النية الخالصة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تخبرني عن فهمك العام لمناهج السير والسلوك إلى الله تعالى من خلال قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، واستيعابها لكل فروع المناهج ومدارسها مع كثرتها.
وقد طلبت مني أن أفصل لك الحديث في النية باعتبارها أول ركن من أركان الصلاة، وكيف يمكن أن تتحول إلى مدرسة تربوية، تهذب النفس وتزكيها، وتعرج بها وترقيها، وعن علاقة ذلك بالصبر والمصابرة والمجاهدة.
وجوابا على سؤالك الوجيه أذكر لك أن النية ليست مجرد ركن من أركان الصلاة، أو ركن من أركان أي عمل صالح، بل هي في حد ذاتها مدرسة للتزكية؛ فلا يمكن أن تنطلق التزكية ولا التربية ولا الترقية من دون أن تتوفر النية الداعية لذلك كله.
ذلك أنها الواسطة بين العلم والعمل، (إذ ما لم يعلم أمر لم يقصد، وما لم يقصد لم يفعل، فالعلم مقدم على النية وشرطها، والعمل ثمرتها وفرعها، إذ كل فعل وعمل يصدر عن فاعل مختار، فإنه لا يتم إلا بعلم وشوق وإرادة وقدرة) ([1])
ولذلك كان الاهتمام بها وبتصحيحها أولى من كل الأعمال؛ فرب أعمال كثيرة، وجهود عظيمة، تفتقر إلى النية الصالحة الخالصة؛ فتتحول إلى هباء منثور لا يغني صاحبها شيئا، كما قال تعالى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]
بل إنها قد تنتقل من الطاعة إلى المعصية، وينتقل الجزاء المرتبط بها من سجل الحسنات إلى سجل السيئات، وينتقل محل صاحبها من الجنة إلى النار، مع أن العمل واحد، لكن الدافع الذي دفع إليه هو الذي تسبب في ذلك التحول العظيم العميق.
ولهذا أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن (الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)([2])
وذكر الإمام الصادق سر خلود أهل الجنة والنار في المنازل التي أعدت لهما، وعلاقة ذلك بالنية، فقال: (إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدّنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله تعالى أبدا، وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدّنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا؛ فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء ثمّ تلا قوله تعالى: { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84]، يعني على نيّته)([3])
بل ورد في الحديث أن مراتب الناس في الآخرة، لا تتحدد بالأعمال فقط، وإنما بالنيات أيضا، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّما الدّنيا لأربعة نفر، عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتّقي فيه ربّه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النّيّة. يقول: لو أنّ لي مالا لعملت بعمل فلان فهو نيّته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتّقي فيه ربّه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقّا، فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أنّ لي مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيّته، فوزرهما سواء)([4])
وقد روي في أخبار الأنبياء عليهم السلام أنّ رجلا مرّ بكثبان رمل في مجاعة فقال في نفسه، وهو صادق في قوله: (لو كان هذا الرّمل طعاما لقسّمته بين الناس)، فأوحى الله تعالى إلى نبيّهم أن قل له: (إنّ الله قد قبل صدقتك وشكر حسن نيّتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدّقت به)
فهذا الرجل، وأولئك النفر الذين ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نالوا أجورهم وطهروا نفوسهم من غير أعمال عملوها، إلا النية الصالحة الصادقة، التي نظر الله إليها، وأعطاهم جزاءها.
وسر ذلك يعود إلى أن النية هي روح العمل، والمقصد الأول منه، كما قال الله تعالى في الأضاحي والهدي: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]
ولذلك كان سبب نجاح إبراهيم عليه السلام في الامتحان الذي امتحن فيه نيته الصادقة الخالصة لله، ولذلك بمجرد أن نجح في ذلك الاختبار الصعب، نهي عن تطبيقه عمليا؛ قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [الصافات: 103 – 107]
ولهذا ورد في النصوص المقدسة ما يدل على خسران أولئك الذين راعوا الأعمال وكثرتها، ولم يراعوا النيات وصدقها، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إنّ العبد ليعمل أعمالا حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختتمة فتلقى بين يدي الله عزّ وجلّ فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنّه لم يرد بما فيها وجهي، ثمّ ينادي الملائكة اكتبوا له كذا وكذا فتقولون يا ربّنا إنّه لم يعمل شيئا من ذلك، فيقول: إنّه نواه إنّه نواه)([5])
وهكذا في الجهاد، والذي يمثل أشق الأعمال، وأكثرها بذلا وتضحية، ومع ذلك، فإن جزاءه بقدر النية فيه، فقد ينال أجور المجاهدين من لم يبذل أي جهد سوى نيته الطيبة الصالحة الصادقة، كما روي في الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال في غزوة تبوك: (إن بالمدينة لقوما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم فيه)، قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟ قال: (وهم بالمدينة حبسهم العذر) ([6])
وهؤلاء الصادقون الذين ظفروا بنيات المجاهدين، ولو لم يحضروا معهم هم الذين أشار إليهم قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91، 92]
في نفس الوقت الذي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: (من غزا وهو لا ينوي إلّا عقالا فله ما نوى)([7])، وقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (استعنت برجل ليغزو معي، فقال: لا حتّى تجعل لي جعلا فجعلت له، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (ليس له من دنياه وآخرته إلّا ما جعلت له)([8])
وروي أن رجلا قتل في بعض المعارك، وكان يظن أنه قتل في سبيل الله، لكنه عرفوا أنه قتل في سبيل الحمار، حتى صار يدعى [قتيل الحمار] لأنّه قاتل رجلا ليأخذ سلبه وحماره فقتل على ذلك([9]).
ولهذا ورد في الأحاديث والآثار ما يدل على أن النية خير من العمل([10])، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (نية المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نيته؛ فإذا عمل المؤمن عملا ثار في قلبه نور) ([11])
وقد سئل الإمام الصادق عن معناها، فقال: (لأنّ العمل ربما كان رياء للمخلوقين، والنيّة خالصة لربّ العالمين، فيعطي عزّ وجلّ على النيّة ما لا يعطي على العمل) ([12])
ومما يروى في هذا أن بعض المريدين كان يطوف على العلماء، ويقول: (من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى؛ فإني لا أحب أن تأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله تعالى)، فقال له بعض الحكماء: (أنت قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهم بعمله، إذ من هم بعمل الخير كمن يعمل به)
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن أول ما على السائر في طريق الله أن يتدرب عليه، تصحيح نيته، وتنميتها وإصلاحها؛ فلا يمكن أن يطهر نفسه من دون ذلك.
ذلك أن النية هي التي تحدد أهداف الأعمال وغاياتها، وهي التي تحميها من كل وساوس الشيطان التي تعرض لها، وهي التي تدفع إلى الإتقان والإحسان، وتحمي العمل من كل الثغرات التي قد تعرض له.
أعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أنك ستذكر لي أن النية ليست من قبيل الأعمال الاختيارية التي يمكن لصاحبها أن يتحكم في فعلها أو عدم فعلها، بل هي من الأعمال الوجدانية التي لا يستطيع أن يتحكم فيها؛ فلذلك لا يمكن للجائع أن يقول شبعت، ولا للكسول أن يكتفي بقوله قمت..
وجوابا على سؤالك أذكر لك أن النية ـ وإن كانت من الأعمال الوجدانية ـ إلا أنه يمكن توجيهها ببعض المعارف والعلوم والتدريبات والمجاهدات إلى أن يصبح في الإمكان التحكم فيها.
وسر تلك المعارف والتدريبات يعود إلى أن النية، باعتبارها الباعث الذي يبعث على العمل، يرجع لأهواء النفس؛ فإن كان هوى النفس في السمعة والشهرة والجاه العريض، وهي شهوات النفس الأمارة، كانت النية رياء محضا، ولم يكن فيها أدنى صدق أو إخلاص..
وإن كان صاحبها يحمل مع تلك النية بعض الإيمان باليوم الآخر، والجزاء المعد على الأعمال الصالحة فيها، تكون نيته مشوبة بين تحقيق غرضه الدنيوي، وغرضه الأخروي.
وإن كان صاحبها صاحب نفس مطمئنة، متجرد الهوى للآخرة، لا يطلب غيرها، ولا يطلب غير وجه ربه؛ فإن عمله سيكون خالصا لله تعالى، وبحسب درجة إخلاصه تكون مرتبة عمله.
ولذلك كان الطريق إلى تصحيح النية، وتحقيق الإخلاص فيها، تنمية البواعث الإيمانية حتى تتجرد النفس لها، وتتخلص من كل الشوائب التي تفسد أعمالها.
ولهذا ورد في النصوص المقدسة ما ينمي تلك البواعث الطيبة، ويحققها في النفس لتتجرد للحق، ويخلص عملها من كل الشوائب التي تكدره.
وبناء على طلبك ـ أيها المريد الصادق ـ في شرح كيفية التحقق بالنية الصالحة أذكر لك البواعث التي يمكنك بالتأمل فيها ـ قبل القيام بأي عمل ـ أن تجرد نيتك من كل ما يفسدها، لتتعلم الإخلاص والصدق من خلالها.
وقبل أن أذكر لك ذلك، أضرب لك مثالا يقرب لك الحقيقة، فالأمثال جند الله التي تُوضح بها الحقائق، وتقرب بها المعاني.
وينطلق هذا المثال من حقيقة الدنيا، وكونها سوقا للأعمال، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر: 29، 30]
ولذلك توهم نفسك ـ أيها المريد الصادق ـ في سوق عظمية قد اجتمع فيها المخلصون والمراؤون:
أما المخلصون؛ فلا يبيعون أعمالهم إلا لمن يدفع لهم أضعاف الأجور التي يستحقونها، ثم لا يكتفون بذلك، بل يضيفون إليها كل ألوان التكريم والثناء والشكر.. في نفس الوقت الذي يكون فيه أولئك التجار الذي اشتروا منهم بضاعتهم ممتلئين بكل أنواع الكرم والسماحة واللطف، ويعدونهم بكل ألوان الإكرام في حال زيارتهم لهم.
أما المراؤون؛ فيبيعون أعمالهم للعوام والدهماء البسطاء الذين لا يغنون عنهم شيئا، في نفس الوقت الذي يكتفون فيه من أجورهم بنظرة استحسان يلقونها، ثم ينصرفون عنهم، وكأنهم لم يقدموا لهم شيئا.
فهذا المثال ـ أيها المريد الصادق ـ يقرب لك حال المخلصين والمرائين في سوق التجارة الذي أقامه الله لعباده؛ وهي لا تمثل الحقيقة، ولا ما هو أدنى منها، ذلك أن الأجور التي يلقاها المخلصون لا يمكن وصفها، والحسرة والندامة والآلام التي تعتري المرائين لا يمكن تحديدها، لأنها ليست مرتبطة بالدنيا فقط، وإنما تظل تبعاتهم تلحقهم في كل المحال في الدنيا والآخرة.
وخلاصة البواعث الطيبة التي تحول النية من الفساد إلى الصلاح يمكن اختصارها في باعثين، كلاهما وردت به النصوص المقدسة، أحدهما يتعلق بتحصين الأعمال حتى لا يدب فيروس الرياء، فيفسدها، وثانيهما، تحصيل الأجور ومضاعفتها باستعمال إكسير النية الخالصة.
النية والتحصين:
فأول ما ينفرك عن النية السيئة، ويدفعك إلى النية الخالصة ـ أيها المريد الصادق ـ علمك بأن كل أعمالك الصالحة محفوظة في صندوق النية، فإن كانت لله، حفظت، ولم تمسها يد اللصوص، ولقيت أجورها كاملة يوم القيامة، أو قد تعجل لك بعض أجورها في الدنيا شكرا من الله تعالى.
وإن أنت لم تحفظها، ورحت تسارع إلى إظهارها والفرح بذلك، لتنال حظوظك الدنيوية بسببها من الشهرة والصيت والسمعة، وما قد يتبعها من المال والثراء؛ فإنك بذلك تكون قد بعتها أو عرضتها للصوص في الدنيا، ولن تجد لها أي جزاء في الآخرة، بل قد تجد العقوبة على استعمالك الدين في طلب الدنيا، وتوسلك بالخالق في طلب الخلق.
وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ([13])
وروي عن الإمام الصادق أنّه قال لعبّاد بن كثير البصريّ: (ويلك يا عبّاد إيّاك والرّياء؛ فإنّه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له)([14])، وقال: (كلّ رياء شرك، إنّه من عمل للناس كان ثوابه على الناس ومن عمل لله كان ثوابه على الله)([15])
وقال في قوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } [الكهف: 110]: (الرّجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنّما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمّع به الناس فهذا الّذي أشرك بعبادة ربّه)، ثمّ قال: (ما من عبد أسرّ خيرا فذهبت الأيّام أبدا حتّى يظهر الله له خيرا، وما من عبد يسرّ شرّا فذهبت الأيّام أبدا حتّى يظهر الله له شرّا)([16])
وما ذكره الإمام الصادق يشير إلى أن من العقوبات التي يسلطها الله على المرائين أن يسلب منهم ذلك الفرح الهزيل البسيط الذي باعوا به رضوان الله؛ فسيتبدل به ألما وحزنا في الدنيا قبل الآخرة، ذلك أن أولئك الذين قصدوهم بالأعمال سيرتدون عليهم، ويتحولون من حبهم إلى بغضهم، ومثل ذلك في الآخرة، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]
ومما يروى في هذا أن بعضهم رؤي في المنام فقيل له: كيف وجدت أعمالك؟ فقال: (كل شيء عملته لله وجدته، حتى حبة رمان لقطتها من طريق، وحتى هرة ماتت لنا رأيتها في كفة الحسنات، وكان في قلنسوتي خيط من حرير فرأيته في كفة السيئات، وكان قد نفق حمار لي قيمته مائة دينار فما رأيت له ثوابا، فقلت: موت سنور في كفة الحسنات، وموت حمار ليس فيها! فقيل لي: إنه قد وجه حيث بعثت به، فإنه لما قيل لك قد مات، قلت: في لعنة الله، فبطل أجرك فيه، ولو قلت: في سبيل الله، لوجدته في حسناتك، وكنت قد تصدقت بصدقة بين الناس فأعجبني نظرهم إلي، فوجدت ذلك لا علي ولا لي)
والتحصين المرتبط بالعمل ـ أيها المريد الصادق ـ لا يرتبط بحفظ أجوره فقط، بل يتعلق بكل جوانبه، حتى ذلك المدد الإلهي الذي يمد الله به عباده، متوقف على نياتهم وصدقهم وإخلاصهم؛ فإن كانوا صادقين مع الله ظل المدد ساريا فيهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وإن زال صدقهم أو اختلط بغيره رفع عنهم المدد.
وقد روي في هذا أنّ عابدا كان يعبد الله دهرا طويلا، فجاءه قوم فقالوا: إن ها هنا قوما يعبدون شجرة من دون الله تعالى، فغضب لذلك، وأخذ فأسه على عاتقه، وقصد الشجرة ليقطعها. فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال: أين تريد رحمك الله؟ قال: أريد أن أقطع هذه الشجرة. قال: وما أنت وذاك؟ تركت عبادتك واشتغالك بنفسك وتفرعت لغير ذلك. فقال: إن هذا من عبادتي. قال: فإني لا أتركك أن تقطعها. فقاتله، فأخذه العابد فطرحه إلى الأرض، وقعد على صدره. فقال له إبليس: أطلقني حتى أكلمك، فقام عنه، فقال له إبليس: يا هذا إن الله قد أسقط عنك هذا ولم يفرضه عليك، وما تعبدها أنت، وما عليك من غيرك ولله تعالى أنبياء في أقاليم الأرض، ولو شاء لبعثهم إلى أهلها، وأمرهم بقطعها. فقال العابد: لا بد لي من قطعها. فنابذه للقتال. فغلبه العابد وصرعه، وقعد على صدره، فعجز إبليس، فقال له: هل لك في أمر فصل بيني وبينك، وهو خير لك وأنفع؟ قال العابد: وما هو؟ قال: أطلقني حتى أقول لك. فأطلقه، فقال إبليس: أنت رجل فقير لا شيء لك، إنما أنت كل الناس يعولونك، ولعلك تحب أن تتفضل على إخوانك، وتواسي جيرانك، وتشبع وتستغني عن الناس. قال: نعم. قال: فارجع عن هذا الأمر، ولك علي أن أجعل عند رأسك في كل ليلة دينارين، إذا أصبحت أخذتهما فأنفقت على نفسك وعيالك، وتصدقت على إخوانك، فيكون ذلك أنفع لك وللمسلمين من قطع هذه الشجرة التي يغرس مكانها، ولا يضرهم قطعها شيئا، ولا ينفع إخوانك المؤمنين قطعك إياها. فتفكر العابد فيما قال، وقال: صدق الشيخ، لست بنبي فيلزمني قطع هذه الشجرة ولا أمرني الله أن أقطعها فأكون عاصيا بتركها، وما ذكره أكثر منفعة. فعاهده على الوفاء بذلك، وحلف له. فرجع العابد إلى متعبده فبات، فلما أصبح رأى دينارين عند رأسه، فأخذهما، وكذلك الغد، ثم أصبح اليوم الثالث وما بعده فلم ير شيئا، فغضب وأخذ فأسه على عاتقه، فاستقبله إبليس في صورة شيخ فقال له: إلى أين؟ قال: أقطع تلك الشجرة. فقال: كذبت والله، ما أنت بقادر على ذلك، ولا سبيل لك إليها، فتناوله العابد ليفعل به كما فعل أول مرة، فقال: هيهات، فأخذه إبليس وصرعه، فإذا هو كالعصفور بين رجليه، وقعد إبليس على صدره وقال: لتنتهين عن هذا الأمر أو لأذبحنك. فنظر العابد، فإذا لا طاقة له به، قال: يا هذا غلبتني فخل عني، وأخبرني كيف غلبتك أولا وغلبتني الآن؟ فقال: لأنك غضبت أول مرة لله، وكانت نيتك الآخرة، فسخرني الله لك. وهذه المرة غضبت لنفسك وللدنيا، فصرعتك([17]).
فتأمل ـ أيها المريد الصادق ـ في هذه الحكاية، ولا يهمك أن تكون صحيحة ثابتة أو ملفقة مزورة، فالحقائق كلها تدل عليها، ولذلك احرص على إخلاص النية، ولو في العمل القليل؛ فذلك أجدى لك، وأكثر بركة من العمل الكثير الذي يخلو من الإخلاص، ويخلو معه من المدد الإلهي.
النية والتحصيل:
لا يقتصر النية الخالصة على تحصين الأعمال وحفظها من أن تدب إليها الأهواء، فتفسدها، وإنما لها دور كبير في تحصيل الأجور ومضاعفتها، حتى أنها تحول المباحات إلى طاعات، وبذلك يمكن أن يصبح نومك وأكلك وشربك وكل تصرفاتك التي ترغب فيها نفسك إلى طاعة لله تعالى إذا ما تعلمت كيف تؤدي حق النية الصالحة فيها.
وذلك لا يعني ـ أيها المريد الصادق ـ ما قد يتبادر إلى الذهن من خلو الأجور من التأثير في النفس وتطهيرها وترقيتها، وارتباطها فقط بالجزاء الأخروي، فذلك غير صحيح، فلكل حسنة تجليات مختلفة منها ما يظهر في الآخرة بصورة النعيم المقيم، ومنها ما يظهر في الدنيا بصورة الطهارة والطيبة التي تمتلئ بها النفس حتى تصبح حياتها كلها بالله ولله، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 162، 163]
ولهذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالاستفادة من هذه الهدية الإلهية التي ننال بها الأجور من غير تعب ولا مشقة، فقال ـ في وصيته لأبي ذر ـ: (يا أبا ذرّ، ليكن لك في كلّ شيء نيّة، حتّى في النوم والأكل)([18])
ولذلك كان الصالحون يتوقفون قبل القيام بأي عمل انتظارا للنية الصالحة فيه، حتى يكون قربة لهم عند الله تعالى، وقد روي عن بعضهم أنه إذا سئل عن أي عمل من أعمال البر يقول: (إن رزقني الله تعالى نية فعلت)
وقد ضرب بعض الحكماء على إمكانية مضاعفة الأجور بتكثير النيات الصالحة بالقعود في المسجد، والتي يمكنها أن تحوله من مجرد قعود لا يُقصد به سوى الراحة إلى قعود تنال به الأجور العظيمة، فذكر منها أن يعتقد أنه قاعد ببيت الله، وأن داخله زائر الله، فيقصد به زيارة مولاه، رجاء لما وعده به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (من قعد في المسجد فقد زار الله تعالى، وحق على المزور إكرام زائره) ([19])
ومنها أن ينوي انتظار الصلاة بعد الصلاة، فيكون في جملة انتظاره في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدّرجات؟) قالوا: بلى يا رسول الله!. قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة. فذلكم الرّباط)([20])
ومنها أن ينوي التفرغ للتأمل والتفكر والتدبر، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تفكر ساعة خير من قيام ليلة) ([21])، وقال: (تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة) ([22])
ومنها نية التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره، وللتذكر به، أو يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر، أو يستفيد أخا في الله.. وغيرها كثير.
وقد أشار الإمام علي إلى كل ذلك وغيره، فقال: (من اختلف إلى المسجد أصاب إحدى الثمان: أخا مستفادا في الله، أو علما مستطرفا، أو آية محكمة، أو يسمع كلمة تدلّه على هدى، أو كلمة تردّه عن ردى، أو رحمة منتظرة، أو يترك ذنبا خشية أو حياء)([23])
وهكذا يمكن أن تتحول المباحات إلى طاعات بالنية الطيبة، ومن الأمثلة التي ذكرها بعض الحكماء على ذلك التعطر والتطيب، والذي هو حظ من حظوظ النفس، فقد قال: (اعلم أن من يتطيب مثلا يوم الجمعة، وفي سائر الأوقات، يتصور أن يقصد التنعم بلذات الدنيا، أو يقصد به إظهار التفاخر بكثرة المال ليحسده الأقران، أو يقصد به رياء الخلق ليقوم له الجاه في قلوبهم ويذكر بطيب الرائحة، أو ليتودد به إلى قلوب النساء الأجنبيات إذا كان مستحلا للنظر إليهن، ولأمور أخر لا تحصى.. وكل هذا يجعل التطيب معصية، فبذلك يكون أنتن من الجيفة في القيامة، إلا القصد الأول وهو التلذذ والتنعم، فإن ذلك ليس بمعصية، إلا أنه يسأل عنه. ومن نوقش الحساب عذب، ومن أتى شيئا من مباح الدنيا لم يعذب عليه في الآخرة، ولكن ينقص من نعيم الآخرة له بقدره، وناهيك خسرانا بأن يستعجل ما يفنى، ويخسر زيادة نعيم لا يفنى)([24])
ثم ذكر بعض النيات الحسنة التي يمكن أن تحول من ذلك الغرض النفسي إلى طاعة، ومنها أن ينوي اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التعطر والتطيب، وتعظيم المسجد، إن كان عند التطيب قاصدا له، أو ترويح من يجلس إليه، أو دفع الروائح الكريهة التي تؤدى إلى إيذاء مخالطيه، حتى يحسم عن نفسه باب الغيبة عن المغتابين إذا اغتابوه بالروائح الكريهة، فيعصون الله بسببه، فمن تعرض للغيبة وهو قادر على الاحتراز منها فهو شريك في تلك المعصية.
ثم ذكر عن بعض الصالحين أنه كان يقول: (إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلى، وشربي، ونومى، ودخولي إلى الخلاء)
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تحول من كل شيء يحصل لك في حياتك عملا صالحا، حتى لا يضيع عليك أجره.
ومن الأمثلة التي ذكرها الصالحون لذلك نية من ضاع منه شيء؛ فبدل التأسف والتحسر، يحوله إلى صدقة في سبيل الله، وبذلك ينال ثوابه.. ولو أنه اكتفى بالجزع، لم ينل إلا سيئات ذلك الجزع وآلامه.
وهكذا ينوي بالسكوت عن خصومه، وعدم الرد عليهم، نيل الأجور العظيمة التي تناله بسبب ذلك، وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن العبد ليحاسب فتبطل أعماله لدخول الآفة فيها حتى يستوجب النار، ثم ينشر له من الأعمال الصالحة ما يستوجب به الجنة، فيتعجب، ويقول: يا رب هذه أعمال ما عملتها قط: فيقال: هذه أعمال الذين اغتابوك وآذوك وظلموك) ([25])
وهكذا يمكنك أن تملأ نفسك بالبواعث الطيبة على العمل الصالح، لتنال أجورها حتى لو قصرت في أدائها، وقد روي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (من جرح جرحا في سبيل الله جاء يوم القيامة لونه لون الزعفران، وريحه ريح المسك عليه طابع الشهداء، ومن سأل الله الشهادة مخلصا أعطاه الله أجر شهيد، وإن مات على فراشه ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة) ([26])
وعن الإمام الصادق أنه قال: (إنّ العبد لينوي من نهاره أن يصلّي بالليل فتغلبه عينه فينام، فيثبت الله له صلاته، ويكتب نفسه تسبيحا، ويجعل نومه عليه صدقة)([27])
وقال: (إنّ المؤمن ليهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإنّ المؤمن ليهمّ بالسيّئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه)([28])
بل ورد ذلك في حديث قدسي، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل كتب الحسنات، والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن عملها، كتبت له عشر حسنات، إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن هو هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له سيئة واحدة) ([29])
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فإياك أن تقيس قياس إبليس، فتتوهم أن المعصية يمكنها أن تتحول بالنية الصالحة إلى طاعة؛ فذلك غير صحيح؛ بل إن ذلك سخرية بالشريعة ومحادة لله تعالى.
ولذلك؛ فالغيبة تظل غيبة، ولو قصدت بها تأليف قلوب الذين تجلس إليهم، وتطييب خواطرهم، ذلك أنك تطيب خواطرهم بما تسيء به إلى خواطر آخرين.. وهكذا، فإن لكل معصية من المثالب والعيوب ما لا يمكن للنية الطيبة أن تحولها إلى عمل صالح، وهي في ذلك مثل روائح المستنقعات التي لا تزيدها الأمطار إلا انتشارا وقوة.. فاحذر أن يغرك الشيطان عن نفسك، ويدخل إليك من خلال تكثير النيات أو تصحيحها إلى ما يفسدها، أو يفسد عملك كله.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن أكبر ما يهتم له الشيطان إفساد نيتك، ولذلك يستعمل كل حيله في ذلك، ومن ذلك أن يأتي للمصلّي المخلص في صلاته؛ فيقول له: حسّن صوتك حتّى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح ولا يزدريك ولا يغتابك([30]).
فإن فطن المصلي لهذه الحيلة، وأخذ حذره منها، يقول له: أنت متبوع ومقتدى بك ومنظور إليك، وما تفعله يؤثر عنك، ويتأسّى بك غيرك؛ فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت، وعليك الوزر إن أسأت؛ فأحسن عملك بين أيديهم؛ فعساهم يقتدون بك في الخشوع وتحسين العبادة.
وهكذا يستعمل الشيطان كل أدوات الحيلة حتى يصرف المصلي عن إخلاص نيته لربه، لذلك كان حفظ الأعمال بالإخفاء والستر أجدى لها وأكثر أمنا وحيطةكأك.
ولهذا ورد في الحديث الأمر بالإتيان بالنوافل في البيت، باعتبار أن الفرائض مما يتساوى فيه الناس جميعا، ولذلك قد لا يتطرق إليها الرياء، مثلما يتطرق للنوافل.
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبوراً) ([31])
وروي أنه صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ حجرة من حصير في رمضان فصلى فيها ليالي، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه؛ فلما علم بهم جعل يقعد فخرج إليهم، فقال: (قد عرفت الذي رأيت من صنيعكم فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) ([32])
بل إن الله تعالى ذكر ذلك في الصدقات؛ فقال: {نْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [البقرة: 271]
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله)، وذكر منهم: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، ومنهم الذي (ذكر الله خاليا ففاضت عيناه) ([33])
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (صدقة السر تطفئ غضب الرب) ([34])
وقد روي عن الإمام السجاد أنه كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: (إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب)، وروى بعضهم عنه قال: (كان ناس من المدينة يعيشون، لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين، فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل)، وقال بعضهم: (ما فقدنا صدقة السر حتى توفي علي بن الحسين)([35])
وروي عن بعض الصالحين أنه صام عشرين سنة، ولم يعلم به أهله؛ كان يأخذ غداءه ويخرج إلى السوق، فيتصدق به في الطريق، فأهل السوق يظنون أنه قد أكل في البيت، وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في السوق.
وقال آخر يصف بعض الصالحين: (إن كان الرجل يجمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل يفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته، وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركت أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا، لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]) ([36])
ومع ذلك كله؛ فإن إبداء الصدقات أو الأعمال الصالحة إن تجردت نية صاحبها لله تعالى، ورأى أن في إبدائها دعوة لغيره، وخاصة إن كان محل قدوة، فلا حرج في ذلك، بل قد ينال الأجر العظيم إن لم يكن ينوي بذلك إلا الدعوة إلى الله، لا الدعوة لنفسه.
وقد روي في الحديث عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء قوم عراة مجتابي النمار ـ أي لابسيها ـ قد خرقوها في رءوسهم مقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1)، والآية التي في سورة الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18) تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة.. فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهلل كأنه مدهنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)([37])
وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لعبد جعله الله مفتاحا للشر مغلاقا للخير)([38])
هذا جوابي عن سؤالك ـ أيها المريد الصادق ـ فاحرص على أن تتدبر فيما أوردته عليك من المعاني؛ فدرب نفسك عليها، واستحضرها عند كل عمل تريد القيام به، وسترى أن الله تعالى يشكر لك ذلك الاهتمام بتحصيل النية الصالحة، فينزل عليك من أنوارها ما يمتلئ له قلبك من غير عنت ولا مشقة.
فكما أن النية هي
روح كل عمل، وسره، فكذلك نيتك في تحصيل النية، وحرصك على نفي الرياء، ومجاهدتك
لنفسك في نهيها عن كل الشوائب التي تشوب عملك، سيكون وسيلة لك إلى الله تعالى ليهديك
إليها، ويمن بها عليك.. فكل شيء بالله ومن الله وإلى الله.. والصادق هو الذي لا يعتمد
على نفسه في تحقيق الهداية، وإنما يعتمد على ربه، ويتضرع إليه كل حين، لينقذه من نفسه
وأهوائها، ويخلصه من كل ما يحول بينه وبينه.
([1]) جامع السعادات، ج3، ص: 108.
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) الكافي ج 2 ص 85 تحت رقم 5.
([4]) الترمذي(2325) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
([5]) رواه الدارقطني.
([6]) البخاري (2838) و(2839)، و(4423)، وابن أبي عاصم في الجهاد (264)، وأبو يعلى (3839)
([7]) النسائي في السنن ج 6 ص 24.
([8]) الطبراني في مسند الشاميين.
([9]) رواه أبو إسحاق الفراوي مرسلا في السنن.
([10]) من المعاني التي فسر بها الحديث: أن المؤمن بمقتضى إيمانه ينوي خيرات كثيرة لا يوفق لعملها، إما لعدم تمكنه من الوصول إلى أسبابها، أو لعدم مساعدة الوقت على عملها، أو لممانعة رذيلة نفسانية عنها بعد الوصول إلى أسبابها، كالذي ينوي إن آتاه الله ما لا ينفقه في سبيله، ثم لما آتاه يمنعه البخل عن الإنفاق، فهذا نيته خير من عمله، وأيضا المؤمن ينوي دائما أن تقع عباداته على أحسن الوجوه، لأن ايمانه يقتضي ذلك. ثم إذا اشتغل بها لا يتيسر له ذلك. ولا يأتي بها كما يريد، فما ينويه دائما خير مما يعمل به في كل عبادة، وإلى هذا أشار الإمام الباقر بقوله: (نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأنه ينوي الخير ما لا يدركه، ونية الكافر شرّ من عمله، وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه)، وبه فسر كذلك قول الإمام الصادق الذي ذكرناه. [انظر: جامع السعادات، ج3، ص: 121]
([11]) الطبراني في معجمه الكبير (6/185) وأبو نعيم في الحلية (3/255)، الكافي ج 2 ص 69 ح 2.
([12]) علل الشرائع: 1/ 524.
([13]) مسلم (2985)
([14]) الكافي، ج 2 ص 293.
([15]) الكافي، ج 2 ص 293.
([16]) الكافي، ج 2 ص 293.
([17]) المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج8، ص: 127.
([18]) الوسائل، ج 1 ص 48 ح 8.
([19]) ابن حبان في الضعفاء، وللبيهقي في الشعب نحوه.
([20]) مسلم (251)
([21]) أبو الشيخ في العظمة.
([22]) أبو الشيخ في العظمة.
([23]) التهذيب ج 1 ص 324.
([24]) إحياء علوم الدين، 5/171.
([25]) أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس.
([26]) ابن حبان (3191) و(4618)، والطبراني في الكبير، 20/ (206)، والبيهقي في السنن 9/170.
([27]) الوسائل ج 1 ص 53 ح 15 وص 54، العلل ج 2 ص 524.
([28]) الوسائل ج 1 ص 51.
([29]) أحمد (5/ 384)
([30]) انظر: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، ج8، ص: 134.
([31]) رواه البخاري (422) ومسلم (777)
([32]) رواه البخاري (698) ومسلم (781)
([33]) البخاري، (1/ 440)، برقم (1423)، وصحيح مسلم، (2/ 715)، برقم (1031)
([34]) المعجم الصغير، للطبراني (2/ 95)
([35]) سير أعلام النبلاء، (4/ 386).
([36]) تفسير ابن كثير، (2/ 221).
([37]) رواه مسلم وغيره.
([38]) رواه ابن ماجه وغيره.