الصبر والصلاة

كتبت إلي ـ أيها المريد الصادق ـ تشكرني على رسائلي التي أجبتك فيها عن أسئلتك حول [مثالب النفس الأمارة]، وذكرت لي أنها ـ بفضل الله وعونه ـ أثرت فيك تأثيرا كبيرا؛ فصرت تعرف ما كنت تجهله من المثالب والعيوب، وتعرف منابعها وثمارها وكيفية مواجهتها وعلاجها..
وأخبرتني أن ذلك العلم لم يبق محصورا في دائرة عقلك، وإنما امتد إلى مراكز إرادتك وعزيمتك؛ فراح يدعوها لتطهير نفسك منها، وحمايتها من كل مسالك الشيطان والهوى المؤدية إليها.
وأخبرتني أن ذلك جعلك أكثر ورعا؛ فصرت تتوقف قبل عقد أي نية، أو النطق بأي قول، أو القيام بأي عمل، أو اتخاذ أي موقف، قبل أن تعرف حكم الله فيه، وعلاقته بتلك المثالب، حتى لا يكون صادرا من هواك، أو نفسك الأمارة.
وأخبرتني أنك صرت تلوم نفسك كثيرا، وتحاسبها على النقير والقطمير، وتترجى كل من شعرت أنك آذيته بأن يبرئ ذمتك، وتسارع لكل من قصرت في حقه بالوفاء بما يطلبه الواجب منك.
لكنك بعد هذا ذكرت لي أن همتك أعلى من أن تتوقف عند تطهير نفسك من خبثها ومكايد الشيطان المتربصة بها.. وأنك تطمح إلى أن تسير في طريق الأولياء والصالحين والصديقين، لتنزل المنازل التي نزلوها، وتتنزل عليك المعارف والمواهب التي تنزلت عليهم.
وطلبت مني لذلك أن أذكر لك المناهج العملية المؤدية لذلك، وأن أقتصر فيها على ما دل عليه الدليل، ووافقت عليه الشريعة، ونصت عليه النصوص المقدسة، أو أشارت إليه.
وقد ذكرت لي أنك سترسل لي رسائل تطلب مني توضيح الطرق والمناهج المرتبطة بذلك، مثلما فعلت مع رسائلك حول مثالب النفس الأمارة.. وطلبت مني أن يتسع صدري لذلك، وألا يضيق بما قد أبديه لك من نقد أو عتاب حول ما قد تنفر نفسي منه، أو أشعر أنه يصطدم مع ما أفهمه من الشريعة ونصوصها المقدسة.
ثم ختمت رسالتك لي بطلب أن أذكر لك ما دلت عليه النصوص المقدسة من المجامع التي تجتمع فيها كل المناهج والمدارس والطرق الشرعية للسير إلى الله، حتى تكون معينة لك على فهم الطريق إجمالا، قبل معرفته تفصيلا.
وقد سرتني ـ أيها المريد الصادق ـ رسالتك كثيرا، وخاصة ما ذكرت لي فيها من عزمك على نقد ما تراه مخالفا للشريعة؛ وهذا ظني بك؛ فلا ينبغي للمريد الصادق مع الله أن يكون شيخه أولى عنده من ربه أو نبيه أو كتابه أو من جعلهم الله ممثلين للحقيقة وهداة إليها.
وجوابا لطلبك في هذه الرسالة أذكر لك أن الله تعالى ـ برحمته ولطفه ـ وفر لعباده ـ مراعاة لطبائعهم وأمزجتهم وعزائمهم ـ الكثير من المناهج والوسائل والطرق التي إن التزموها، سارت بهم إلى الله تعالى، ورفعت عن عيون قلوبهم كل الحجب التي تحول بينهم وبين الحقائق، ورفعت عن أنفسهم كل الموانع التي تحول بينها وبين إنسانيتها المكرمة، حتى قال بعضهم في ذلك: (لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق)
ولذلك ترى السائرين إلى الله مختلفي الأذواق والأمزجة والمناهج.. ومع ذلك تجمعهم طريق الله الواحدة التي تصفي نفوسهم، وتهذب طباعهم، لتجعلها صالحة للحق، كما عبر بعض الصالحين عن ذلك، فقال:
عباراتنا شتى وحسنك واحد … وكل إلى ذاك الجمال يشير
وقال الآخر مبينا الوئام الموجود لدى السائرين في طريق الله مقارنة مع النزاع الموجود لدى المتكلمين والفلاسفة وغيرهم:
وكم بين حذّاق الجدال تنازع … وما بين عشّاق الحبيب تنازع
وعبر آخر عن ذلك بقوله: (تعدد وجوه الحسن، يقضي بتعدد الاستحسان)
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى ذلك، فقال: (يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقةٌ، فكل تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروف صدقةٌ، ونهيٌ عن المنكر صدقةٌ) ([1])
وقال: (الإيمان بضعٌ وسبعون، أو بضعٌ وستون شعبةً: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان) ([2])
وغيرها من الأحاديث التي تدل على كثرة أبواب الخير، وأن كل من سلك بابا منها، يمكنه أن يكون وسيلته إلى الله تعالى، ووسيلته إلى تهذيب نفسه.
واعلم ـ أيها المريد الصادق ـ أن ابتغاء الوسائل المؤدية إلى تهذيب النفس وتزكيتها وترقيتها واجب شرعي لا يقل عن الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها.. ذلك أن الإنسان لا يمكنه أن يتحول إلى الصيغة المراد أن يكون عليها، إلا بعد أن يقوم بذلك.
وقد صرحت النصوص المقدسة بوجوب استعمال كل الوسائل والمناهج المؤدية لذلك، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 35]
فقد قرن الله تعالى في هذه الآية الكريمة تقوى الله بابتغاء الوسيلة والجهاد في سبيل الله.. ليبين أنه لا يمكن تحقيق التقوى إلا باستعمال الوسائل المؤدية لذلك، والتي قد تستدعي الكثير من المجاهدات حتى تتخلص النفس من رعونتها، وتستقيم في السير إلى ربها.
وهكذا وصف الله تعالى عباده الصالحين، وحرصهم على القرب منه، وابتغاؤهم لذلك كل الوسائل، فقال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } [الإسراء: 57]، وهو يدل على أن وصولهم إلى تلك المراتب لم يكن إلا باستعمالهم الوسائل التي أتاحت لهم ذلك.
وهذه سنة الله تعالى في خلقه؛ فلكل شيء وسائله المؤدية إليه، ولا يمكن تحقيق المقاصد من دون الوسائل؛ فلا يمكن أن يتعلم المرء من دون القراءة، ولذلك أمرت الشريعة بالقراءة، فقد قال الله تعالى في أول ما نزل من القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1]
ولا يمكن العلاج من الأدواء من دون استعمال الأدوية، وزيارة الأطباء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما أنزل الله داء، إلا قد أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)([3])
وهكذا تطهير النفس وتزكيتها، والتي أخبر الله تعالى عن ارتباط الفلاح والفوز بها، لا يمكن تحقيقها إلا بالبحث عن الوسائل المعينة لذلك، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 7 – 10]
وهذه الآيات الكريمة تدل على أن النفس طيعة لصاحبها، يمكنه أن يزكيها، كما يمكنه أن ينتكس بها وينزلها بها إلى عوالم لا تمت لها بصلة([4]).
إذا عرفت هذا ـ أيها المريد الصادق ـ فاعلم أن الله تعالى ذكر المجامع التي تؤول إليها كل المناهج والمسالك، لتنضبط بها، حتى لا تصبح عرضة للوسائل التي تسنها الأمزجة والأهواء، وقد يدس فيها الشيطان ما يصرف عن الله ويبعد عنه، بدل أن يقرب إليه.
ومن تلك المجامع ما نص عليه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] والتي وردت بعد الآيات المخبرة عن دور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تزكية أمته، وأمرها بالذكر والشكر اللذين يمثلان علامة التزكية الحقيقية، قال تعالى: { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151، 152]
ومثلها ما ورد في قوله تعالى خطابا لبني إسرائيل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وقد وردت كذلك في معرض بيان التكاليف الشرعية المؤدية للتزكية، قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة: 42 – 44]
وبذلك؛ فإن الآيتين الكريمتين تصفان المجامع الكبرى التي يمكن اعتبارها البحر الذي تجتمع فيه روافد السير والسلوك إلى الله.. أو تنطلق منه.
وقد تأملت ـ أيها المريد الصادق ـ في كل المسالك والمناهج التي اعتبرها السائرون إلى الله، أو قاموا بتنفيذها على أنفسهم، أو على مريديهم، فوجدتها جميعا تنطلق من هاتين الآيتين الكريمتين.. ووجدت مقابل ذلك أن كل البدع والانحرافات التي انحرفت بسير السائرين كان سببها اختلافها مع ما ورد في الآيتين الكريمتين من منهج الاستعانة على النفس.
ولذلك يمكن اعتبار جميع المناهج الشرعية للسير إلى الله مظاهر وتجليات للصلاة والصبر.. وكل منهج خالفهما، يكون منهجا مبتدعا، لأنه خالف الأصول التي أمر الله تعالى بالاستعانة بها.
وبذلك ـ أيضا ـ يمكن اعتبار الصلاة والصبر المدرستين أو الجامعتين اللتين تدرب المنتمين إليها على كل مقررات السير والسلوك..
وذلك لا يعني حرفية الصبر والصلاة في الآيتين الكريمتين، بحيث تختصر مناهج السير فيهما؛ فهذا لا يتوافق مع القرآن الكريم نفسه، ذلك أن الله تعالى اعتبر كثيرا من الأعمال الشرعية من مناهج السير إلى الله، كما قال في جميع الشعائر التعبدية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
وضرب المثل لذلك بالصيام، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
وغيرها من الآيات الكريمة، ومثلها من الأحاديث والروايات التي تدل على أن كل أعمال الخير ليست سوى وسائل للتربية والتهذيب والتزكية والترقية.
ولذلك فإن المراد بالاستعانة بالصبر والصلاة أشمل من أن تختصر في المعنى الحرفي لهما، بل هما يدلان على الأصول المرتبطة بمناهج السير إلى الله، وهما أصلان:
الأول: المجاهدات والرياضات التي تحتاج إلى الصبر، حتى تُهذب النفس، وتبتعد عن رعونتها، وتتحلى بالقيم التي تجعلها أهلا للقرب الإلهي.. ولذلك قدم الله تعالى الصبر على الصلاة.. لأن الصلاة الحقيقية لا تكون إلا بعد تهذيب النفس وتربيتها..
والغرض الأكبر من هذه المجاهدات هو تحقيق القيم الأخلاقية في النفس، حتى تتأدب مع الله ومع أوليائه وخلقه، لتكون أهلا لتنزل الفضل الإلهي.
الثاني: الصلاة، وتعني كل الوسائل المؤدية إلى الصلة بالله، من إقامة الصلاة والذكر والدعاء والمناجاة والتضرع والابتهال والتدبر والتفكر والتأمل وغيرها، وجميعها تؤدي إلى تزكية الروح لتصبح أهلا للمحبة والأنس والتوكل وجميع المنازل التي تنزلها النفس المطمئنة، وتصبح مع ذلك أهلا لتنزل المعارف والمواهب الإلهية.
وكلا الأمرين يحتاج بعضهما إلى بعض؛ فالصبر ومناهجه لا يمكن أن يتم من دون استعمال الصلاة ومناهجها.. ومثل ذلك الصلاة لا يمكن أن تؤتي مفعولها ما لم يصحبها الصبر.
وبناء على هذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تنظر في كل مناهج السير إلى الله، والتي تراها في الواقع، لترى مدى قربها من هذين الأصلين اللذين دل عليهما القرآن الكريم؛ فإن كانا متوافقين معهما؛ فهما شرعيان، وإلا كانا من المناهج المبتدعة.
ومن الأمثلة على ذلك ما يطلق عليه [الخلوة]، والتي يعتمدها بعض السائرين إلى الله؛ فهي إن كانت خلوة وتفرغا للذكر والتقرب إلى الله، ومن غير انقطاع كلي عن الخلق، أو التقصير في أداء التكاليف الشرعية؛ فهي خلوة مشروعة، ذلك أنها مرتبطة بالصلاة، لأنها تحوي ذكر لله، وتحاول التواصل معه، وهي مرتبطة بالصبر لأن فيها مجاهدة للنفس على التفرغ لذلك.
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تسأل عن أي منهج تراه في واقع السالكين، لترى من خلاله مدى صلته بالمنهجين اللذين نص عليهما القرآن الكريم، واعتبرهما من المناهج الكبرى التي لا يمكن أن يقوم بها إلا الخاشعون الصادقون.
وبما أن هذين المنهجين هما قادة المناهج، فسأذكر لك بعض ما ورد حولهما في النصوص المقدسة مما يبين فضلهما، وأهميتهما في السير والسلوك.
مدرسة الصبر:
أما المدرسة الأولى ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مدرسة الصبر، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهميتها وضرورتها للسائرين إلى الله؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، فقد ربط الله تعالى الفلاح بالصبر والمصابرة والمرابطة، وهو لا يعني الفوز بالجنة فقط، وإنما يعني تهذيب النفس وتطهيرها وتطييبها، لأنه لا يدخل الجنة إلا الطيبون الطاهرون.
وهي تشير إلى استعمال كل أنواع الصبر، وفي كل المجالات، ولو تكلفا، وهي تحوي في معناها الكثير من المناهج التي مارسها السالكون إلى الله، كالمشارطة والمعاهدة والمرابطة والمجاهدة والمحاسبة والمعاقبة وغيرها.
ولذلك أخبر الله تعالى أن من صفات الصالحين من عباده [الصبر]، وهو يدل على أنه ركن في شخصيتهم، وأنه لولاه لم يتحقق لهم الصلاح، بل إن الله تعالى أكد ذلك بكونه السبب في صلاحهم، فقال ـ عند ذكر سبب اختياره لأئمة الهدى ـ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة: 24]،وتقديمه للصبر على اليقين دليل على أن اليقين الذي هو أعلى مراتب المعرفة لا يصل إليه إلا الصابرون الذين جاهدوا أنفسهم في الله.
وهكذا وصف الله تعالى الرسل عليهم السلام بالصبر، فقال: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } [الأحقاف: 35]
وأخبر أن كل الأعمال الصالحة تحتاج إلى الصبر، سواء في أدائها، أو في الاستمرار عليها، أو في إقامتها وفق الرضى الإلهي.
ومن ذلك الإحسان الذي هو من المنازل العظمى للنفس المطمئنة، فقد قرنه الله تعالى بالصبر، فقال: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } [هود: 115]، وقال: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90]
وسر ذلك واضح، ذلك أن المحسن الذي يتقن عمله، ويؤديه وفق ما يتطلبه، يحتاج إلى صبر كبير، بخلاف الذي يؤدي عمله من غير مراعاة الإتقان.
وهكذا يقترن الصبر بالتوكل، كما في قوله تعالى: { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 42]، وقال عن الرسل وخطابهم لقومهم: { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12]
وسر ذلك واضح، ذلك أن المتوكل الذي أسند أموره لله ثقة به، وبقدرته المطلقة، لا يستعجل النصر، ولا يتألم إذا لم يهزم أعداؤه أمامه، لأنه يعلم أن تحديد آجال ذلك لله تعالى، بخلاف الذي يفتقد الصبر، والذي ينهار في أقرب فرصة.
وهكذا يقترن الصبر بالصدق والثبات والجهاد وغيرها من صفات الصالحين، كما قال تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [النحل: 110]
وأخبر عن قول السحرة لفرعون: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126]
وأخبر عن قول موسى عليه السلام لقومه:{ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]
وأخبر عن الاختبارات التي أجراها طالوت للذين أرادوا صحبته للجهاد في سبيل الله، ثم بين أنه لم ينجح منهم إلا من كان متسلحا بسلاح الصبر، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة: 249، 250]
وقد أخذ الكثير من السائرين في طريق الله بمنهج طالوت في تربية جنده، عندما أمرهم بالصبر أمام الماء، كما قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ } [البقرة: 249]
فلذلك راحوا يستعملون أنواع المجاهدات التي تتيح لهم تربية أنفسهم على الأخلاق الطيبة، التي لا يمكن التحقق بها من دونها، بل إنهم راحوا يضعون أنواع العقوبات التي ترتبط بالتقصير، حتى يكون ذلك العقاب الدنيوي المحدود رادعا لهم عن العقاب الأخروي.
وهكذا أخبر الله تعالى عن علاقة الصبر بمواجهة كل مثالب النفس الأمارة المرتبطة بالعدوان، وتحقيقها بالسماحة والحلم والعفو والكرم، كما قال تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34، 35]، وقال: { وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]
وأخبر عن علاقة الصبر بالتقوى التي تجتمع عندها كل المكارم، فقال: { بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]
وفي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن المواهب الإلهية التي تتنزل على النفوس المرضية مرتبطة بمدى صبرهم، فقد شرط الله تعالى تنزل المدد الإلهي على المؤمنين بالصبر والتقوى.
ومثل ذلك أخبر عن أنواع كثيرة من الفضل، لم يكن لها من سبب سوى الصبر، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } [الأعراف: 137]، وقال: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [الأنفال: 46]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11]
وغيرها من الآيات الكريمة التي تخبر عن الجزاء العظيم الذي يناله الصابرون، مثل قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 96]، وقال: { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان: 75، 76] ، وقال: { أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54] ، وقال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 12، 13]، وقال ذاكرا خطاب الملائكة عليهم السلام لهم: { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]
ومثلها ما ورد في الأحاديث الشريفة كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض. ومن صبر على الطاعة كتب الله له ستّمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش)([5])
وكل هذه النصوص المقدسة وغيرها تشير إلى كون الصبر دعامة أساسية للتقوى، وأن التحقق به يجعل من صاحبه مستعدا لنيل كل الكمالات، ولذلك ذكر الله تعالى أن الأجور المعدة للذين أدمنوا على الصبر، وأتقنوا التعامل معه، من دون حساب، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]
قد تسألني ـ أيها المريد الصادق ـ بعد هذا عن سر كل هذا الفضل الذي توفر للصبر، وجعله دعامة من دعامات التربية والإصلاح، وجوابا على ذلك أذكر لك أن الصبر هو تلك الملكة الشريفة التي تجعل النفس ثابتة أمام الأهواء؛ فلا تستسلم لها، ولا تذعن لمقتضياتها.. وتجعلها ثابتة أمام المصائب والبلاء؛ فلا تجزع ولا تيأس ولا تقنط.. وتجعلها ثابتة عند التعرض للجهلة؛ فلا تكتفي بكظم غيظها عنهم، وإنما تحلم عليهم، وتعفو عنهم وتحسن إليهم.. وتجعلها ثابتة عند ملاقاة الأعداء، فلا تجبن، ولا يصيبها الخور، ولا تولي الدبر، بل تواجههم بكل شجاعة وقوة وثبات.. وتجعلها ثابتة عند عروض الشهوات؛ فتعف عنها، ولا تستسلم لها، ولا تركن إليها..
وهكذا يمكنك ـ أيها المريد الصادق ـ أن تجد الصبر عنصرا أساسيا في كل عمل صالح، وافتقاده يؤدي إلى كل المثالب التي حذرتنا منها النصوص المقدسة، والتي تحطم الإنسان، وتنتكس به وبطبيعته.
ولهذا عرف الحكماء الصبر بأنه (ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى)، وهم يقصدون بباعث الدين الفطرة الأصيلة التي تريد الأهواء الانحراف بها، والتي جاءت الشريعة الحكيمة للتحذير منها، وبيان الصفات الحقيقية للإنسان، لا الصفات التي يريدها الشيطان والأهواء.
وأما باعث الهوى؛ فهو كل المصادر التي تريد أن تنتكس بالإنسان عن حقيقته، سواء كانت داخلية كغلبة الشهوة والغضب، أو خارجية كوساوس شياطين الإنس والمجتمع.
ولكون الحرب بين هذين الباعثين دائمة مستمرة؛ فإن الصبر هو المدد الذي يظل الإنسان محتاجا إليه كل حين إلى أن يلقى ربه، كما قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 102] ، وهو معنى المرابطة في الصبر الوارد في الآية التي تأمر بالصبر بكل أنواعه.
وسبب الحاجة إلى المرابطة في الصبر هو أن الشياطين تظل مناصرة لباعث الهوى، والذي قد ينتصر على باعث الدين إن افتقد للصبر والعزيمة عليه.
وكما أن الثبات في المعارك مختلف الدرجات؛ فكذلك الصابرون؛ درجاتهم مختلفة بحسب ثبات باعث الدين فيهم، كما عبر بعضهم عن ذلك عند حديثه عن الموقف من الصبر عند الشدائد، فقال: (أهل الصبر على ثلاث مقامات: الأول: ترك الشكوى، وهذه درجة التائبين، الثاني: الرضا بالمقدر، وهذه درجة الزاهدين، الثالث: المحبة لما يصنع به مولاه، وهذه درجة الصديقين)
وروي أن الإمام الباقر قال لجابر، وقد رآه مريضا: كيف تجد حالك؟ قال جابر: أنا في حال الفقر أحب إليّ من الغنى، والمرض أحب اليّ من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة. فقال له الامام: (أما نحن أهل البيت، فما يرد علينا من الله من الفقر والغنى والمرض والصحة والموت والحياة، فهو أحب إلينا)([6])
وهكذا يمكنك أن تجد في كل عمل المراتب المختلفة، والتي تدل على درجة صبر صاحبها؛ فبقدر صبره بقدر مرتبته ودرجته.
مدرسة الصلاة:
أما المدرسة الثانية ـ أيها المريد الصادق ـ فهي مدرسة الصلاة، وقد أشار القرآن الكريم إلى أهميتها وضرورتها في السير إلى الله؛ فقال: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } (العنكبوت:45)
وهي تشير إلى أن من أدوار الصلاة الكبرى التي شرعت من أجلها الدور التطهيري، بنهيها صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ومثل ذلك ما ورد في تهذيب نفس المداوم عليها، كما قال تعالى: { إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19 – 23]
ولهذا ورد في الأحاديث الكثيرة ما يبين دور الصلاة في تطهير الإنسان من الرذائل، والتي قد يكنى عنها بالسيئات والخطايا، ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال مخاطبا أصحابه: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه ؟ )، قالوا : لا يبقي من درنه شيئا، قال : ( فذلك مثل الصلوات الخمس ، يمحو الله بها الخطايا)([7])
فهذا الحديث لا يشير فقط إلى تطهير سجل المؤمن من السيئات، وإنما يشير إلى تطهير نفسه منها أيضا، وذلك بحسب تعامله معها، وحرصه عليها، وخشوعه فيها.. فهي مثل العلاج الذي يقضي على كل الأمراض مهما كانت مستفحلة، لكن بشرط أدائه في وقته، ومع الحمية المناسبة له.
ولا أرى ـ أيها المريد الصادق ـ أي داع لذلك الخلاف الذي انتشر بين الفقهاء حول نوع الخطايا التي تكفرها الصلاة، وهل هي الكبائر أم الصغائر، ذلك أن قوة الصلاة في محو الخطايا تخلف باختلاف اهتمام صاحبها بها، وهي في ذلك تشبه تركيز الدواء، فقد يكون الدواء خفيفا للدرجة لا يمكنه أن يحدث أي تغيير، وقد يتوهم صاحب الدواء أنه يستعمله، لكنه لا يفعل ذلك، وقد تكون قوية شديدة الفاعلية والتأثير، بحيث تغير صاحبها تغييرا كليا، كما ورد في بعض الآثار: (إنّ الرجلين ليقومان إلى الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد، وإنّ ما بين صلاتيهما ما بين السماء والأرض)
وقد روي عن الإمام الصادق أنه قال: (و الله إنّه ليأتي على الرجل خمسون سنة ما قبل الله منه صلاة واحدة، فأيّ شيء أشدّ من هذا، والله إنّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم من لو كان يصلّي لبعضكم ما قبلها منه لاستخفافه بها، إنّ الله لا يقبل إلّا الحسن فكيف يقبل ما استخفّ به)([8]))
ولهذا ورد في الحديث عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأخفها، فقيل له : خففت يا أبا اليقظان فقال : هل رأيتموني نقصت من حدودها شيئا ؟ قالوا : لا قال : إني بادرت سهو الشيطان، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له نصفها، ولا ثلثها ولا ربعها ولا خمسها ولا سدسها ولا عشرها)، وكان يقول : (إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها) ([9])
وروي أنه بينما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا في المسجد إذ دخل رجل فقام فصلّى فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني)([10])
لذلك كانت الصلاة مفتقرة للصبر، لأنها لا يمكن أن تؤدي دورها في التهذيب والإصلاح والتزكية ما لم يجاهد صاحبها نفسه على الخشوع والخضوع وحضور القلب، والتمعن في أسرار كل حركة يتحركها أو قول يقوله أو إشارة يشير بها.
ذلك أن الصلاة ـ أيها المريد الصادق ـ ليست شعيرة تعبدية واحدة، بل هي مجمع من الشعائر التعبدية؛ فكل ركن من أركانها مدرسة قائمة بذاتها، لها دورها في التهذيب والتصفية، كما أن لها دورها في العروج والترقي، ولذلك اعتبرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمود الإسلام، ففي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قال: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصّلاة، وذروة سنامه الجهاد)([11])
وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث بين الصلاة والجهاد، لاحتياج بعضها لبعض؛ فالصلاة الحقيقية تستدعي المجاهدة والرياضة وحضور القلب، والجهاد الحقيقي يحتاج التواصل الدائم مع الله، حتى يتحقق الثبات والسكينة والقدرة على المواجهة.
هذا جوابي المختصر على أسئلتك ـ أيها المريد الصادق ـ وأحسب أن فيها ما طلبته من مجامع المناهج والمدارس التربوية، ويمكنك أن ترسل لي ما تشاء من أسئلة حول تفاصيل ما شرحته لك.
ذلك أن كلا من الصبر والصلاة يتضمنان الكثير من المناهج.. فهناك مناهج
مرتبطة بالصبر وحده.. وهناك مناهج مرتبطة بالصلاة وحدها.. وهناك مناهج مرتبطة بهما
جميعا.. وبهذه المناهج جميعا تتحقق النفس بطيبتها، لتتحول من نفس أمارة أو لوامة
إلى نفس مطمئنة راضية مرضية.
([1]) رواه مسلم.
([2]) رواه البخاري ومسلم.
([3]) البخاري (7/158)، وابن ماجة (3439)
([4]) وهذا معنى [دساها]، أي نقَّصها و أخفاها و أخملها بالفجور و الكفر، و الدسّ: إدخال الشيء في الشيء بضربِ من الإكراه.
([5]) الكافي ج 2 ص 75 .
([6]) جامع السعادات، ج3، ص: 285.
([7]) البخاري- الفتح 2 (528) ومسلم (667)
([8]) التهذيب ج 1 ص 204.
([9]) أحمد وأبو داود والنسائي .
([10]) الكافي ج 3 ص 268 ، و التهذيب ج 1 ص 204.
([11]) الترمذي (2616) وابن ماجة (3973) . وأحمد (5/ 231، 237، 245)