الذكر الكثير

الذكر الكثير
الذكر الكثير
كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تسألني عن سر ارتباط الصلاة بالذكر، وكونه من مقاصدها العظمى، وسر تلك الأوامر القرآنية الكثيرة التي تحض على الإكثار منه، وتعتبره من صفات عباد الله المخلَصين.. وعن علاقة ذلك كله بالتزكية والترقية.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن الذكر ـ بحسب ما تدل النصوص المقدسة ـ أعظم مدرسة تربوية وروحية منّ الله تعالى بها على عباده؛ فهو لا يكتفي بوصلهم بربهم فقط، وإنما يهذب نفوسهم ويربيها، ويزيل عنها كل رعوناتها وخبثها ومثالبها، ليحل بدلها كل أنواع المكارم والخلال الطيبة.
وكيف لا يكون للذكر ذلك الدور العظيم، وهو تواصل مع الله تعالى، والذاكر بمثابة الزائر لله، الذي لا يخرج من ذكره إلا بأنواع التحف الإلهية، أو هو بمثابة المريض الذي يزور الطبيب الذي يعالج من كل الأدواء؛ فلا يرجع من عنده إلا وهو معافى من كل ما يؤذيه.
وكيف لا يكون له ذلك الدور العظيم، وفيه يغيب الإنسان عن نفسه وعيوبها وأمراضها، ويتصل بربه، ليتلقى منه كل إشعاعات النور والهداية، التي تطهر أرض نفسه من كل أدناسها، لتحرره من كل قيوده التي كانت تحول بينه وبين حقيقته، وبينه وبين ربه؟
وكيف لا يكون له ذلك الدور العظيم، وهو المدرسة التي حض عليها كل الأنبياء والأولياء، ومارسها كل الصديقون، وجربها كل الصالحون، وشهد لها الجميع بأنه لا يتخرج منه إلا من نور الله قلبه بالهداية.
ولذلك كان الذكر ـ مثل النية الخالصة ـ روح الأعمال، بل لا معنى للنية بدونه، ذلك أنها في حقيقتها ليست سوى تذكر لله، وإهداء للأعمال والقربات إليه.
ومثل ذلك كل الأعمال؛ فالقصد منها جميعا التقرب إلى الله، والتعرف عليه، والتواصل معه، والتأدب بين يديه.
ودوره التربوي الإصلاحي يشبه استرخاء المريض على سرير الطبيب الحاذق ليترك له الحرية في أن يعالجه بالطريقة التي يشاء.. ولهذا كلما كان الذاكر أكثر حضورا مع ربه، وكلما أدمن ذلك الحضور، كلما تيسر له التخلص من علله.
ولذلك كان الذكر أسهل المدارس التربوية، وأكثرها ضمانا، ذلك أنه لا يتطلب الكثير من المعارف والعلوم، ولا يحتاج إلى شيء من الجدل والفلسفة، بل يكفي فيه الحضور مع الله، واستشعار وجوده وعظمته وصفاته وكماله، ليكون لكل ذلك تأثيره في الروح والنفس وكل اللطائف.
ولهذا ورد في الحديث أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أبواب الخير كثيرة، ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بما شئت أتشبَّثُ به، ولا تكثر عليَّ فأنسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى)([1])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن سر ذلك التأثير الذي خص الله تعالى به الذكر، فقال: (مَثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثَلُ الحيِّ والميتِ)([2])، وهو يشير إلى أن القائم بأي عمل صالح إن لم يستحضر ذكر الله فيه يكون بمثابة الآلة الجامدة التي تؤدي دورها من دون أن تستفيد منه، ولا أن تكون حاضرة فيه.
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قيمة كل عمل بقدر حضور العامل فيه مع ربه، وذكره له، فقد روي أنه قال مخاطبا أصحابه: (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم) قالوا: بلى يا رسول الله قال: (ذكر الله)([3])
وهذا لا يعني ما يفهمه بعض المقصرين في أداء شعائر الله، والذين يتوهمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث ينسخ كل الشريعة بالذكر، وإنما المراد منها تفضيل الذاكر على الغافل، حتى لو كان ذلك الغافل يمارس كل أنواع الخير.. أما من يذكر الله وهو يمارسها؛ فلا شك في كونه الأفضل، لجمعه بين الحسنيين: العمل الصالح، وذكر الله.
وسر ذلك ـ أيها المريد الصادق ـ يرجع إلى أن الذاكر في حال ذكره في صحبة الله تعالى ومعيته الخاصة، كما ورد ذلك في الحديث القدسي، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملإٍ خيرٍ منهم، وإن تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعًا تقرَّبْت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي أتيتُه هَرولة)([4])
وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم عن صحبة الذاكر للملائكة، وانتشار أنوارها إليه في حال ذكره، فقال: (لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده)([5])
وهذا كله يدعم التأثير الغيبي في التزكية، وهو أهم أنواع التأثير وأسهلها، وأشملها، ذلك أن الذي يتولى تصفية النفس وتربيتها هو خالقها العالم بها.
وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب: 43]؛ فالله تعالى يتولى إصلاح كل من اتصل به، وملأ قلبه بالهداية.
ولذلك أمرنا أن ندعو الله تعالى بذلك في كل صلاة، ففي سورة الفاتحة نردد في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو، فيقول: (اللّهمّ إنّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر. اللّهمّ آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها. أنت وليّها ومولاها اللّهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) ([6])، فأكثر ما ورد في هذا الدعاء مما يرتبط بإصلاح النفس وتهذيبها.
ولذلك لا تتوهم ـ أيها المريد الصادق ـ أنه لا ينال التزكية إلا العلماء الخبراء الذين فتشوا بطون الكتب، ودرسوا في الجامعات، وعند الأساتذة والمشايخ، كلا.. فالله تعالى أرحم بعوام المؤمنين من أن يحرمهم من تهذيب أنفسهم بسبب قلة علومهم، أو عدم تفرغهم.. بل هو يتولى ذلك عنهم.
ولا يشترط لذلك سوى شرط واحد، هو نفس الشرط الذي يشرط على المريض الذي استعصى داؤه.. وهو كثرة التردد على المختصين من الأطباء، واستعمال الأدوية التي ينصحون بها.
ولذلك نجد القرآن الكريم يخص الذكر وحده من بين العبادات جميعا بالدعوة إلى الإكثار منه، ذلك أن تأثيره الحقيقي يكون في ذلك الإكثار، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 41 ]
والربط بين إخراج الله تعالى عباده من الظلمات إلى النور والذكر يدل على أنه من أعظم وسائل التزكية، ذلك أن الذنوب والمعاصي ليست سوى ظلمات تحجب قلب صاحبها عن الحقائق، وعند الذكر تنجلي تلك الظلمات، وتتوضح الحقائق من غير تكلف دليل ولا حجة.
ولهذا يخبر الله تعالى عن قلة ذكر المنافقين لله، وهو يدل على أنه السبب في إصابتهم بمرض النفاق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء: 142]
بل إن الله تعالى يذكر أن الاستفادة الحقيقية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو التربية على يديه، لا تكون إلا للمكثرين من ذكر الله، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]
ولهذا يعتبر الله الذكر الكثير من صفات الصالحين، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]
وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (ما من شيء إلّا وله حدّ ينتهي إليه إلّا الذكر، فليس له حدّ ينتهي إليه، فرض الله عزّ وجلّ الفرائض فمن أدّاهنّ فهو حدّهنّ، وشهر رمضان فمن صامه فهو حدّه، والحجّ فمن حجّ فهو حدّه إلّا الذكر فإنّ الله عزّ وجلّ لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ثمّ تلا هذه الآية:: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 41 ]، وقال: (لم يجعل الله عزّ وجلّ له حدّا ينتهي إليه)
ثم تحدث عن والده الإمام الباقر، فقال: (وكان أبي كثير الذكر، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله، ولقد كان يحدّث القوم وما يشغله ذلك عن ذكر الله، وكنت أرى لسانه لازقا بحنكه يقول: (لا إله إلّا الله) وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر)([7])
ولهذا، فإن القرآن الكريم لا يكتفي بالدعوة إلى الإكثار من الذكر، بل إنه يحض عليه في كل الأوقات والمناسبات.. فيدعو إليه في المعارك وعند اشتدادها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأنفال: 45]
ويدعو إلى التزامه في الصباح والمساء، قال تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ﴾ [طه: 130]، وقال: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ [الروم: 17، 18]
وفي الليل والنهار، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]
وعند الحج وبعده، قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198]، وقال: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 200]، وقال: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [البقرة: 203]
وعند الصلاة وبعدها، قال تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]
ويدعو إلى استعمال كل الهيئات فيه، والتي يتيسر على النفس ممارستها والدوام عليها من غير تكلف، قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 205، 206]
ولذلك يمكن للذاكر أن يذكر الله، من غير أن يحرك شفتيه، ولا أن يتعب أي جارحة من جوارحه، بل يكتفي بحضوره مع ربه، أو ترديده للأذكار في سره.
ولارتباط الذكر بالكثرة، وكون تأثيره مرتبطا بها أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تلك الحسرات التي يجدها الإنسان عند أي ساعة لم يذكر الله تعالى فيها، فقال: (ما من ساعة تَمُرُّ بابن آدم لا يذكر الله تعالى فيها إلا تحسَّر عليها يوم القيامة)([8])
وأخبر عن الحسرة التي يجدها أولئك الذين يقضون أوقاتهم في اللهو واللعب بعيدا عن ذكر الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه؛ إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة)([9])، وفي رواية: (ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلُّوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَةً؛ فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم)([10])
بل ورد في الحديث أن أهل الجنة أنفسهم يندمون على أي لحظة لم يذكروا الله فيها، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّ أهل الجنّة لا يندمون على شيء من أمور الدنيا إلّا على ساعة مرّت بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها)([11])
وسر ذلك ـ كما ورد في أحاديث أخرى ـ أن نعيم الجنة يتشكل من تلك الحروف التي يذكرها الذاكرون، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لقيتُ ليلة أُسري بي إبراهيم الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعانٌ، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)([12])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده؛ غُرست له نخلة في الجنة)([13])
وإياك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تذكر لي ـ تعقيبا على هذه الأحاديث ـ ما يذكره بعضهم من زهده في الجنة، وأن مطلبه الله تعالى؛ فطلبك لله تعالى لا يزهدك في الجنة، بل يجعلك أكثر حرصا عليها.
فهي الدار التي يجتمع فيها الأنبياء والأولياء والمقربون والصالحون.. وتمتلئ جنباتها بالملائكة الذاكرين المسبحين.. فهل يمكن لامرئ أن يزهد في دار تمتلئ بهم، وهي سكن لهم، وهو الذي يسير في الدنيا المسافات الطويلة ليزور مشاهدهم، ويتبرك بآثارهم.. فهل يمكن لمن يتبرك بآثارهم في الدنيا، أن يزهد في الدار التي تجمعه بهم في الآخرة.
ولذلك انظر إلى الجنة بهذا الاعتبار، فهي دار الذاكرين والصالحين، وهي مسجد الله الأعظم الذي تعقد فيه كل ألوان الحلق التي يذكر فيها الله، ويتقرب فيها إليه.. فهل يمكن لأحد يدعي الزهد أن يزهد في مساجد الله، وفي صحبة أولياء الله.
بل إن الزاهد الحقيقي هو الذي لا يكتفي بجنة الآخرة، وإنما يسعى ليحول دنياه إلى جنة بعمارتها بذكر الله، فقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه، فقال لهم: (يا أيها الناس! ارتعوا في رياض الجنة)، فقالوا: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: (مجالس الذكر)، ثم قال: (اغدوا وروحوا واذكروا، فمن كان يجب أن يعلم منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله تعالى عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه)([14])
وكيف لا تكون مجالس الذكر مجالس من الجنة، وهي محفوفة بالملائكة مثل الجنة، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرن الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا)([15])
وكيف لا تكون مجالس الذكر كذلك، والإنسان في حرز من الشيطان ما دام في ذكر الله، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وآمركم أن تذكروا الله تعالى؛ فإن مَثَلَ ذلك مَثَلُ رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى إلى حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله)([16])
وهكذا يظل في حفظ الله ما دام يذكره في أي محل يحل به، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله، وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)([17])
وقال: (من قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له حينئذ: كفيت ووقيت وهديت، وتنحى عنه الشيطان، فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي)([18])
وقال: (من قال في يوم مئة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، كانت له حرزًا من الشيطان حتى يمسي)([19])
وهذه الأحاديث ـ أيها المريد الصادق ـ تشير إلى الدور التربوي للذكر، ذلك أن الذاكر بحضوره مع الله يفر منه الشيطان، وتتوفر له البيئة المناسبة للصلاح، ذلك أن كل الانحرافات التي يقع فيها الإنسان بذور من إلهامات الشياطين.
ولذلك كان فرار الشيطان مشابها لعزل المريض الذي أصيب بأي نوع من أنواع الجراثيم من البيئة التي تسببت له في ذلك، ووضعه في بيئة معقمة تيسر عليه الشفاء.
وهكذا يمكنك أن تفهم من جميع النصوص المقدسة الواردة في فضل الذكر؛ فهي لا تتحدث عن فضل غيبي فقط، وإنما تتحدث عن دور حقيقي تكويني يقوم به في تصفية الإنسان وتطهيره وتزكيته وترقيته، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: { وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]
فالآية الكريمة تربط بين الغفلة عن ذكر الله واتباع الهوى، واختلاط الأمور على صاحبها، باعتبار أن كل ما حصل له كان بسبب غفلته عن الله، كما قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، وقال عن المنافقين: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]
وأخبر عن استحواذ الشيطان على الإنسان بسبب غفلته عن الله، فقال: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]
ولهذا كانت الغفلة عن ذكر الله أعظم أسباب موت القلوب ومرضها وقسوتها، وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السّلام قوله: (يا موسى، لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كلّ حال، فإنّ كثرة المال تنسي الذنوب، وإنّ ترك ذكري يقسي القلوب)([20])، وفي مناجاة أخرى: (يا موسى، لا تنسني على كلّ حال، فإنّ نسياني يميت القلب)
وروي أنه سأل ربّه فقال: يا ربّ، أ قريب أنت منّي فاناجيك أم بعيد فاناديك، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه: يا موسى، أنا جليس من ذكرني، فقال موسى: فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك؟ فقال: الذين يذكرونني فأذكرهم ويتحابّون فيّ فأحبّهم، فأولئك الذين إذا أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم.([21])
وروي أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السّلام: (يا داود، من أحبّ حبيبا صدّق قوله، ومن رضي بحبيب رضى بفعله، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه، ومن اشتاق إلى حبيب جدّ في السير إليه.. يا داود، ذكري للذاكرين، وجنّتي للمطيعين، وحبّي للمشتاقين، وأنا خاصّة للمحبّين.. أهل طاعتي في ضيافتي، وأهل شكري في زيادتي، وأهل ذكري في نعمتي، وأهل معصيتي لا آيسهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن دعوا فأنا مجيبهم، وإن مرضوا فأنا طبيبهم، أداويهم بالمحن والمصائب، ولأطهّرهم من الذنوب والمعايب)([22])
وروي أن لقمان قال لابنه: (يا بنيّ، اختر المجالس على عينك فإن رأيت قوما يذكرون الله جلّ وعزّ فاجلس معهم، فإن تكن عالما نفعك علمك، وإن تكن جاهلا علّموك، ولعلّ الله أن يظلّهم برحمته فيعمّك معهم، وإذا رأيت قوما لا يذكرون الله فلا تجلس معهم، فإن تكن عالما لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلا يزيدوك جهلا، ولعلّ الله أن يظلّهم بعقوبة فيعمّك معهم)([23])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الذكر أعظم من أن يختصر فيما اصطلح عليه لقب [الأذكار]، مما يردد في الصباح والمساء، أو في الأحوال المختلفة، وإنما هو شامل لكل ما يذكرك بربك، وبأسمائه الحسنى، سواء كان آيات من القرآن الكريم، أو أدعية أو مناجاة أو ما اصطلح عليه بلقب الذكر، سواء مما ورد النص على صيغته، أو لم يرد، حتى لو كانت أشعارا منظومة، أو كلمات منثورة، بل حتى لو كانت أناشيد تلحن بأصوات عذبة، وتنفعل النفس معها مثلما تنفعل مع الأذكار.
لكن الشريعة الحكيمة مع إتاحتها الفرصة للنفس أن تستعمل من الصيغ ما تشاء من الأذكار التي تتناسب مع حاجاتها، وبالأساليب التي ترغب فيها، وضعت الكثير من الصيغ المختصرة اليسيرة التي تلبي جميع الحاجات، وبأصح الطرق، وأجمل الأساليب.. فاهتم بالبحث عنها، وعن أسرارها، والتزم بها؛ فهي أدوية ربك الأصلية التي تعالجك، وتصلح كل عطب يحصل لك.
ومثلما كانت الأدوية عامة تستعمل في كل الأوقات، ولكل الحاجات، ومنها ما هو خاص بمناسبات معينة؛ فكذلك أدوية الأذكار، منها ما ورد الحث على الإكثار منه، وفي كل المناسبات، ومنها ما خصت به مناسبات معينة، والهدف منها جميعا تربية النفس وتهذيبها والسمو بها.
الأذكار العامة:
أما الأذكار العامة ـ أيها المريد الصادق ـ فهي تلك الأذكار التي ورد الحث على آحادها من دون تحديد مناسبات خاصة بها، أو حددت لها بعض المناسبات، لكنها ليست على سبيل الحصر.
ومن الأمثلة عنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي ذر: (ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟)، ثم قال له: (إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده)([24])
فهذه الصيغة التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حب الله لها، والتي لم تقيد بمناسبة خاصة من الأذكار العامة، وهي تجمع كل ما يحتاجه العارف من معرفة الله.. فـ (سبحان الله) تعني تنزيهه عن كل ما لا يليق به.. والمريد السالك هو الذي يبدأ فينزه الله عن كل ما لا يليق به، فلا يمكن أن يتحقق بمعرفة الله من يحمل في وعيه بذور التشبيه والشرك التي تدنس محل الإيمان من قلبه.. و(الحمد لله) إثبات الكمالات لله بشمولها وتمامها.. فلا يمكن أن يعرف الله من لا يعرف كماله.
ومنها ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس)([25])
وروي أن ناسا قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله ذهب أهل الدثور([26]) بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة)([27])
وهذه الصيغة المركبة من أربعة مفردات تحمل الكثير من الحقائق؛ فـ [سبحان الله]، تعني تنزيه الله عما لا يليق به، ولا يعرف الله من لم ينزهه.. و[الحمد لله] ثناء على الله، ولا يعرف الله من لم يدرك أنه لا يستحق أحد ثناء غيره، فكل خير من الله وبالله.. و[لا إله إلا الله] توحيد لله، ولا يعرف الله من لا يعلم أنه لا خالق ولا رازق ولا مدبر ولا حاكم ولا معبود ولا من اكتمل له الوجود إلا الله.. و[الله أكبر] تعظيم لله، ولا يعرف الله من لم يعتقد أن الله أكبر من أن يدرك، وأكبر من أن يعرف، وأكبر من أن يحاط به.. ولذلك لا تطلب همة العارف العالية إلا الله.. ومن ترك الأكبر ونزل إلى الأصغر انحدر إلى أسفل سافلين.
ومنها ما علمه صلى الله عليه وآله وسلم لبعض أصحابه عندما قال له: علمني كلاما أقوله؟ قال: قل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم)، قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟ قال: قل: (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني)([28])
وقد جمعت هذه الكلمات الطيبات كل المعارف؛ فمن عرف وحدانية الله وعظمته؛ فأثنى عليه، ونزهه، واستعاذ من حول نفسه وقوته ليعتمد على حول الله وقوته، فقد اكتملت معرفته.
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)([29])، وقوله: (ما على الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كفرت عنه خطاياه، ولو كانت مثل زبد البحر)([30])
وهذه الوصفة المعرفية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصل بين التنزيه والتعظيم والتوكل.. فلا يتوكل على الله إلا من وثق فيه.. ولا يثق فيه إلا من عرف عظمته.. ولا يعرف عظمته إلا من جمع في معرفته بين التنزيه والتعظيم، ولم ينحجب بإحداهما عن الأخرى.
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك)([31])
وقد اعتبر الحكماء هذا الذكر خصوصا مفتاح التوكل على الله.. ذلك أن التوكل ينبني على التوحيد الذى يترجمه (لا إله إلا الله وحده لا شريك له).. والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها (له الملك).. والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليها (وله الحمد).. فمن قال (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل.
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)([32])
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (قل: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة)([33])، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة)([34])
وهكذا اشتملت هذه الأذكار على كل ما يملأ العقل والقلب بكل أصناف المعارف التي يحتاجها، وفي جمل قصيرة يسيرة لذيذة، تحمل من روعة البيان ما ينسجم مع معانيها الرفيعة.
وهذا يريك ـ أيها المريد الصادق ـ مدى بعد أولئك الذين نفرت نفوسهم من تلك الأذكار النبوية، وراحوا يضعون من عندهم أنفسهم أذكارا مملوءة بالألغاز والشطحات التي قد يتفوه بها من يدرك معانيها ومن لا يدرك، بخلاف التعابير النبوية الواضحة التي ينهل منها الخواص والعوام كل بحسب طاقته، وبحسب همته.. فالماء واحد.. والشارب متعدد.
الأذكار الخاصة:
أما الأذكار الخاصة ـ أيها المريد الصادق ـ فتشمل نوعين من الأذكار؛ أولها تلك الأذكار التي تستعمل لحاجات خاصة؛ فمن غلب عليه التشبيه أكثر من التسبيح.. ومن غلب عليه الشرك أكثر من التهليل.. ومن أراد أن يملأ قلبه بعظمة الله أكثر من التكبير.. ومن أراد أن يملأه بفضل الله عليه وعلى كل شيء أكثر من الحمد.. ومن أراد أن يحصل كل ذلك جمع كل ذلك.. ومن أراد غير ذلك وجد في الأذكار النبوية ما يشفي غليله، ويسد حاجته.
ومن الأمثلة عنها ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: (عجبت لمن فزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع: عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [آل عمران: 173]، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174]، وعجبت لمَن اغتم كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، وعجبت لمن مُكر به كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: {َأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45]، وعجبت لمن أراد الدُّنيا وزينتها كيف لا يفزع إلى قوله: { مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، فإني سمعت الله عزّ وجلّ يقول بعقبها: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ } [الكهف: 39، 40]، وعسى موجبة) ([35])
ومثلها ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (شكا آدم إلى الله عزّ وجلّ ما يلقى من حديث النفس والحزن، فنزل عليه جبريل، فقال له: يا آدم، قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالها، فذهب عنه الوسوسة والحزن) ([36])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن تظاهرت عليه النعم فليقل: الحمد لله رب العالمين، ومَن ألحّ عليه الفقر فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنه كنز من كنوز الجنة، وفيه شفاء من اثنين وسبعين داء، أدناها الهمُّ) ([37])
وغيرها من الأذكار الكثيرة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأئمة الهدى، والتي يمكن استعمالها بحسب الأحوال المختلفة.
أما النوع الثاني من الأذكار الخاصة؛ فهي تلك التي تردد في الأوقات والمناسبات المختلفة، مثل تلك التي دعا إليها قوله تعالى:﴿ وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الأحزاب:42)، وقوله:﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾ (قّ:39)
ومنها ما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء)([38])
ومنها ما رغب فيه بقوله: (من قال حين يصبح وحين يمسي (سبحان الله وبحمده) مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه)([39])
وغيرها من الأذكار التي قد أحدثك عنها، وعن أسرار معانيها
في رسائل لاحقة.. فالتزم ـ أيها المريد الصادق ـ بهذه الهدايا الإلهية التي توفر
لك أقصر الطرق لإصلاح نفسك وتهذيبها، لتصبح أهلا للقاء ربك، والسعادة بجواره، فلا
طمأنينة إلا بذلك، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]
([1])الترمذي (3435-تحفة)، وابن ماجه (2793)، والحاكم (1/495)
([2]) البخاري (11/212-فتح)، ومسلم (6/68-نووي)
([3]) الترمذي، رقم 3377 وابن ماجه، رقم 3780.
([4]) البخاري (13/521-فتح)، ومسلم (17/2-3 و 11 و 12 )
([5]) مسلم، برقم 2700.
([6]) رواه مسلم.
([7]) الكافي ج 2 ص 361 .
([8]) أبو نُعيم في الحلية (5/361 – 362)، والبيهقي في شعب الإيمان.
([9]) أبو داود (4855)، وأحمد (2/389 و 494 و 527)، والحاكم (1/ 492)
([10]) الترمذي (3440 – تحفة)، وأحمد (2/446 و 453 و 481 و 495)، والحاكم (1/496)
([11]) لئالى الأخبار ج 1 ص 14
([12]) الترمذي (3462) وحسنه.
([13]) الترمذي (3464)
([14]) الحاكم (1/671 رقم 1820)
([15]) البخاري (11/ 212 – فتح)، ومسلم (17/14 – 15 – نووي)
([16])الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
([17]) رواه مسلم رقم 2018.
([18]) الترمذي رقم 3429، وابن ماجه برقم 3886.
([19]) البخاري (3293) و (6403) ، ومسلم (2691)
([20]) الكافي ج 2 ص 360 ح 7
([21]) الكافي ج 2 ص 360 ح 4
([22]) عدّة الداعي ص 237.
([23]) الكافي ج 1 ص 30 .
([24]) رواه مسلم.
([25]) رواه مسلم.
([26]) الدثور: جمع دثر، وهو المال الكثير.
([27]) رواه مسلم.
([28]) رواه مسلم، وفي حديث آخر قريب منه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلمفقال: إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا، فعلمني ما يجزئني منه، قال: (قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، قال: يا رسول الله، هذا لله عز وجل، فما لي؟ قال: (قل: اللهم ارحمني وارزقني وعافني واهدني)، فلما قام قال هكذا بيده، فقال رسول الله r: (أما هذا فقد ملأ يده من الخير) رواه أبو داود.
([29]) رواه الترمذي.
([30]) رواه أحمد والترمذي.
([31]) رواه البخاري ومسلم.
([32]) رواه البخاري ومسلم.
([33]) رواه البخاري ومسلم.
([34]) رواه أحمد.
([35]) الخصال 1/103
([36]) أمالي الصدوق ص324
([37]) أمالي الصدوق ص332
([38]) رواه الترمذي.
([39]) رواه مسلم.