوعه وخشوعه، وتورّعه واستكانته، وتذلله وتواضعه، وتقرّبه إلى ربّه مقدِّساً له، ممجّداً مسبّحاً، معظماً شاكراً لخالقه ورازقه، وليستعمل التسبيح والتحميد، كما استعمل التكبير والتهليل، وليشغل قلبه وذهنه بذكر الله، فلا يذهب به الفكر والأماني إلى غير الله) ([29])

ومن تلك الصيغ، ما ورد في الحديث أنه لما نزلت { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 74]، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اجعلوها في ركوعكم)، فلما نزلت { سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } [الأعلى: 1] قال: (اجعلوها في سجودكم) ([30])

ومن تلك الصيغ ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) ([31])

 ومنها أنه كان يقول في ركوعه وسجوده (سبوحٌ قدوسٌ، رب الملائكة والروح) ([32])

ومنها أنه قال في ركوعه أو سجوده: (سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت) ([33])

ومنها أنه قال في قيام الليل عند ركوعه: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) ([34])

ومنها قوله إذا سلم في الوتر ثلاثا: (سبحان الملك القدوس) ([35])، وروي أنه كان يقولها عشرا قبل شروعه في صلاة الليل([36]).

ومن المواضع التي ورد الحث على التسبيح فيها، أو التخيير بينها وبين القراءة، ما أجاب به الإمام الباقر من سأله، فقال: (ما يجزي من القول في الركعتين الأخيرتين؟)، قال له الإمام: (أن تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، وتكبر وتركع) ([37])

وعن بعضهم، أنّه صحب الإمام الرضا من المدينة إلى مرو، فكان يسبّح في الأخراوين يقول:(سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، ثلاث مرّات، ثمّ يركع) ([38])

بالإضافة إلى هذا كله لا يكاد يوجد ذكر من الأذكار المرتبطة بالمناسبات المختلفة إلا ويكون التسبيح أحد مكوناته، ومن ذلك ما روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم أوصى به من تعار من الليل، أو أصابه الأرق: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله)، ثم يقول: (اللهم اغفر لي)، وقد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن فضل ذلك، فقال: (فإن دعا استجيب له، وإن توضأ وصلى قبلت صلاته) ([39])

بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسبح عند أي شيء يحصل، وقد حدثت أمّ سلمة قالت: استيقظ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (سبحان الله، ما ذا أنزل من الخزائن، وما ذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجر ـ يريد به أزواجه ـ حتّى يصلّين، ربّ كاسية في الدّنيا عارية في الآخرة)([40])

وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من قول: (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه)، فقلت: يا رسول الله، أراك تكثر من قول (سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه)؟. فقال: (خبّرني ربّي أنّي سأرى علامة في أمّتي، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1](فتح مكّة) {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 2، 3])([41])

هذا جوابي على رسالتك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على هذه الشعيرة العظيمة، والتزم بها؛ فالله تعالى أكرم من أن يترك عبده الذي يسبحه ويقدسه لنفسه الأمارة؛ فكما تسبح الله وتنزهه وتبرئه من كل ما لا يليق به؛ فسيكرمك الله بتنزيهك وتقديسك وإبعاد كل ما لا يليق بك، وبإنسانيتك المكرمة.


([1]) بحار الأنوار، (90/ 167)

([2]) الكافي: 1 / 11.

([3]) الكافي (1/ 15)

([4]) رواه أَحمد (1/ 96 و18 أو 150)، وأبو داود (1427)، والنسائي (3/ 248 – 249)، وابن ماجه (1179)

([5]) إحياء علوم الدين (1/ 293)

([6]) رواه مسلم.

([7]) جشاء: هو تنفس المعدة من الامتلاء.

([8]) مسلم(2835)

([9])  الكافي للكليني1/104.

([10])  الكافي1/105.

([11])  الرسالة القشيرية (ص/ 6).

([12])  الكافي 1/ 106.

([13])  التوحيد للصدوق 104.

([14])   التوحيد، الشيخ الصدوق، ح 34، ص 77.

([15])   نهج البلاغة،، خطبة 152، ص 278 ـ 279.

([16])   التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 36، ح 3، ص 246.

([17]) اتفق العلماء على تقسيم الذكر إلى ذكر القلب واللسان، وعلى أن الأفضل هو الجمع بينهما، وأن ذكر القلب أفضل من ذكر اللسان المجرد، قال ابن حجر: (ثم الذكر يقع تارة باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق: الذكر بالقلب: فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفي النقائص عنه: ازداد كمالا) [فتح الباري (11 / 209)]

([18]) رواه الترمذي.

([19]) رواه مسلم: 2698

([20]) رواه البخاري: 6405، ومسلم: 2691

([21]) رواه مسلم: 2692

([22]) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح غريب: 3464

([23]) رواه البخاري: 6406، ومسلم: 2694

([24]) رواه مسلم: 223

([25]) رواه مسلم: 2695

([26]) رواه مسلم: 2726.

([27]) رواه أحمد: 22144، وابن خزيمة: 754، وابن حبان: 830

([28]) رواه مسلم: 601

([29]) الوسائل ج4 ص924.

([30]) الدارمي (1305)، وأبو يعلى (1738)، وابن خزيمة (600) و(670)

([31]) رواه البخاري: 794، ومسلم: 484

([32]) رواه مسلم: 487

([33]) رواه مسلم: 485

([34]) رواه أبو داود: 873.

([35]) رواه أبو داود: 1430

([36]) رواه أبو داود: 5085

([37]) الوسائل ج4 ص782.

([38]) الوسائل ج4 ص782.

([39]) رواه البخاري، الفتح 3/ 144.

([40]) البخاري [فتح الباري]، 10(6218)

([41]) البخاري [فتح الباري]،(794) مختصرا، ومسلم(484)

د. نور الدين أبو لحية

كاتب، وأستاذ جامعي، له أكثر من مائة كتاب في المجالات الفكرية المختلفة، وهو مهتم خصوصا بمواجهة الفكر المتطرف والعنف والإرهاب، بالإضافة لدعوته لتنقيح التراث، والتقارب بين المذاهب الإسلامية.. وهو من دعاة التواصل الإنساني والحضاري بين الأمم والشعوب.. وقد صاغ كتاباته بطرق مختلفة تنوعت بين العلمية والأكاديمية والأدبية.

You may also like...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *